بطولات الـ 100 يوم المنسية قبل معركة الإسماعيلية (1-5) أول الشهداء
-
وسيم عفيفي
باحث في التاريخ .. عمل كاتبًا للتقارير التاريخية النوعية في عددٍ من المواقع
كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال
تبلورت معركة الإسماعيلية في 25 يناير 1952 في كونها عمل عسكري من بريطانيا رغبةً منها في إذلال مصر بعد تعاون الشرطة والفدائيين بالقنال، ولقيت المعركة حظها من التوثيق.
إلا أن ملف تعاون الشرطة والفدائيين قبل معركة الإسماعيلية لم يلقى اهتمامًا رغم أن الطريق إلى ملحمة معركة الإسماعيلية، واحتوى على قصص لا تقل بطولةً عن ما جرى يوم المعركة الذي صار عيدًا للشرطة والإسماعيلية، وهو الملف الذي نتناوله عبر هذا التحقيق.
التحفظات الأربعة والبنود الإثني عشر ترسمان الخلفية التاريخية
خرجت بريطانيا من الحرب العالمية الأولى مُنْهَكَة بسُكْر النصر عام 1918 م، ولجأت مصر إلى غرفة إنعاش مؤتمر الصلح في باريس بعدما وجدت في نقاط ويلسون الـ 14 الملاذ الدافئ لتحقيق أمل الاستقلال عن الاحتلال البريطاني عملاً بمبدأ حق تقرير المصير الذي أقره الرئيس الأمريكي للعالم.
لم تكن لبريطانيا أن تسمح بخروج مصر من حظيرتها الاستعمارية بمبادئ الرئيس الأمريكي في حق تقرير المصير، فقررت مواجهة أي نزعة تحررية داخل الوجدان المصري فقمعت حركة حزب الوفد الذي يرغب بتمثيل الأمة في مؤتمر الصلح.
اندلعت ثورة 1919 بشكل شعبي، ووثب على رأس السياسة البريطانية صداع خطر خروج الأمور في مصر عن السيطرة، لتلجأ إلى تخدير المناخ العام بصدور تصريح 28 فبراير 1922 الذي حول مصر من سلطنة إلى مملكة ومنحها صفة الدولة المستقلة ذات السيادة.
كان الاعتراف بالسيادة صوريًا لا حقيقيًا بسبب التحفظات البريطانية الأربعة التي حرمت مصر من تشكيل جيش نظامي وطني، وانتزعت سيادتها على السودان، وأعطت مبررًا شرعيًا للوجود الإنجليزي عسكريًا وسياسيًا، وقد قبل الملك فؤاد بذلك التصريح لأنه يعزز صلاحياته دون أن يعبأ بأي رفض.
سارت المعارضة للتحفظات الأربعة في مصر على قدمٍ عرجاء وساقٍ كسيحة، إلى أن بدأ العد التنازلي لحياة الملك فؤاد، فانتطلت المعارضة فعليًا بمفاوضات قصر الزعفران في 2 مارس 1936 ومات فؤاد بعدها بشهر وأيام، لتدرب الروح في المفاوضات التي انتهت بتوقيع المعاهدة الأنجلو المصرية في 26 أغسطس 1936 وصار اسمها يعرف باسم معاهدة 36.
احتوت معاهدة 36 على 12 بند بموجبهم سقط تصريح 28 فبراير بكل مواده وتحفظاته، كما منحت مصر صفة الاعتراف بها كدولة مستقلة ذات سيادة فعلية لكن على الأمد القريب البعيد، وبشكل مشروط.
ألغت معاهدة 36 الوجود العسكري البريطاني في مصر، لكن حددت له منطقتين هما الإسكندرية لـ 8 سنوات والقناة إلى أجل غير مسمى، مع مشاركة من الجيش المصري، وأعطت بريطانيا لمصر في معاهدة 36 حرية إدارة الموارد اللوجيستية، لكنها ألزمتها بأن تذهب لبريطانيا في حالة الحرب، كما منحت مصر حق المطالبة في إلغاء الامتيازات الأجنبية، لكن بشرط أن لا تتعارض مع مصالح الانجليز، فضلاً عن أن تكون مصر تابعةً لبريطانيا وقت الحرب كحليف، وبعد 20 سنة من المعاهدة تنعقد مفاوضات حول إدارة قناة السويس وأحقية مصر بها.
وافقت الحكومة المصرية برئاسة مصطفى النحاس على معاهدة 1936 لأنها أداة مثالية لرفع سقف الطموح، واطمئنت بريطانيا جزئيًا بضمانها بقاء قناة السويس في الإستعمارية، وظل الأمور هادئة نسبيًا إلى أن اسيقظ المارد الألماني أودلف هتلر سنة 1939 وقاد العالم إلى الحرب العالمية الثانية.
تعلمت بريطانيا في الحرب العالمية الثانية أن بقاءها في الشرق الأوسط مرتبط بمصر، فالعلمين أوقف زحف روميل، وقناة السويس همزة الوصل بين الجميع، أما النحاس فأراد بعد نهاية الحرب عام 1945 أن يضخ دماء جديدة في التفاوض.
سقوط هدنة حقن الدماء من أجل سفكه
لجأ النحاس باشا إلى مفاوضات سنة 1950 لإعادة النظر في معاهدة 36 لكن بريطانيا تمسكت بكافة بنودها من أجل قناة السويس، فقرر مصطفى النحاس في 8 أكتوبر 1951 إلغاء المعاهدة، وفي اليوم التالي توجه عثمان محرم وزير الأشغال إلى ثكنات قصر النيل لمباشرة أعمال هدمها مع 300 عامل بصحبة عبدالفتاح حسن باشا وزير الحربية بالنيابة، لكن مرحلة أخرى بدأت لتوها في مدن القناة.
مراحل الـ 100 يوم المنسية بين الشرطة والفدائيين
أعطى إلغاء معاهدة 36 الضوء الأخضر للفدائيين في أن يتجهوا إلى القناة ويعلنوا سقوط مرحلة حقن الدماء من أجل سفكه عن طريق حراك ثوري مسلح ضد بريطانيا، وما كان لنشاط الفدائيين المسلح إلا بدعمهم فكانت الشرطة المصرية بمثابة دعامة الدعم والقاعدة التي ارتكزت عليها الأعمال الفدائية في 98 يوم.
(مرحلة 8-15 أكتوبر 51 ) | الأفخاخ الإنجليزية الفتاكة وتفادي الشرطة لها
رسم الإنجليز للمصريين في مدن القنال أفخاخ تاريخية شديد الخطورة، وجاء الفخ الأول متمثلاً في ترك المجال للمتظاهريين المصريين مع وجود استفزازات بريطانية لهم، وذلك بهدف أن يقوم المتظاهرين بالتوجه إلى منازل الرعايا الأجانب المقيمين بمدن القنال والفتك بهم، وبالتالي يتكرر سيناريو ذريعة مذبحة الإسكندرية سنة 1882 التي بموجبها احتلت بريطانيا الأراضي المصرية.
كانت مدينة بورسعيد هي أولى مدن القناة التي تحركت سلميًا فخرج مظاهرة من 50 ألف نسمة، الأمر نفسه امتد إلى الإسماعيلية والسويس، وهو الشيء الذي جعل قيادة القوات الإنجليزية في مدن القنال تستنفر حمايةً لرعاياها.
مبكرًا وعت الداخلية المصرية هذا الفخ فأصدر فؤاد سراج الدين بيانًا لأفراد البوليس المصري بالتصدي لأي تظاهرة ولو بالقوة حتى لا يتدهور الموقف، وهو ما حدث طيلة الأسبوع الأول من بعد إلغاء المعاهدة.
جاء الفخ الثاني متمثلاً في العمال المصريين الذين يعملون في المعسكرات البريطانية، فهؤلاء جميعًا سيتعرضوا للضغط والإغراء ليكونوا نواة عملاء على مصر لصالح بريطانيا، فأعلنت بريطانيا عن مزايا لهؤلاء العمال بدأت من زيادة رواتبهم ووصل حد الإغراء إلى درجة منح الجنسية الإنجليزية لهم إن أرادوا ذلك.
اتخذ العمال رد فعل وطني وهو رفضهم لكل العروض والإغراءات لكن بقي موقف الدولة المصرية منهم محيرًا، فظهر موقف الشرطة المصرية في القناة حيث أنها أعلنت أنها لن تتخذ أي إجراء قانوني أو غير قانوني تجاه أي مواطن مصري يعمل المعسكرات البريطانية.
وامتد موقف الشرطة الداعم للعمال المصريين في المعسكرات الإنجليزية بإعلان وزارة الداخلية ضباط وعساكر البوليس استعدادهم للتبرع لتوفير العمل للعمال المصريين في فايد وكان أول فرد من الشرطة أعلن تبرعه هو حامد أفندي فؤاد.
ثالث أفخاخ الإنجليز تمثلت في حركة النقل التي تخضع فعليًا لمصر إدراةً وتأمينًا، حيث أرادت بريطانيا أن يتولى البوليس فض أي تجمع للإضراب، وقد اتخذت الشرطة موقفًا محايدًا بشكل تأييدي لا تحريضي إزاء إضراب سائقي القطارات ورفضهم العمل لنقل جنود الإنجليز، وكان أول من أضربوا عن العمل هم « السائق عبدالله، والوقاد محمود محمد خليل، والبرشامجي عبدالحسيب مرعي، وزميله أحمد السيد البحيري»
(مرحلة 16 أكتوبر 51) | صدامات اللاعودة وأول شهداء الشعب والشرطة
في 16 أكتوبر سنة 1951 كانت الدماء الأولى في مراحل الـ 100 يوم، إذ استشهد 6 في بورسعيد و 10 في الإسماعيلية وأصيب مالا يقل عن 75 شخصًا وذلك في مواجهات بين الإنجليز والأهالي المتظاهرين تأييدًا للمعاهدة.
اكتسبت الشرطة المصرية في الأسبوع الأول لما بعد إلغاء معاهدة 36 لقب رجال الواجب المحايد، وكان ذلك اللقب وصفًا للوضع الذي أثار ثائرة الإنجليز بعدما عمت المظاهرات أرجاء مدن القناة، ولم يتصدى البوليس المصري للتظاهرات بل كان يساعدها لدرجة أن قيادة الأمن المصري طلب من الإنجليز تسليم مواقعهم لتتولى الشرطة مهمة تأمينها.
أول هجوم فعلي من الجيش الإنجليزي على الشرطة المصرية كان في 16 أكتوبر 1951 عندما هاجمت قوة بريطانيا نقطة البوليس الحربي المصري في شارع نمرة 6 بالإسماعيلية واستولت على مهمات الجنود ومدفع برتا وطبنجتين واستشهد كامل عبدالحليم الجندي من جنود بلوك النظام ليكون أول شهداء الشرطة، وبذلك بدأت مرحلة اللاعودة في تاريخ الشرطة والفدائيين والإنجليز.
«يُتْبَع»
الكاتب
-
وسيم عفيفي
باحث في التاريخ .. عمل كاتبًا للتقارير التاريخية النوعية في عددٍ من المواقع
كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال