رسالة إلى ولدي .. تحطيم الأصنام
-
أسامة الشاذلي
كاتب صحفي وروائي مصري، كتب ٧ روايات وشارك في تأسيس عدة مواقع متخصصة معنية بالفن والمنوعات منها السينما وكسرة والمولد والميزان
كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال
إلى ولدي علي.. لم يكره والدك أبداً شيئاً مثلما كره الاستيقاظ مبكراً، أعرف أنك مثله، ولأن المدرسة ارتبطت في ذهني بالاستيقاظ المبكر كرهتها للوهلة الأولى وكرهت معها عصير البرتقال الذي حرصت جدتك على أن تسقيني إياه كل صباح لمقاومة نزلات البرد، سألتني كثيراً لماذا لا أحب عصير البرتقال وهذه هي الإجابة يا صغيري.
لكن هذا لم يكن السبب الوحيد لكراهيتي للمدرسة، ولكن إصرار المعلمين على الإملاء ووضع رؤوسنا داخل قوالب معدة سلفاً، كان أزمتي الكبرى التي لم أفهمها في البداية.
في الحضانة تحكي المعلمة قصصاً عن سندباد البطل الأسطوري، ولكني لا أراه سوى مجرد لص ونصاب لف العالم من أجل الاستيلاء على خيراته، تحكي أيضاً عن سندريلا وحذائها الضائع فلا أحب تفاهة أمير أحب امرأة في ليلة ولم يتذكر وجهها ولم يدله عليها إلا حذاء، مجرد حذاء.
اعتراضاتي في الحضانة على تلك الحواديت جعلتني معزولاً بعض الشيء عن رفاقي، لهذا بدأت في تأسيس عالمي الخاص مع أصدقاء وهميين وأغطية زجاجات البيبسي وكوكاكولا وغيرها من المهملات.
الإهمال قد يجعلنا نتعاطف مع كل مُهمَل، لكني تعلمت بعدها أن أتعاطف مع كل المهملين حتى لو لم أكن مهملاً.
أما في الابتدائية فقد بدأ المعلمون في التأسيس لنظرية الطالب المتفوق، والتي لم يكن للدرس فيها نصيب يزيد عن 30٪، فقط هذا الطالب الذي يحبه المعلم ويرشده عن المشاغبين وما يقولونه عنه ويقف على الفصل في غيابه للإبلاغ عن المتحدثين، كذلك هو الطالب الذي يشتري أغلى هدية في عيد الأم للمدرسات، هذا الطالب الذي أظنه مسؤولاً رفيعاً الآن كان دائماً ألد أعداء والدك وأظنه ما زال.
في الابتدائية بدأت أرفض الحشو والتنميط، بدأت القراءة حيث وجدت في مكتبة جدك وأعمامك جنتي الخاصة في الابتدائية عرفت للمرة الأولى أن كتب المدرسة ليست مقدسة وأن المعلمين ليسوا أنصاف آلهة وأن الكل يمكنه أن يخطئ.
كان الدرس الأول للتغيير هو إيماني أن الله لم يخلق بشراً لا يخطئ، تعلمت بعدها بكثير الدرس المكمل الذي يقول إن خير من يخطئ هو من يبحث عن الحقيقة طيلة الوقت ويبقى قادراً على الاعتذار والتراجع لصالح الحق لا لصالح نفسه، وأن الخطأ هو البداية الحقيقة لأن تكون إنساناً عن حق.
في الاعدادية تغير الوضع تماماً، كان والدك قد أيقن أن المدرسة مجرد طريق لما بعدها ولأن الطريق رحلة فلابد أن تكون الرحلة لطيفة ولكي تكون لطيفة علي أن أمارس ما أحبه فيها بكل طاقتي.
تفرغت للكرة ولعبها وهز رأسي للمعلمين أثناء الحصص بينما أقرأ في آخر “دكة” رواية جديدة، المدهش أنني كنت أسجل درجات عالية جعلتني من المتفوقين اعتماداً على ذاكرتي السمعية التي تكتفي بسماع الموضوع مرة واحدة حتى ولو بنصف تركيز، معلومة لم أتفوق سوى في الإعدادية حتى لا تتخيل يوماً أنني كنت من المتفوقين.
المدهش في تلك الفترة هو ذلك الصيف الذي سمح فيه والدي لي بالعمل للمرة الأولى، بائع بطيخ، يذهب كل صباح إلى “الغيط” ليجمع البطيخ بنفسه مع ابن عمه ويركبا في الصندوق الخلفي لسيارة نصف نقل يقودها رجل يتغير يومياً، يجوبا أنحاء المركز الذي تقع فيه القرية التي ولد فيها جدك حيث اعتاد والدك أن يقضي إجازته الصيفية كل عام.
انشغلت في الفترة الأولى بتعلم كيفية تمييز البطيخة الحلوة من الرديئة، وكيف يمكنني كبائع محترف أن أعرف البطيخة “المرملة” بمجرد لمسها.
المدهش أنني اكتشفت أن أغلب الناس يعتقدون أنهم يعرفون هذا، وأن نصائح البائع قد تقودهم لاختيار ثمرات أخرى، لكن المهم أنه من خلال ما يزيد عن 60 نهاراً قضيتها أنادي “مين يشتري البطيخ المرمل؟” وبأجر لا يزيد عن 3 جنيهات يومياً قد قابلت مئات البشر والحواديت التي استخدمتها بعد ذلك في رواياتي، في تلك الرحلة القصيرة نسبياً اكتشفت سحر حكايات الناس وتكويناتهم وعاداتهم الشخصية.
أحدهم كان يقبل البطيخة 3 مرات قبل أن يشتريها، فقط لأن زوجته تعشق البطيخ.
كنت مقبلاً على العالم بنهم وشغف، كنت قد بدأت في رحلتي الخاصة لكني لم أكن عرفت هذا بعد، رحلتي التي استمتعت فيها من كل خطأ ضعف ما استمتعت بأي شيء آخر، تلك التي علمتني أخطاؤها ضعف ما تعلمت من شيء آخر، لا أعرف لماذا أبدو في هذه الرسالة تحديداً مثل أولئك المعلمين الذين يستمتعون بإلقاء النصائح، يبدو أن للسن حكمه، علي أن أتعلم أن أعذرهم وعليك ألا تتبعني أبداً.
أخيراً في الثانوية العامة ومثل أي مراهق مشغول بتصفيف شعره وملابسه وعدد المعجبات به وتلك المشاهد الساخنة في التلفزيون من خلال ثلاث قنوات فقيرة لم يهمني الدرس كثيراً لأنني في الأساس قضيت السنوات الثلاث بين السينما ورصيف محطة المعلمين للمترو وحجرة ناظر المدرسة، ولنا في هذا عودة.
كل ما سبق كان مجرد تمهيد يا ولدي، اقرأه فقط على سبيل المعرفة ولا تلتفت إليه أثناء رحلتك الخاصة، خذ ممن حولك ما تراه يصلح لك واترك ما لا يصلح، لك وحدك الاختيار.
لكن الأهم في نهاية تلك الرحلة أنني وقعت في الحب للمرة الأولى، صرت للمرة الأولى عاشقاً، صار لدي انتماء ما لغيري وغير عائلتي وبلادي.
حبيبتي الأولى كان اسمها شيرين، أنت تعرفها جيداً، حبيبتي الأولى كانت والدتك.
ولهذا قصة أرويها لك في الرسالة المقبلة.
كل حبي
والدك
إقرأ أيضاً
يصنعون الأصنام ولدينا ذاكرة السمك..فماذا نحن فاعلون؟
الكاتب
-
أسامة الشاذلي
كاتب صحفي وروائي مصري، كتب ٧ روايات وشارك في تأسيس عدة مواقع متخصصة معنية بالفن والمنوعات منها السينما وكسرة والمولد والميزان
كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال