عن عبد السيد الذي صار عبد أحمد .. المسلم المسيحي الفقير
الحق الحق أقول لكم: بدأت شرب سجائر في إجازة خامسة ابتدائي، كان عمري 10 سنوات وكام شهر. لكني بدأت التدخين من الزاوية الأكثر صعوبة، على يد المعلم رشدان (محمود طوطح صديق المصائب زمان).
ذهبنا إلى “غرزة” تسمي نفسها “قهوة“، في دار الرماد خلف مقام الشيخة خضرا. الحقيقة ارتبكت، فالمقام بنته أم جدي لـ“الشيخة خضرا“، كما بنت قبلها مقاما لـ“الشيخ عب العيش“، فأن تذهب لتجرب الدخان للمرة الأولى، مستتراً باثنين من المقامات بناهما أجدادك فهي مصيبة قادرة على إرباك طفل العاشرة المتعجل على الدنيا.
المهم، ذهبت خلف طوطح وأنا أتلفت خوفاً من مقام الشيخة خضرا، حتى وصلنا “غرزة/ قهوة“، بلا اسم.. نعم وقتها لم تكن المقاهي في الأرياف ذات أسماء رنانة، نحن نتحدث عن قعر الريف في شمال الصعيد، حيث كل شيء مرتبط بالأشخاص.. هذا شارع فلان، وهذا دكان فلانة وحتى تقسيم الأحواض الزراعية، فهذا حوض سعد وسعيد، وهذه ناحية جلول، وتلك البعيدة عزبة فلان الفلاني.
على هذا المستوى كان كل شيء مرتبط بأسماء البشر، من البهائم للخدمات، فمثلاً البوستة المركزية، بالنسبة لي فإن موقعها الجغرافي بالضبط هو “مبحر بعد بيت عمك محمود الفخراني“، ومبنى المحافظة الذي نقلوه عدة مرات أصبح “المحافظة اللي قبلي أرض منير دلة“، وعليه كانت “القهوة/ الغرزة، هي قهوة “عبد أحمد“.
ما هذا الاسم الغريب “عبد“، ومن هو أحمد الذي يتسيد هذا الـ“عبد” بهذه الصورة لدرجة أن العبودية التصقت باسم الرجل ومكانه ومحل أكل عيشه طيلة هذه السنوات؟.
لا يجرجرك التفكير بعيداً، فعبد أحمد هذا ليس أكثر من اختصار نتيجة الملل في عصاري الفيوم فائقة الرطوبة والحرارة، فهو في “ورق الحكومة“، عبد السيد أحمد.
“عبد السيد“،؟ لا يبدو هذا اسما لمسلم صعيدي قح، نعم حدسك صحيح، فعبد السيد كان مسيحياً نذرت أمه التي لم تكن يكن أولادها يعيشون إلا ساعات فقط بعد الولادة، إن جاء الولد وعاش حتى يرى سبع أقمار متتالية، لتسمينه عبد السيد. وبالفعل، عاش عبد السيد سبع ليالٍ كان فيهن الجو صافياً، والقمر بارزاً، فأعتمدت اسمه، لكنها لم تنج من ضربات القدر، إذ مات والد عبد السيد في الليلة السابعة، فور إثبات الاسم في أوراق الحكومة ودفتر شيخ البلد!.
عاشت السيدة الملكومة تحمل لقب “أم عبد“، فهناك الكثيرات يحملن ذات اللقب، فكل سيدة ولدت ذكراً جعلته عبداً لله أو للرحمن، يقال لها اختصاراً “أم عبد“، ولأن الأسماء متقاربة وكلها أسماء حسنى، كان الاختصار واجباً، فكلنا عباد الله، وهن أمهاتنا، والشكور هو الغفور والله هو اللطيف والرحمن هو الرحيم.
لكن مشكلة “عبد السيد“، أن اسمه ناتئ وسط الناس، فكان المسيحيون في البلدة الصغيرة يسمون “عبد النور“، أو “السيد“، لكن “عبد السيد” كانت ناتئة وغريبة، وظلت كذلك حتى فوجئ الجميع بالسيدة تعلن إسلام طفلها (لم يكن تجاوز مرحلة التبول في ملابسه بعد)، وأطلقت عليه “عبد السيد أحمد“، ليكون جامعاً للحسنيين، مسيحياً في المنشأ والأب والأم، ومسلماً في المسار ما بعد الأبوين.
لم يكن إعلان إسلامه أكثر من حيلة، للسيدة الذكية الهلكانة في أعمال البيوت، فكون ولدها حديث عهد بالإسلام، ضمن له الطعام والشراب والدعم وأبعده عن “عنصرية العيال” أمام طفل مسيحي فقير ويتيم، أما هي، فلم تغير ديانتها، فهناك على بعد نحو 20 كيلومتراً، تتابع مع “أبونا” مسائل الحياة وعسرها، فيجبرها بشيء من الصدقات، ويسألها عن “عبد السيد“، فتقول “نعمة من الرب“، وحين تعود للبلدة من زيارتها الإسبوعية لدير الملاك ميخائيل في قرية العزب، تسأل عن ولدها في الكتاب، فتجده يحاول حفظ الآيات بعسر، لكنه سعيد بالطعام الذي يرسلونه إليه وبالحياة “الجديدة” التي أكتسبها بإضافة “أحمد” إلى اسمه، بدلاً من “فانوس” اسم والده الراحل في الليلة السابعة.
وكي تستطيع الأم الاحتفاظ بالحسنات من كلا الطرفين، وكي يدخل الولد في “ورق الحكومة” بشكلٍ سليم، احتالت المرأة على “أمهات عبد” بحيلة ذكية. وقتها كان “أمين الطافش” شيخ البلد، من خارج “دار الرماد“، كان وافداً يحمل في قدميه جهلاً بكل تفاصيل البلدة، لكنه “مُعين” بدلاً من شيخ البلد القديم “جابر” الذي غرته الأماني فقتل عسكري إنجليزي ثم فر فلم تعرف له الحكومة أثراً على الإطلاق.
دخلت أم عبد السيد على “الطافش“، بلؤم كان يقبله، معتمدة على جهل الرجل القادم من “نقاليفه” البعيدة جداً – وقتها – عن المدينة، فحدثته عن الولد وكيف أسلم حين رأى في المنام “ستنا فاطنة الزهرا“، وكيف أن له مستقبلاً في كل مجال، وأنها لم تسلم كي لا تقطع عنها الكنيسة المعونة الأسبوعية، إلى آخر هذا “النصب” المعتاد. ثم قدمت مطلبها العجيب المتفق عليه مع تسع من نساء كبار البلد.
“يا شيخ البلد، ولدي اتأسلم بدري، ولا ليه عم ولا خال، وأبوه فانوس بن فوزي بن بسخيرون. ودلوقتي يكبر ويشد ويبقى عبد السيد أحمد بن فانوس!.. يا شيخ البلد وشيال الحمول.. بقولك ستنا الزهرا الطاهرا طلعت له في المنام ووصفها واتأسلم.. يرضيك يعني تخليه في وسط الناس مسخة نص هنا ونص هناك؟.. يا شيخ البلد يا سناد الخلايق..كلهم – تقصد النسوة – أم عبد، وأنا أم عبد، فيها إيه لو الواد بقى عبد السيد أحمد بن كل عبد؟ أهو كلها عباد ربك، وفانوس أنا شايلة أسمه وأهي بتقضى“.
وافق شيخ البلد على تزوير أوراقه الرسمية في الدفتر، واستملح الفكرة، فجعل على اسم عبد السيد شهوداً، وتأكد أن اسمه “لا يأكل طيب الخلايق يا مرة“، بمعنى أنه لا يتشابه مع أحد من أصحاب الأراضي فينازع أهله الميراث لا حقاً.
وبالفعل، جاءت أم عبد السيد أحمد محنية الظهر رغم طولها الفارع، ومعها “أمهات عبد” الأخريات، وبصمن مع أزواجهن ومن تيسر في المجلس على هذا القرار، وكتب شيخ البلد بيده الاسم الجديد: عبد السيد أحمد بن عبد الله بن عبد الشكور بن عبد اللطيف بن عبد الحكم بن عبد الرحيم بن عبد القادر.. هنا وقف شيخ الجامع غاضباً وقال في المجلس:”والله لتنزل عليكم النار تشوي اكبادكم.. يا شيخ البلد انسبوهم لآبائهم هو أفضل عند الله“، ثم برطم بكلمتين بالنحوي فساد الهرج، حتى “هبشت” أم عبد السيد أحمد يد الطافش وهمست “ابن فانوس“.
فصار اسم الولد: عبد السيد أحمد بن عبد الله بن بد الشكور بن عبد اللطيف بن عبد الحكم بن عبد الرحيم بن عبد القادر بن فانوس. وصار اختصاراً “عبد السيد أحمد” ثم اختصر الزمن الاختصار، فصار “عبد أحمد“.
شب “عبد أحمد” لا يفرق بين الألف وكوز الدرة، فرغم ذهابه للكتاب، إلا أنه كان يذهب ليأكل، وكلما سألت عليه أمه الشيخ الضرير الذي يسوس العيال بعصاه وعقيرته، أخبرها بالحقيقة “حمار.. على الطلاق حمار.. مش ابن فانوس الخواص؟ بقولك حمار ابن حمار ابن بهيمة.. تقولي أسم تقولي بقى صحابي تقولي بقى نبي.. ابنك جحش يا ولية“.
لم يكن الشيخ متجنياً، حتى “أم عبد أحمد“، كانت تعي أن هذا الوجه الذي يشبه أباه لن يكون ذكياً أبداً، فالراحل فانوس لم يكن له من الضياء أي نصيب، وجهه مسحول كرغيف فسدت خميرته، وجسده معتل من العمل في غيطان الناس، أما ولده “عبد السيد أحمد“، فكان نعم الابن البار بجينات أبيه وجدوده، مدكوك الجسد، مفلطح الوجهة عريض الجبهة معتل الحركة، تلمح في عيونه ذعراً غير مفهوم، وترى في تصرفاته غباءً متوارثاً وحصرياً.
كبر “عبد أحمد“.. كبر لأن العمر يمضي بقضاء الله حيث لا حيلة فيه.. فهم “عبد أحمد“.. فهم لأنه حتى الحيطان الصماء سوف تدرك أنه غبي فقير بلا مهنة وعليه أن يأكل ويشرب ويتكاثر.. عاش “عبد أحمد في الخلاء دائماً، فأمه التي ماتت لم تكن تملك مكاناً مناسباُ، وبعد واقعة إسلامه كطفل، أعطوها شيئاً مما يشتبه بكونه بيتاً، قطعة أرض خلاء بين مقامي الشيخ خضرا، والشيخ “عب العيش” (العيش هو الخبز والعب هو الجراب أوالفراغ بين رقبة الجلباب والجسد). عاشت هناك قليلاً، ثم سلمت الروح إلى خالقها.
أما عبد أحمد الذي كان عبد السيد بن بن بن بن فانوس، فلم يحزن لموتها ولم يفرح، كان جوعاناً وغبياً بطريقة لا يمكن تصديقها. كل ما يعرفه في الحياة أن أمه كانت تستغل موقع المسكن بين مقامين، لتضع قفصاً على بيضات مقترضات من “أمهات عبد“، ليأكلها المارة بقروش وملح، وربما تجعل لنفسها “كانون” تصنع عليه الشاي الكوبيا (الأسود الثقيل)، وتبيعه للعمال المتجهين من بين المقامين إلى الزراعات في أرض السبخة أو دلة أو حوض سعد وسعيد.
لم يكن يعرف “عبد أحمد” أن القفص هو مصدر رزقه الوحيد، حتى ماتت أمه، فأقبل يقلدها دون فهم، ويشتري منه الناس دون اكتراث، ومرت السنوات والقفص أصبح نصف دكان، والفراغ بين المقامين زرعته البيوت والطرقات، والعابرون إلى الغيطان كل فجر، أصبحوا يركبون “التايوتا” (سيارة بيك آب تويوتا).
ضاق الحال بالرجل الذي لم يتزوج، وجرب أن يفكر فنام من التعب، حتى جرجره الأصدقاء إلى بيت أيمن جلول ليخدمهم ويضع لهم الفحم والجوزة، بينما يشاهدون شيئاً في صندوق مغلق فوقه قطعة من مفرش قديم، يسمونه “الفيديون“.
كان لسان عبد أحمد يتدلى كل ما شعربالإثارة،وحين وجد “علبة تدخل في علبة ورحمة أمي وأبويا، والناس متعبية في علب تطلع على التلافزيون“. انصهر عبد أحمد بكيانه مع هذا الشيء الرهيب المدعو “فيديو“، كان يملكه خمسة أنفار في البلدة كلها، وهو لا يستطيع أن يذهب إلا إذا دعاه أحد من ضيوف جلول الابن، وإلا سينال عقاباً مرعباً (مرة ربطوه في فرع شجرة وتتفوا نصف شعره تقريباً).
وحيثما كان الفيديو،كان بابا للرزق لعبدالسيد أحمد، فسرعان ماظهرت “الشرايط الحمرا“، وتحول موقف العائلات من جهاز الفيديو سريعاً، ولم يجد الشباب مكاناً آمناً لهذا “الغرض” إلا بيت “عبد أحمد” الذي تحول لمقهى مرتجل بين مقامين جليلين، يشاهدوا فيه ما يحبونه.
عاش عبد أحمد “على قفا الاختراع“، فهو لا يفعل شيئاً سوى الذهاب كل يوم والنوم على الدكة أمام “قهوة عبد أحمد” التي تدر عليه دخلاً غير عادي.. انتشر اسم القهوة و“مهنتها“، حتى ثار الناس ضده وضربوه حتى سال الدم من فوقه وتحته. وحين هدأت المعمعة، قرر أن يحولها إلى مكان يعرض الأفلام المصنفة هندية وتركية، تلك التي لا يؤجرها سوى “فيديو القزاز” بمنطقة التفتيش، حيث يجد الشباب شيئاً من الراحة، والكثير جدا من الأغاني والبهارات التي قد تغنيهم عن “المهمة القديمة“.
ظلت قهوة عبد أحمد علامة بارزة في التاريخ.. تاريخ المنطقة، وتاريخ البشر، وحتى تاريخي الشخصي، فحين ذهبت إلى هناك للمرة الأولى خائفاً أحاول أن أداري خوفي بطولي غير المتناسب مع سني، وبمشية “مبهرجة“، تخفي اضطراب نفسي، لم أكن خائفاً من القهوة التي تحولت إلى وكر لكل جديد، فإذا أردت أن تشاهد فيلما، ستذهب إلى “عبد أحمد“، وإن أحببت أن تناقش عملية سرقة مع زملائك فلتذهب عند عبد أحمد، ولو أن لديك نميمة بعد ليلة قضيتها في حضن شربات زوجة سيد لامؤاخذة (له قصة منفصلة مدهشة)، فستحكي لمن تريد عند عبد أحمد.. أيضاً إن كنت طفلاً في جسد مراهق يعرفك القاصي والداني وتريد أن تجرب الدخان، فسوف تذهب حتماً إلى قهوة/ غرزة/ وكر عبد أحمد، لتجده نائماً، لأن التاريخ يبدأ عنده، ولا ينتهي أبداً.