“لقد وضعونا في مأزق” .. عن كواليس يوم الاتفاقية على الوحدة بين مصر وسوريا
-
محمد فهمي سلامة
كاتب صحفي مصري له الكثير من المقالات النوعية، وكتب لعدة صُحف ومواقع إلكترونية مصرية وعربية، ويتمنى لو طُبّقَ عليه قول عمنا فؤاد حدّاد : وان رجعت ف يوم تحاسبني / مهنة الشـاعر أشـدْ حساب / الأصيل فيهــا اسـتفاد الهَـمْ / وانتهى من الزُخْــرُف الكداب / لما شـاف الدم قـــال : الدم / ما افتكـرش التوت ولا العِنّاب !
كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال
يعرف الكثيرين عن الوحدة بين مصر وسويا (الجمهورية العربية المتحدة) قشور الأمور ، أبرزها أنها أُبرمت في عام 1958 بين الرئيس المصري جمال عبد الناصر ، والسوري شكري القوتلي .. عادةً ما يتم معالجة الموضوع على إن الأمر كان سهلًا سهولة شُرب الماء ، ولا يتوغل الأغلبية ممن يناقشون تلك الصفحة التاريخية المهمة في مصر وسوريا ، لكن أوراقًا من صفحات كتاب الصحفي الكبير ، فتحي رضوان، “72 شهرًا مع عبد الناصر” فككت تلك الشفرة ، وكشفت بعضًا من الصورة الضبابية لكواليس أيام التجهيز والتحضيرات الأخيرة لإبرام اتفاق الوحدة بين البلدين .. وقال فيها :
“كان ذلك في اليوم الحادي والثلاثين من يناير 1958 ، وعلى الرغم من أن آخر شهر يناير ، أول شهر فبراير ، في القاهرة ، يعتبر شهور البرد ، إلا أن ذلك اليوم كان مشمسًا ، ودفئًا ، كأنه من أيام الخريف الجميل في مصر ، الذي يعادل أيام الربيع في أوروبا , وكان اجتماع مندوبي الدولتين والشعبين : مصر وسوريا .. في قصر القبة ، في ضاحية غير بعيدة عن قلب العاصمة ، وتوافد المندوبون إلى حديقة القصر الجميلة ، وهي الحديقة التي أنشأها الخديوي اسماعيل منذ قرن أو يزيد . وقد وقفت في شرفة الدور الأول من أدوار القصر ، أنظر إلى المندوبين السوريين يتقدمون نحو القصر في خطى بطيئة ، وليس على وجوههم أي انفعال ، فلا هم في فرح ولا هم في حزن ، ولا هم في توجّس .. كأنهم مستسلمون لقدر غير واضح . وقد بدأ لي من خطى ” صبري العسلي” – بصفىة خاصة – أنه لا يجد فيما يجري .. أو فيما يعد ، ما يدعو إلى الابتهاج والنشاك ، وأنه لو استطاع أن يمنع وقوع هذا الذي يجري .. لما تأخر !!
أما الجانب المصري .. فقد كان في حال آخر . كان القلق ، وانشغال البال ، والحيرة ، هي المشاعر السائدة . وفي حجرة من حجرات القصر سمعت “علي صبري ” يقول لآخر : “لقد وضعونا في مأزق” .. فقد قال السوريون أنه إن لم تتم الوحدة ، سقطت سوريا في يد الشيوعيين .
ولعل من طرائف التاريخ أن الذي كان يقول ذلك ، هو الضابط الذي قيل فيما بعد ، أنه السياسي الذي وقع عليه اختيار الاتحاد السوفيتي ليقود السفينة المصرية – أي سفينة سياسية مصر ! ، أما أنا .. فقد كان لي أزمة خاصة بي ، فقد ترددت في أن ألبي الدعوة إلى “اجتماع القبة” لسبب لا يمت بصلة إلى موضوع الاجتماع ، أي إلى موضوع الوحدة المصرية السورية ولا لأي أمر آخر يتصل بالرجال الذين اجتمعوا في هذا المكان .. سواء كانوا من الفريق المصري أو من الفريق السوري ، بل لأمر آخر وقع بالصدفة في اليوم السابق لهذا الاجتماع . ولذلك ، لقد بادرت “عبد الناصر” خين سألني : “ما رأيك في موضوع الوحدة؟” قائلًا :
- في رأبب أنه ما كان علي أن أحضر اليوم .
ففهم “عبد الناصر” أن هذا الرد معناه أني معترض على الوحدة إلى حد النفور من مجرد الاجتماع المخصص لتوقيع مراسمها . ولكني أضفت قائلًا :
- كيف يمكن أن ألبي الدعوة لهذا الاجتماع ، وهو مقصور على الوزراء وأنا لم أعد وزيرًا ؟
فعقد عبد الناصر ما بين حاجبيه ، وهو يكاد يقول لي “إن المناسبة تسمح بالمزاح” . ولكني لم أدع له فرصة للاستفسار . فقلت له :
- لقد أصدرت أمس قرارًا جمهوريًا يا بعزلي .
واسترسلت في الكلام :
- تذكر سيادتك أنني اقترحت إدخال تعديل على “قانون المؤسسات العامة” لأن القانون القائم يضمن “للمؤسسات العامة” استقلالًا تاما عن الوزير ، وهذا الاستقلال هو ركن من أركان نظام هذه المؤسسات خارج مصر ، ولكن الأوضاع الدستورية في مصر لا تسمح بهذا الاستقلال ، لأن الوزير هو المسئول عن تسيير وزارته ، فإذا حللنا هذه الوزارة إلى مؤسسات ، وجعلنا كل مؤسسة دولة قائمة بذاتها ، لا يملك الوزير عليها سلطانًا ، كانت مسئولية الوزراء عبثًا لا معنى له ، وانعدمت وسيلة مراقبة ومساءلة هذه المؤسسات .. ولذلك فأنا أريد أن أضيق نطاق تدخل الوزير في توجيه أعمال المؤسسات بتقرير حقه في الاعتراض المحدد المكتوب على قرار بعينه يصدره مجلس إدارة المؤسسة .. فإن تمسك المجلس – ممثلًا في ثلثي أعضائه – بالقرار محل الاعتراض ، تحمل الوزير المسئولية ، وأصبح واضحًا أن قراره كان محل معارضة المجلس . وهذا يجعل الوزير حذرًا في الإصرار على رأيه ، ويبقى المسئولية الوزارية في حدودها .. وأذكر أن هذا النظر من جانبي كان على رأيه ، ويبقى المسئولية الوزارية في حدودها .. وأذكر أن هذا النظر من جانبي كان يحمل موافقة من سيادتك ، ومن مجلس الوزراء ، ومن لجان مجلس الأمة المختصة . وقد أرسلنا التعديل بقرار جمهوري منك إلى المجلس ، وتحدده لنظره جلسة . إلا أنني فرجئت بالأمس وأنا في المجلس ، بأن قرارا جمهوريًا آخر صدر منك بسحب القرار الجمهوري الأول الذي وافق على التعديل الذي اقترحته . لم أسمع بهذا القرار يا سيادة الرئيس ، ولم يخطرني به أحد . ولم أعرف ما الذي دعا إليه .. ومعنى ذلك أن سياستي ، أو تصرفاتي ، ليس محل موافقتك ورضاك ، وأنني حصلت – بطريقة ما – على هذه الموافقة .
الكاتب
-
محمد فهمي سلامة
كاتب صحفي مصري له الكثير من المقالات النوعية، وكتب لعدة صُحف ومواقع إلكترونية مصرية وعربية، ويتمنى لو طُبّقَ عليه قول عمنا فؤاد حدّاد : وان رجعت ف يوم تحاسبني / مهنة الشـاعر أشـدْ حساب / الأصيل فيهــا اسـتفاد الهَـمْ / وانتهى من الزُخْــرُف الكداب / لما شـاف الدم قـــال : الدم / ما افتكـرش التوت ولا العِنّاب !
كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال