عن الحب وشياطين أخرى
-
أحمد الفخراني
روائي وصحفي مصري
كاتب نجم جديد
الحب كمرض أو كلعنة، كمس شيطاني يتملك الجسم، هي استعارة ماركيز عن الحب، التي كتبها في روايته الأشهر، الحب في زمن الكوليرا، لكن في رواية متأخرة زمنيا “عن الحب وشياطين أخرى” يقارب الاستعارة مرة أخرى لكن في بناء أكثر بساطة ووضوحا لكنه أيضا أكثر كآبة وأقل هزلا، ورغم أنها واحدة من رواياته الأقل شهرة، إلا أنها واحدة من أجمل روايات ماركيز في رأيي، إنها فقط خادعة، لأن خبرته بالكتابة توهمك أن تلك الرواية كتبت بلا مجهود.
في تلك الرواية لا ينتصر أبطال قصة الحب في النهاية، عبر إيمانهم به، كما حدث في الحب في زمن الكوليرا، تنتهي العاشقة كشهيدة تقتل تحت وطأة التعذيب، والعاشق كمنفي محروم في مستشفى للجذام، أمنيته الوحيدة هي أن يصاب بالمرض، لكنه حتى تلك الأمنية لا تتحقق.
لا يفصل ماركيز بين الحب والشهوة والعذاب وأشواق المحبين التي لا يزيدها الإشباع إلا تأجيجا، أي بين الشاعري والحسي، وهو أمر مناسب لبلد كرنفالي مجنون ككولومبيا، الرواية من البداية إلى النهاية هي عن أشخاص مجانين، من وقفوا مع الحب ومن وقفوا ضده، يحركهم هوس بفكرة، كالماركيز والطبيب في حواراتها الثرية عن الإيمان والإلحاد وضرورة كليهما معا، يبدو الماركيز هنا كذكر مستنزف يخشى العالم، شاحب وكئيب، تمتص الخفافيش دمه أثناء النوم، وكل ما يهمه هو الرقود على أرجوحة شبكية. في مقابل الأم التي ترغب من البداية في موت الابنة لأنها تذكرها بكل ما تكرهه في الأب، وكذلك الأسقف والراهبات المهووسون بإثبات أن ما تعيشه ماريا هو مس شيطاني يستوجب العلاج والتطهر، بينما هو في حقيقته قمع لحريتها ومشاعرها البكر، والحب نفسه بين كاتينو دي لاورا وماريا قد لا يكون إلا عرضا لهوس.
وإن كانت قصة الغرام في الحب في زمن الكوليرا، تدور في أجواء وباء، فإن الغرام في رواية الحب والشياطين أخرى، هو الوباء عينه، داء سعار يسببه عضة كلب وهو ما يفتتح به ماركيز روايته، ذاكرا أن السعار منتشر في القرية كوباء، وأن حالة ماريا لم تكن الأولى.
كما أن تلك الرواية تشرح بشكل واضح كيف تعمل الواقعية السحرية في ذهن ماركيز، وكيف يخلط في براعة وبدون تكلف، بين المادة الواقعية والمتخيلة، حيث يتساوى ما حدث فعلا مع الأسطورة التي خلقتها الشعوب.
ففكرة الرواية نفسها هي ابنة الاثنين معا، الواقعي والمتخيل، فعندما كان لا يزال صحفيا ناشئا، أرسله رئيس التحرير الصحيفة التي يعمل بها للحصول على معلومات عن دير قديم منعزل تجري فيه أعمال تنقيب عن عدد من مقابر الراهبات، من أحد الأقبية يظهر ما يقارب 22 مترا من شعر بني محمر معلقة في جمجمة أنثى صغيرة السن، وكتب على قبر صاحبته “سيرفا ماريا دي تودوس لوس أنجليس”، يخبره رئيس عمال الحفر أن ما يراه هو أمر شائع، حيث يمكن أن ينمو شعر الإنسان سنتميتر واحد في الشهر بعد وفاته.
صغيرا، أخبرته جدته قصة سيرفا ماريا الطفلة ذات الاثني عشر ربيعا، والتي كانت تملك شعرا طويلا على الأرض وتوفيت بسبب عضة كلب مسعور، ووقرها سكان الكاريبي كقديسة بسبب معجزاتها.
ما يكشفه ماركيز أن الحب هو بالفعل قوى الشيطان بربطه بالعادات الأفريقية الصاخبة والحيوية، لكن تلك القوى هي قوى الحياة نفسها، أما الشيطان الحقيقي فهو كل ما وقف في وجه تلك القوى كي تتفتح، الأرواح الشريرة تتجسد في الأسقف والراهبات اللذين قتلوا ماريا بقسوة التعذيب كي يطردوا ما ظنوه الأرواح الشريرة التي تتلبسها.
الكاتب
-
أحمد الفخراني
روائي وصحفي مصري
كاتب نجم جديد