أزمة تعامُلنا مع التُراث
-
جوني ويليام آرثر
كاتب وروائي مصري من مواليد مدينة المحلة الكُبرى، صدر لهُ رواية داليدا عام 2020 ورواية المجدلية عام 2022 عن دار الفؤاد للنشر والتوزيع، كتب في عدة مواقع، كساسة بوست، وعربي بوست.
أبدأ بمُلاحظة عامة: هي أن تكرار طرح الإشكاليات مُنذ عصر الطهطاوي إلى يومنا هذا من السمات المؤسفة لمُجتمعنا الإسلامي، فمثلًا في المُجتمع الغربي تُطرح الإشكاليات للمُناقشة بين الخصوم، ثُم ينجم الحل إما بالوصول إلى صيغة وسط، أو تغلب مذهب هو أكثر مُسايرة لاحتياجات العصر، وينتقل المجتمع بعد ذلك إلى مجابهة إشكالية جديدة، فلا يعود إلى النظر في إشكالية سبق طرحها إلا فيما ندر، أما في مُجتمعنا الإسلامي فإن المُشكلة تطرح وتحل، ثُم تطرح مرة آخرى بصيغاغتها العتيقة وتُحل، ثُم تطرح ثالثًا ورابعًا، وكأننا في دائرة مُغلقة لا نعرف كيف نتجاوزها إلى غيرها، وعلى سبيل المثال: من الذي بوسعه أن يُصدق أو يسيغ العودة إلى مُناقشة قضية حجاب المرأة على نفس النحو الذي تصدى لهُ قاسم أمين وخصومه مُنذ أكثر من ثمانين عامًا، وبنفس الحجج والأسانيد البالية؟
قضية الأصالة والمعاصرة
ومن تلك القضايا التي يتكرر طرحها في مُجتمعنا الإسلامي بصيغ مُختلفة، قضية الأصالة والمُعاصرة، وإن كان هذا التكرار ينطوي على بعض الاختلافا في طبيعته عن الإشكاليات الآُخرى، فهي قضية لم يصل بصددها أي جيل إلى حل مُرضٍ أو إلى أي تقدم،عكس قضية تحرير المرأة مثلًا، وتكرار الطرح كره بعد آخرى،هو في كُل مرة صورة أشد عُنفًا وحدة، إنما يعني أن المُشكلة تزداد تعقيدًا بمُضي السنين، وأن الوضع يزداد تأزُمًا، فالازدواجية وفصام الشخصية لدى أبناء مُجتمعنا ينموان نمو ينذر بأن تُضحي أمتنا أمتين على نحو وصف كارل ماركس للمُحتمع الإنجليزي في زمنه، فهي أزمة ترتبط إرتباطًا وثيقًا بتزعزع الثقة بالنفس إزاء التفوق المادي والحضاري للفرنجة، وبالتالي فإنه كُلما ظهرت في مُجتمعنا من الأساليب والدواعي ما يُعيد إلى أبنائه بعض هذه الثقة المفقودة،ويرد إليهم قدرًا من الإيمان بالمُستقبل، خفت حدة الإشكالية، وهو بالضبط ما حدث ويحدُث في فترات المد في الحركة الوطنية.
أزمة تعامُلنا مع التُراث
إن هُناك بالقطع أزمة في تعامُلنا مع التُراث وفي تحديد موقفنا من المُعاصرة، والسبب في رأيي يتصل بحدة الازدواجية التي أشرت إليها، وهي إزدواجية أساسها عجز المتفرنجين منا عن استساغة التراث ووصل ما بينهم وبين ماضيهم، وعجز السلفيين عن المُعاصرة والاستفادة من حضارات الغير، وعجز هؤلاء وأولئك عن تمثيل مُختلف الاتجاهات، والخروج منها بنتائج جديدة مُتجانس، لهُ ما لتلك الاتجاهات من الاستقلال، وقديمًا قالت العرب: «إذا سمعت الرجل يقول: (ماعند الله خير وأبقى)، فأعلم أن في جواره وليمة لم يُدع إليها»،فالعنب إذًا هو في العادة حصرم، ثُم إذا بهذا العجز من أولئك وهؤلاء يتبلور في عداء كُل لموقف الطرف الآخر،دون أن يُحقق أي منهما الإنسجام المنشود، ولا أعتقد أن مُجتمعات كثيرة غيرنا تعرف مثل هذه المُشكلة العقيمة، فالغربي مثلًا إن قرأ فإنما يقرأ توما الاكويني اليوم، وبرتراند راسل غدًا، ثُم أفلاطون بعد غد، كُتبهم جميعًا ضمن سلسلة واحدة، على رف واحد، في مكتبة واحدة لا يُقال عنه أنه ترائى أن فضل اسخيلوس، أو أنه عصري إن هو آثر دورينمات، ويدخُل كُل هذا في تكوينه ليجعل منه الإنسان الذي هو عليه، لا مُشكلة ولا حيرة ولا إحساس بالتمزق، مُشكلة العربي المُعاصر هي إذن كمُشكلة أمريء يحاول تدارك صعوبة حمل العديد من صحون الطعام في يدين اثنتين، بينما الغربي أشبه بمن أكل منها جميعًا وتمثلتها فسرت في بنيانه وصارت إلى هيئة جد مُخالفة، وعندي أنه في مقدورنا تحقيق مثل هذا الإنسجام متى اتخذنا من تُراثنا ومن حضارات الغير موقفين مغايرين لموقفنا اليوم، من حضارات الغير: بحيث لا يحكم موقفنا عقدة نقص أو استكبار أو فُقدان الثقة بالنفس والدين والتقاليد، مع الإقرار بأن الإستفادة من مُعاصرة غيرنا مُمكنة على نحو إستفادة أوروبا من مُعاصرة العرب أبان العصر الوسيط في تجاوزها لواقعها إلى عصر النهضة، فعصر الإصلاح الديني.
اقرأ أيضًا
الثقافة الجنسية في التراث العربي .. “علم تخصص فيه المسلمين أكثر من الغرب”
ومن تُراثنا: بحيثُ لا يكون الهدف من الإقبال عليه الهروب من حاضر تقليل الوطأة، أو الترويح عن النفس، أو التفرج على أطلال العصور الخوالي، وإنما هو الاستفادة من حكمة الأقدمين وتجارب الأسلاف في أن نجعل من عالمنا المُعاصر عالمًا أفضل، وأن نُهيىء لأنفُسنا وأبنائنا مُستقبلًا أرقى، لا نحترم الماضي لمُجرد أنه ماض، ولا السلف لأنهم سلف، ولا نقصر الحق في التفكير على الأموات.
مسئولية نظم التربية والتعليم
وتنبع المُشكلة والحيرة عندنا في رأيي من أمور ثلاثة لا مناص من أن تتصدى لها نظم التربية والتعليم في أقطارنا إن هي أرادت المُساهمة في إيجاد حلول:
الأول: تخريج صنف من الناس لا يملكون ناصية لغات أجنبية تعينهم على تذوق ثمار حضارات غير حضارة أسلافهم.
الثاني: تخريج صنف آخر من المتفرنجين، بالغوا في النظرة إلى الغربيين وكأنهم أنصاف آلهة، وبالغوا في التحقير من شأن تراث أمتهم الذي حسبوه خطأ المسئول عن التخلف الذي صرنا إليه، فقد حرمهم فساد منهج تعليم اللغة العربية في مدارسنا من القُدرة على النظر في كُتب الأقدمين، فإن نظروا فيها كان ذلك من قبيل الرغبة في التنذر على سخافة نظرة الأسلاف.
الثالث: الفهم الخاطيء لدى جميع الأطراف لماهية التُراث والمُعاصرة.
فأما عن التُراث فإنه يُمكن الحديث عنه بأحد مُعنيين: أنه مجموع ما خلفته قرائح الأقدمين وصفوة الأسلاف من فكر وفي وعلم ونمط عيش وفنون حضارة مما يُمكن لجيلنا الحالي الإفادة منه والاستعانة به على حل ما يواجهه من المُشكلات والتحديات، أو تعريفه بأنه كُل ما أفرزه الماضي من إفرازات ضارة ونافعة، سامة وسليمة، لا يزال لها أثرها الفعال في مسلكنا ومُعتقداتنا وأسلوب معيشتنا ونظرتنا إلى الحياة، منها ما يجدر بنا التمسك به وتنميته، ومنها ما ينبغي علينا مُحاولة استئصاله أو الحد قدر الإمكان من نطاق سلبياته، وأما عن المُعاصرة فتفترض موقفًا إيجابيًا نشطًا من جانب مُثقفين يستهدفون الإدراك الواعي لحقائق الزمن الذي يعيشون فيه وعناصره، وموقعه من مجرى التاريخ، وعلاقته بالمُستقبل المرئي، ثُم تحملهم رؤيتهم على تقبل ما هو حتمي لا قبل للإنسان بتغييره، ومُحاولة التغلب على الاتجاهات التي تسير ضد تيارات التاريخ، وتُقاوم حتميته، وتُعرقل وصوله إلى هدفه كما يفهمه هؤلاء المُثقفون، وإستنادًا إلى هذه المفاهيم أمضي فأقول: «إن ماضي وتُراثي وسلفي، وماضي الحضارات الآخرى وتُراثها وأسلافُها، لا يعنيني منها إلا الجانب الذي ثبت لدي أنه حي، وأن بوسعه أن يثري حياتي وحاضري، ويزيد من قُدرتي على مواجهة تحديات مُستقبلي، ومن قُدرة أمتي على مواجهة تحديات مُستقبلها، كذلك فإن بوسعنا من نفس المنطلق أن نتخيل تغير تقويم أهل كُل زمان لرجال تراثهم وثماره عن تقويم أهل الزمان الذي سبقه، وأن من حق كُل جيل ومن واجبه، أن يُعيد تقويم عناصر تراث أمته للتمييز بين ما يُمكن إستخدامه فيغضى عنه، فنحنُ إنما نعيش في زماننا نحنُ لا زمن الأقدمين، وما لا يُساعدنا من تُراث الأسلاف على حل مُشكلات زماننا هو ميت إلى حين إكتشاف جيل تال لجيلنا إن فيه حلًا لمشاكله فيُحييه، أما ما نجد فيه العون فهو حي إلى حين إكتشاف جيل تال عدم جدواه لهُ، فيهجره، ونقاط البداية عندي تتلخص فيما يلي:
- تشخيص الأجواء التي تُعاني منها أمتنا، والتعرف على حقيقة موقعنا من الخريطة الحضارية للعالم.
- الاستفادة من تجارب الحضارات الآخرى والنظر في ما إذا كان لديها أو في تراثها ما يُمكنه مُساعدتنا على مواجهة تحديات المُستقبل، من دون أن تخل هذه الاستفادة بتفرد شخصيتنا الحضارية.
- دراسة تاريخ تطور أمتنا، وتاريخ تطور غيرها من الأمم بغرض الاستدلال منهما على ملامح المُستقبل.
- التعمق في دراسة تُراثنا للنظر فيما يُمكن أن يُقدمه من حلول لهذه الأجواء.
وأقولها صراحةً أنني لستُ كبير التفاؤل بصدد بعض هذه النقاط، فحصيلة شباب أمتنا من اللغة العربية في تضاؤل مُستمر رهيب، ونفورهم من النظر في أمهات كُتب تُراثهم الإسلامي في إزدياد، واتجاههم يقوى يومًا بعد يوم إلى تبني قيم الغرب وتقليد أهله في أساليب عيشهم، خاصةً وقد ضاعت ثقتهم في أمة لا يُبدي أبناؤها الحماس إلا في حرب بعضهم للبعض، ولا يعرف ساداتها سبيلًا إلى إنفاق الثروات أفضل من إنفاقها على إشباع شهوتهم الحسية، وتصر حكوماتها على عدم المساس بسُلطتها المُطلقة، وعلى إستئصال شأفة كُل فكر حُر.
إقتراح
فإن اتفقنا بعد هذا على أن من أهم الأهداف التي يجب أن تتوخاها أية مُحاولة لإصلاح نظم التربية والتعليم عندنا هو أن يسترد شباب أمتنا احترامهم لتُراثهم الفكري، والرغبة في الاستزادة منه، والقُدرة على النظر فيه، فالأجدى أن نبدأ بالاعتراف بأن الحصيلة التي يخرج بها أبناؤنا من اللغة العربية بعد إنقضاء سنى دراستهم لا توفر القدرة على فهم ما كتبه الأقدمون، والنماذج التي تدرس لهم في المدارس لأدب هؤلاء،كهجاء الفرزدق لجرير، وفخر المُتنبي بنفسُه، ومدح الأعشي لوالي الحيرة، في كُتب رديئة الورق، سيئة الطباعة، قبيحة الصور، لا يُمكن أن ينجم عنها إحترام حقيقي لتُراث العرب، كذلك الاحترام الذي ينجم لديه لآداب الفرنجة حين يُدرس في حصص آخرى مسرحية لشكسبير أو قصائد هيجو، في كُتب أنيقة الطباعة، بهية الصور والإخراج، وقد أقدم الغربيون مُنذ عدة سنوات، من أجل تعزيز المام شباب الغرب بتراثه والجذور الفكرية لحضارته، على إخراج مجموعة من الكُتب تضم أربعة وخمسين مُجلدًا أصدرتها دائرة المعارف البريطانية وتحمل اسم «أعظم كُتب العالم الغربي»،من هوميروس إلى فرويد، هذه المجموعة باتت تُشكل جُزءًا من أثاث مُعظم العائلات المُثقفة القادرة على إقتنائها في أوروبا وأمريكا الشمالية، فإن كان عالمنا العربي قد نشر بالفعل عشرات الآلاف من كُتب التُراث، فإن شبابنا يصل في متاهتها، عاجز عن إقتناء ولو اليسير منها، مُفتقر إلى من يهديه إلى القمم الشامخة فيها ويثنيه على النظر في تافه الشأن منها، فلو أن حكومة من حكومات دول النفط تبنت مشروعًا كمشروع دائرة المعارف البريطانية، وشكلت لجنة من عشرة أو عشرين من العُلماء المُتبحرين في التُراث العربي، المُدركين مع ذلك لطبيعة ذوق شباب أمتنا المُعاصر، فانتقت بعد النقاش والفرز وتمحيص الآراء المُختلفة أعظم مائة كتاب مثلًا من المؤلفات العربية مُنذ أمريء القيس إلى الجبرتي، واستبعدت من هذه الكُتب المائة الغث الكثير الذي تحفل به كُتب عظيمة كأغاني أبي الفرج، أو السلوك للمقريزي، وأيقت على بعضها الآخر بصورته الكاملة كمُقدمة ابن خلدون وحي بن يقظان لابن طفيل وفصل المقال لابن راشد، ونشرتها في خمسين أو ستين مُجلدًا أنيقًا بسعر في مُتناول العائلة متوسطة الحال، بحيثُ تُصبح جُزءًا من أثاث دارها، وفي مُتناول أبنائها وتحت نظرهم في كًل يوم، لأسدت بهذا الصُنع خدمة جليلة لأبناء جيلنا والأجيال التالية إذا تصل بينهم وبين ماضيهم، ويا حبذًا لو تبع ذلك ترجمة كاملة لمُجلدات مجموعة «أعظم كُتب العالم الغربي» فيجمع شبابُنا بين الحسنيين، وأذكُر هُنا أن اللجنة التي نهضت بالمشروع الغربي كانت تعتزم في البداية أن تضُم المجموعة أعظم كُتب العالم، ثُم عدلت عن ذلك واكتفت بكتب العالم الغربي، على أساس أن أبناء الحضارات الآخرى أقدر على تقييم كُتب حضاراتهم من غيرهم، ووعدت في مُقدمة المجموعة متى أخرجت الأمم الآخرى مجموعات مماثلة، فقد تضمها جميعًا في مجموعة ضخمة واحدة،هي تُراث الإنسانية، لا شك أن من شأنها أن تُسهم إسهامًا عظيمًا في إقامة الجسور الفكرية بينا الحضارات.
الكاتب
-
جوني ويليام آرثر
كاتب وروائي مصري من مواليد مدينة المحلة الكُبرى، صدر لهُ رواية داليدا عام 2020 ورواية المجدلية عام 2022 عن دار الفؤاد للنشر والتوزيع، كتب في عدة مواقع، كساسة بوست، وعربي بوست.