همتك نعدل الكفة
804   مشاهدة  

كمائن وقناصون.. قراءة في رواية “موسم صيد الغزلان” للكاتب “أحمد مراد”

صيد الغزلان


المآل عند المؤمنين والملحدين:

منذ أن تم الترويج العقائدي لنظرية سرمدية الأرواح مقارنة بمحدودية أعمارنا في عالم وجودنا الحالي والتي تكاد لا تذكر كرقم أمام لا نهائية عمر الروح، والبشرية في تساؤل مستمر: أمن العدل أن يكون العقاب والثواب على بضع عشرات من السنين نعيشها في شقاء وأمراض ومعاناة لترمى أرواحنا في نهاية المطاف في قعر الجحيم..؟! أو نكون مؤمنين خارقين لدرجة العصمة لكي نحظى بنعيم مشروط.. طبقي.. وكأن الطبقية تلاحقنا حتى في مآلاتنا.. والطريف هنا أن حتى هذه الطبقية موجودة في النار..!! ولعل أهم تفسير لهذه الطبقية – حسب المؤمنين بها – هو وجود العدل الإلهي في الثواب والعقاب الذي عرفته البشرية أول ما عرفته في مدونات الفراعنة عن ميزان القلب في “كتاب الموتى” كترجمة حديثة، أو “الخروج إلى النهار” كمصطلح فرعوني قديم، ويتم فيه وزن قلب الميت لمعرفة ما فعله في دنياه من خير أو شر. والميزان هنا متفاوت بطبيعة الحال، إذ لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها وبذلك تقضي إلهة العدل “ماعت” بريشتها “معات” في محكمة الآخرة أمام “أوزيريس”، فيصدُر الحكم على الميت. والتفاوت هنا، في الميزان، كدلالة، يحيل إلى الطبقية كما لا يخفى على أحد.

سؤال المآل سؤال وجودي ضخم لا نملك يقين الإجابة عليه لأننا في جانبٍ؛ لا نعلم ماهية الروح أولاً، وثانياً لأن البعث خاضع لجدلية وجودية لا تجيب عنها إلا نظريات الأديان، والأديان بطبعها خاضعة ليقين وإيمان خاصين بالمؤمنين وحدهم دوناً عن بقية الخلق، وهو على كل حال إيمان نقلي غير مقنع لمن لا تبعية دينية في قلبه. وفي جانب آخر لا نجد تفسيراً مقنعاً لمعتنقي نظريات الانشطار الكوني كصيرورة ومن ثم نظرية النشوء والارتقاء كسيرورة وضعت قواعد تطور الجنس البشري حسب داروين أو غيره من معتنقي نظريات مشابهة في ركونها إلى الطبيعة.. وهي بهذا تنفي المآل آنف الذكر بصيغته السابقة – الدينية – وتستبدله بمآل من نوع آخر يصفه الكاتب “أحمد مراد” في رواية “موسم صيد الغزلان” على لسان “نديم” بطله الملحد بـ “ماذا لو لم يوجد [إله]؟ ماذا لو ذهبنا إلى هناك ففوجئنا بالعدم؟ أو استقرت أرواحنا في برزخ، معلقة إلى ما لا نهاية مثل شظايا النيازك في الفضاء” (ص 282)

 

تجربة الملاذ وفكرة وجود الشيطان:

يخوض “نديم” بطل رواية “موسم صيد الغزلان” تجربة الملاذ لا لكي يثبت وجود الإله رغم إنه كملحد، الأشد حرصاً على معرفة الحقيقة والتسليم بها إن وجدها كما يدعي: “الملحد هو أكثر إنسان مهووس بمعرفة الإله” (ص332). والبحث في الدلالة اللغوية لمفردة “هوس” يغني عن قول الكثير في هذا المقام؛ أما عن “نديم” نفسه فبحثه العلمي عن الشيطان أكبر من أن تستوعبه أي تجربة روحية.

إذن.. يدخل “نديم” تجربة الملاذ لسببين لا علاقة لهما بالإله.. السبب الأول كصائد غزلان بلع الطعم الذي دبره وخطط له “طارق هارون”. وفي الملاذ يكتشف “نديم” أنه عاش حيوات متعددة قبل حياته الحالية، ولكل حياة تجربتها الفريدة. وما يربط تلك الحيوات هي “الكارما” التي تتعاهدها الحيوات المتتالية لتطهير الروح وتخليصها من شوائب الماديات والغرائز التي اكتسبتها في مسيرتها، ومع ذلك، يبدو أن روح “نديم” أمامها الكثير في طريق “الكارما” الخاصة بها كما تشير أحداث الرواية لتتخلص من ثقلها.

وأما السبب الثاني لدخوله الملاذ؛ هو إتمام بحثه العلمي عن الشيطان.. فهو يطرحه بعدة أفكار، كوجود، منها أن: “فكرة الشيطان هي أهم ابتكارات الفكر الديني لأنها تنفي وجود الشر في الإله وتحمل هذه المسؤولية للشيطان الذي سيقود سلالة البشري إلى جهنم” (ص261) وأن “اختراع الشيطان ساعد البشر يشيلوا عقدة الذنب من فوق كتافهم”(ص262) وأن “رغبتنا في وجود شيطان نمسح فيه خطايانا تفوق تمسكنا بوجود الإله نفسه” (ص263) وأن “الشيطان أهم عامل من عوامل التوازن في الأرض.. رسخ عرش الإله في السماء ونقّى صورته من أفعال البشر” (ص264). هذه الأفكار تحتاج إلى تركيز كبير، اعتقد “نديم” أنه سيجده في الملاذ.. ولكن لو تأملنا موضوع الشيطان في الرواية من منظور آخر نجد أن أهم ما يطرحه الكاتب “أحمد مراد” عبر شخصية “نديم” سؤاله الكبير عمن وسوس للشيطان وجعله يرفض السجود لآدم..؟!

لم يحاول الكاتب “أحمد مراد” إشباع هذا التساؤل في رواية صيد الغزلان .. ربما تغافل عن ذلك بقصد، إذ ترك للمتلقي حرية استشفاف الإجابة من سياقات أخرى غير مباشرة؛ كالعقل مثلاً، فهو، كما يلمح الكاتب، في جانب من وجوده، إله؛ وفي جانب آخر، شيطان. يستقي المتلقي هذه الفرضية من سياقات التفسير الديني في ماهية وسوسة الشيطان وخلوده، أو كما يصفه “نديم” بقول الشيطان عن نفسه: “سيتركني [الإله] خالداً في أدمغتكم” (ص156).

 

 

نمط درامي عالي الخيال:

في الملاذ يحبك الكاتب “أحمد مراد” أروع خطوطه الدرامية عالية الخيال الروائي في تقاطعات حيوات “نديم” السابقة ويتركها معلقة بحياته ما قبل الأخيرة، والتي أهم ما فيها اكتشافات “نديم” المربكة عن حياته وعلاقته بزوجته “مريم” وطبيعة حبه (المقدس) لها والذي تربطه تلك الخطوط الدرامية، بشكل متعمد، بعقدة أوديب.

إقرأ أيضا
البيانو

 

قناعة محايدة:

في النهاية، يخرج “نديم” من تجربته في الملاذ بقناعة محايدة مفادها أن: “هناك كينونة حافظت على الكون من التفكك، وهي نفس الكينونة التي فجرت الضوء الأول.. نسميها الإله.. نسميها الطبيعة.. المهم أننا غير قادرين على إثبات وجودها بالعلم الحالي، وبالمقابل٬ وبنفس الحسابات، لا يمكن إثبات عدم وجودها”؛ يستدرك “نديم” ويكمل: “يمكن في حياة ثانية.. اللي مستعد يعرف الحقيقة لازم يخوض الرحلة، لازم يتخلص من كل حقيقة وصل لها، لازم يكون مرن، وميخافش من الشك، الشك هو قمة الإيمان” (ص 332)

 

الكاتب






ما هو انطباعك؟
أحببته
1
أحزنني
0
أعجبني
0
أغضبني
0
هاهاها
1
واااو
0


Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
‫إظهار التعليقات (2)

أكتب تعليقك

Your email address will not be published.







حقوق الملكية والتشغيل © 2022   كافه الحقوق محفوظة
موقع إلكتروني متخصص .. يلقي حجرا في مياه راكدة

error: © غير مسموح , حقوق النشر محفوظة لـ الميزان