همتك نعدل الكفة
591   مشاهدة  

عقدة التوريث: هيكل كدراماتورجي.. مبارك كالملك لير

محمد حسنين هيكل


في كتابه من المنصة إلى الميدان، مبارك وزمانه، يرسم محمد حسنين هيكل صورة أكثر تعقيدا لحقيقة رغبة حسني مبارك في توريث ابنه جمال الحكم، معتبرا تلك القضية هي الدليل الأكبر على أن اللذين يزعمون أنهم يعرفون كل شيء عن الرجل لا يعرفون شيئا عنه، وهي فرضية بنى عليها الكتاب بأكمله.

يقول هيكل بما معناه، أنه كان يرغب بالفعل في توريث الابن، لكن بعد وفاته، أما أثناء حياته فقد كان مبارك ” في حسه الداخلي الدفين لا يريد ذلك، لا بتفكيره ولا بشعوره، بل لعله ينفر من الحديث فيه، لأنه يذكره بما يتمنى لو ينساه”

يصور هيكل المسألة كمأزق حقيقي لشخصية درامية، يقبل دون أن يكون ذلك بكامل إرادته، ويرفض إن ظل لإرادته تلك أي قوة ما، فما بدأ كبذرة فكرة ربما يكون أيدها وزرعها بنفسه في البداية، انتهى إلى وضع خارج سيطرته عليه أن يجاريه ويراوغه في الوقت عينه، يجادل هيكل طيلة سطور الفصل الأخير في كتابه.

كان إذن يرغب في توريث حكمه، لكن في قرارة نفسه لم يكن مستعدا.

كان يعيش ضغطا مستمرا من القريبين مفاده أن السبيل الوحيد لإتمام عملية التوريث أن يحدث ذلك في حياته، أما في غياب سلطته فإن الأمر سيكون ضربا من المستحيلات، لذا كان يعطي الإشارة وعكسها، دون أن يقول نعم صريحة أو لا قاطعة، لكن سيناريوهات الحالمين لم تكن لتنتظره كي يحسم قراره.

حين تعرض مبارك لإغماءة أثناء حديثه أمام مجلس الشعب في نوفمبر 2003، وتأجلت الجلسة قرابة ساعة، خطر ببال أبرز رجال الحاشية أنه في حال وفاة مبارك، وهو الأمر الذي كان يحوم حول القاعة، أن يتقدم عدد من نواب الحزب الوطني باقتراح مبايعة الابن وفاء للأب استغلالا لحالة المفاجأة والغرق في الدموع والأحزان، ولم يشك أصحاب الاقتراح في أن التصويت بالموافقة سيكون كاسحا، حتى أعلن الأطباء قدرة مبارك على العودة خلال ربع ساعة لإكمال خطابه لتفوت الفرصة – مؤقتا- على الحالمين، لكن الخطط والسيناريوهات لم تتوقف.

عندما كان مبارك على وشك التفكير في دورة رئاسية خامسة، كان متوجها إلى الخارج لإجراء عملية جراحية ظنها الحالمون غير مأمونة، فتم اقتراح أن يوجه الرئيس خطابا أن يقدم ابنه بديلا لاعتبارات العمر والصحة، لكن المحاولات وفقا لهيكل كانت تصل إلى نقطة معينة، ثم يبدو فجأة أن اندفاعها يتباطأ، رغم ذلك كانت كل العلامات والإشارات والتحضيرات التي تتم تعلن أن خطة التوريث قائمة على قدم وساق، ومن بينها الإعلاء من مهام الابن جمال مبارك في الحزب حتى صار أمينا لسياساته، وكذلك توطيد علاقته مع حزب العمال البريطاني، تيمنا برئيس وزرائه توني بلير، ” الذي بدا لمن يعنيهم الأمر في القاهرة، شابا نجح في النزول بـ (الباراشوت) على رئاسة الحزب ورئاسة الوزارة، وظن هؤلاء المعنيون بالأمر في القاهرة أن «بلير» نموذج مدهش يستحق النقل عن أعرق البلدان الديمقراطية!! ـ وعاد السفير البريطاني يحمل ردا بالموافقة والترحيب” وهو الأمر الذي رحب به حزب العمال البريطاني ولاقى اهتماما من توني بلير بحثا من بريطانيا عن نفوذ خاص في مصر، حتى أن بيتر ميندلسون مسؤول الحملات الانتخابية لبلير، قد أصبح زائرا منتظما للقاهرة  بدعوة من أمانة شباب الحزب الوطني، حتى بعد أن ترك منصبه في وزارة التجارة بسبب شبهات حول علاقاته برجال الأعمال.

ويذكر محمد حسنين هيكل أن من بين ملاحظات «مندلسون» وقد سمعها نقلا عنه «إن مُضيفيه المصريين مهتمون جدا بقسمين بالذات في تنظيم حزب العمال الجديد: غرفة الدعاية، وغرفة العمليات السوداء، أي المتعلقة بالمهام القذرة (كذلك يسمونها)”

وإذا كان مبارك في أوقات كثيرة كان يرد بقوة لنفي أي خطط للتوريث، كما فعل مع معمر القذافي الذي كان يبحث عن ترسيخ مضاعف لمبدأ توريث الابن بعد توريث حافظ الأسد الحكم لابنه بشار، فقد كان أوقات أخرى يرد بطريقة مختلفة، كما فعل مع جورج بوش الابن الذي سأل مبارك في الموضوع في آخر مرة زار فيها مبارك واشنطن في عهده، فأجابه ضاحكا: «ألم يكن والدك رئيسا ثم جئت أنت هنا بعده؟!!» ورد «بوش»: «إن ذلك كان بالانتخاب الحر، وأن هناك فاصلا مدته ثماني سنوات، من إدارة «كلينتون» باعدت بين رئاسة الأب ورئاسة الابن».

كانت السفارة الأمريكية تتابع باهتمام جهود التوريث في القاهرة وتنقل ذلك في برقياتها إلى واشنطن، وبعض من تلك البرقيات أذيع ضمن تسريبات ويكيليكس، وبما في ذلك أحاديث منقولة عن أصدقاء جمال مبارك، تتحدث صراحة أن التوريث قادم لا محالة ولن يوقفه شيء ولا حتى ما يبدو من تحفظ المؤسسة العسكرية حياله، وضمن برقيات “ويكيليكس أكدت من بين هؤلاء الأصدقاء (الذي حذف اسمه حفاظا على حياته)، أجاب السفير الأمريكي بعد إلحاحه على معارضة المشير طنطاوي شخصيا للتوريث، أن طنطاوي لن يكون أقوى من المشير أبو غزالة  الذي تمكن مبارك من إعفائه من منصبه عندما أراد ولم يستغرق منه القرار جهدا ولا ترتبت عليه متاعب في القوات المسلحة.

لكن الأنباء التي تسربت من محيط الرئاسة أن الرئيس أفصح لمن زاد الحاحهم عليه أنه لا يستطيع مجاراة ما يطلبون منه، وأن عليه تخفيف الضغط عليه لأن المؤسسة العسكرية ليست راضية عن “التوريث”، لكن المقاومة مستعصية، والمسألة ليست بالسهولة التي يتصورها من يلحون عليه بأنه «الآن» لينفذ ما يطلبون، وإلا ضاعت فرصته.

“وكانت الحقيقة معقدة” يقول هيكل الذي يذهب إلى أن المؤسسة العسكرية كانت بالفعل تعارض بل وجعلت تلك المعارضة معروفة لدى الرئيس، إلا أن ما يذهب إليه هيكل، أن مبارك استخدم معارضة المؤسسة العسكرية بإلحاح في وجه من يضغطون عليه لتمرير التوريث، لأنه وجد في تلك المعارضة ما يوافق شعورا غامضا في نفسه ينفر من حديث التوريث.

يؤكد هيكل أن ” مبارك” لم يظهر منه ضيق بتحذير طنطاوي أنه لا يريد أن يزج بالجيش نتيجة قرار قد لا يلاقي قبولا شعبيا، ويرى أن ” تلك قضية تحتاج إلى بحث نفسي يصل إلى العمق البعيد عما هو كامن ومكبوت!”

لم يكن حديث التوريث يمر بشكل طبيعي داخل الأسرة الرئاسية نفسها، فالابن الأكبر علاء مبارك أحس أن الأصغر نال الحظوة، وبدأت “جفوة تحولت إلى هوة” بين الأخوين. فالأخ الأكبر الذي رأى أنه صاحب استحقاق سلب منه، انتهز الفرص ليؤكد وجوده، خاصة في مجال كرة القدم نظرا لجماهيريتها، وكان من بين عوامل إثارة الجماهير في مباراة مصر والجزائر، إلى حد أنه تحدى السفير الجزائري علنا على شاشة التليفزيون مطالبا برحيله، ومسيئا عبر ألفاظ يتصورها تعبيرا عن الوطنية إلى العلاقات بين البلدين، بل وعمل الأبن الأكبر على تكثيف ظهوره على الساحة العامة بما فيها ترتيب لقاءات ودية مع بعض الكتاب المعروفين بمعارضتهم لتوريث الحكم لجمال مبارك.

إقرأ أيضا
إبراهيم أصلان

يقول محمد حسنين هيكل: “ووصلت العلاقات بين الأخوين إلى مشاهد مؤسفة، لابد أن وقعها كان قاسيا على الأب”

الصورة التي يقدمها هيكل هي صورة رئيس مغلوب على أمره في أواخر أيامه، يمرر مخطط التوريث – الذي أراده ولم يرده- رغما عنه، ومن بين شواهده أن الأغلبية التي حصل عليها الحزب الوطني في انتخابات 2010 قد أوحت لعقله الباطن أنها تمهيد لما سيفرض عليه من الحرس الجديد بالقوة.

بل يذهب هيكل إلى ما هو أبعد، أن تنحي مبارك بعد عناد طويل، لم يكن تنحيا لنفسه فقط وإنما إزاحة لابنه أيضا وسط الزحام قبل أن يخرج هو من الصورة بتعيين عمر سليمان نائبا عنه، ربما على أمل أن يكمل مدة رئاسته، لكن الحوادث كانت أسرع من الجميع.

في النهاية يقدم محمد حسنين هيكل تحليلا دراميا ونفسيا يرسم فيه مبارك كمن يخشى مصير الملك لير الذي أورث بناته فجحدوه، لا أتفق معه كثيرا، لكن يبقى تأملا مثيرا من جانب ” دراماتورجي” شاطر كهيكل، وربما تحمل إشارته للصراع داخل نفس مبارك شيئا من الحقيقة لا كل الحقيقة، فكل الشواهد التي رأيناها تؤكد أن مشروع التوريث تم برضا الرئيس، لكن ربما كان هناك شيئا ما في نفسه بالفعل ضد أن يتولى ابنه السلطة في أثناء حياته، وربما لم تكن عدم قدرته على أن يوافق صراحة أو أن يرفض صراحة إلا جزء من طريقته التي حكم بها مصر، أن تموت كل مقاومة من تلقاء نفسها، وألا يمرر أي قرار إلا ومصر روح مزهقة من الضجر.

الكاتب






ما هو انطباعك؟
أحببته
0
أحزنني
1
أعجبني
1
أغضبني
1
هاهاها
0
واااو
0


Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
‫إظهار التعليقات (2)

أكتب تعليقك

Your email address will not be published.







حقوق الملكية والتشغيل © 2022   كافه الحقوق محفوظة
موقع إلكتروني متخصص .. يلقي حجرا في مياه راكدة

error: © غير مسموح , حقوق النشر محفوظة لـ الميزان