خطبة الوداع .. البلاغة والبيان اللغوي في آخر كلام النبي
-
مي محمد المرسي
مي محمد المرسي صحافية مهتمة بالتحقيقات الإنسانية، عملت بالعديد من المؤسسات الصحافية، من بينهم المصري اليوم، وإعلام دوت أورج ، وموقع المواطن ، وجريدة بلدنا اليوم ، وغيرهم .
كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال
ترتقي البلاغة والفصاحة النبوية في خطبة الوداع أعلى مراتب البيان البشري، فالبلاغة في الكلمة والقول هي أن تؤدي معنًا وتترك أثرًا في النفوس، وإذا كان من شأن العرب أن يتكلفوا في القول إلى حد التعقيد فالنبي محمد صلى الله عليه وسلم كان يسترسل أحاديثه إلهامًا ربانيًا ببلاغة سليمة لا يعتريها صعوبة.
وكان في نشأته ونسبه أثرا في تكوين معجمه البلاغي فقد ولد ونشأ في أفصح قبائل العرب، فولد في بني هاشم وأخواله من بني زهرة ورضاعه في ديار سعد بن بكر ونشأ في قريش لذا قال النبي : “أنا أفصح العرب بيد أني من قريش ونشأت في بني سعد بن بكر”، فتلك النشأة والعناية التي أعطاها له الله كانت من قبيل الكمال البشري إذ أرسله في أفصح العرب فكان أفصحهم.
وقال الجاحظ وهو رب البلاغة قال في وصف بلاغة وبيان النبي صلى الله عليه وسلم الجاحظ :” هو الكلام الذي قل عدد حروفه، وكثر عدد معانيه، وجل عن الصنعة، ونزه عن التكلف، واستعمل المبسوط في مواضع البسط، والمقصور في موضع القصر، وهجر الغريب الوحشي، ورغب عن الهجين السوقي، وهو الكلام الذي أ الله المحبة عليه وغشاه بالقبول، وجمع له بين المهابة والحلاوة وبين حسن الإفهام، وقلة عدد الكلام”.
بلاغة خطبة الوداع
وفي خطبة الوداع الذي ألقاها النبي في الحجة الأولى والأخيرة المثال على كيفية توظيف البيان والبلاغة دون إقحام للحلى اللفظية والتعقيد اللغوي ليفهمها العامة والخاصة مقرونة بأسلوب وأداء للألفاظ دقيق لتطابق السمت الأسلوبي العام للخطابة عمومًا والخطابة الدينية بشكل خاص، حيث التزم الخطيب بالوضوح التام فتكاد لا ترى لفظ غريب مثلا يحتاج للبحث المعجمي، بالإضافة إلى الحجج الدقيقة في مواضعها.
“الحمدُ لله نحمدُهُ وَنَسْتَعِينُه، ونَسْتَغْفِرُهُ، ونَتُوبُ إليه، ونَعُوذُ باللهِ مِنْ شُرورِ أنْفُسِنا ومِنْ سيّئآتِ أعْمَالِنَا مَن يَهْدِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ، ومَنْ يُضَلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ. أَمَّا بعد” :
في مفتتح خطبة الوداع بدأ النبي بالحمد والثناء على الله، وكان هذا فيما بعد صورة مرسوما وميثاق للخطابة الدينية إلى الآن ونموذج احتذاه الخطباء على المنابر، وفي هذا القول الموجز البليغ لجأ النبي إلى الله ليرفع عنّا دنايا أفعالنا ويرشدنا إلى الطريق القويم وهي عبارة من جوهر الإيمان.
ثم يبدأ بقوله “أيها الناس” فكما هو معروف أن النداء بأي إنما يدل على القرب، فأراد النبي أن يعطي صورة لتلاحم المسلمين بالإضافة إلى الحنو في التكوين الصوتي للكلمة فكأن الناس قريبون منه يناديهم بأعذب الكلمات ليستميل قلوبهم ويرفع الهوة بينهم وبين معلمهم وهاديهم.
و مازلنا في الاستهلال الدقيق للخطبة حيث يقول النبي:”اسمعوا قولي” في هذا وجهان في التعبير البلاغي، فممكن أن نحمل الأمر على أنه حقيقي، وممكن أن نستعمله على الصورة المجازية وإن كانت الصورة المجازية أقرب للتناسب مع مفتتح الخطبة حَسَبَ مناسبة المقام فلا تهديد هنا ولا تعجيز، بل يمكن أن نقول أنه تفاوت بين الرقة والتلطف وبين الشدة التي يحملها الأمر الحقيقي مدلولاً من مدلولاته، وما يدل على أن هذا الأمر مجازي؛ الأمر من العبارات يعزز مجازيته، وذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: “فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا…” فجملة المقطع تتسم بالانسيابية وهدوء النبرة، مما يتسق مع مجازية الأمر السابق على هذا المقطع، ولما في الأمر الحقيقي – لو كان المراد – من القوة والشدة.
إن جو الكلام منذ استهلاله يوحي بأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد وقف وقفة الوداع، فأراد أن يقرر حقيقة رحلة الإنسان من حياته الدنيا، بتقريره أنه – وإن كان رسولاً يوحى إليه – فهو لا يدري متى سيكون رحيله.
“لعَليّ لاَ أَلْقَاكُمْ بَعْدَ عَامي هَذَا، بهذا الموقف أبدا”.
حملت الأداة” لعل” في الدلالة الترجي، وإذا تأملنا سيقا الكلام نجد أنها خرجت من المعنى اللغوي إلى المعنى المجازي بل إلى معان عدة منها التمويه والترجي لكن الأقرب هو التقرير وإشعار بدنو الأجل، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم أراد أن يجعل الأمر مرهوناً بالآجال التي قرر أنه لا يدري مواقيتها.
كحرمة يومكم هذا، وكحرمة شهركم هذا
وفي جلال التوكيد نلاحظ أن النبي في كل مقطع انتهى بقوله” هذا” وتكرار اللفظ في العموم يعمل على إيقاظ الحواس وتحفيز النفوس واستيعاب القضية بكل الحواس النفسية والفكرية بالإضافة إلى التنغيم الناقذ للروح، ليشعروا بمدى كلمة” حرام في النفس المسلمة، فحرمة الأموال المنهوبة وحرمة الدماء وحرمة القضايا التي نغصت على العرب معايشهم قبل الإسلام كل هذا شكل نجاة أوضحه البيان النبوي في تناغم لفظي ذا غاية معنوية فريدة.
إذًا نحن أمام صياغة بلاغية جمالية أجمعت خصائص البلاغة والبيان النبوي حد قول الرافعي ثلاث صفات هي:” الخلوص والقصد والاستيفاء “.
الكاتب
-
مي محمد المرسي
مي محمد المرسي صحافية مهتمة بالتحقيقات الإنسانية، عملت بالعديد من المؤسسات الصحافية، من بينهم المصري اليوم، وإعلام دوت أورج ، وموقع المواطن ، وجريدة بلدنا اليوم ، وغيرهم .
كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال