اسمي عبد الوهاب.. عبد الوهاب المجنون
لم يكن طوله الفارع وبدنه الأسمر الفاحم وقوته البارزة تمنع عنه الأذى.. يقذفه الناس بالطوب كلما اقترب من عتبات الدور، ويلاحقه الأطفال الملاعين بوابل من الحصى والشتائم حتى يخرج مطارداً من حارة إلى عطفة، بينما فمه مغلق وهو يزوم كما البومة في مواسم التزاوج.
لم يعرف أصله أحد، في بلدة كل من فيها يعرفون أسماء أربعة عشر جداً ضاربين في عمق التاريخ، بدا عبد الوهاب المجنون كثغرة في جدار التسلسل الحاكم بين الجميع.
قالوا أتى من لا شيء، ذات يوم خميس خرج من بطن بحر «تنهله» بقلب المدينة، عارياً كما ولدته أمه، وما إن نفض الماء عن جسده اللامع، حتى سار مرفوع الرأس وسط سوق للخضار حيث تحجرت عيون النساء على كتلة الأبنوس العملاقة ذات العيون الوسيعة والأشياء المفتقدة في رجالهن، أنصاف المقعدين.
كان خروجه حديث الناس، تجمع أصحاب السمر حول نيران الشاي والذرة في الغيطان، يحكون عن هذا الذي مسح الفيوم كلها من أقصاها إلى أقصاها، ماشياً ببدنٍ عارٍ، وقبضة مضمومة، وحركة ساقين ما بين الرقص وخطوت الجنود المخضرمين.
لم يجرؤ أحد على ستر بدنه العاري.. طيلة شهر كان عبد الوهاب يسير عاري الجذع في الشوارع تحت الشمس، يمر بالأسواق وعتبات البيوت وينظر دائماً أمامه، لا تحركه كلمات السباب، ولا تعجبه تنهيدات الحسرة المنبعثة من بيوت تداري خيبتها بكناسة العطار وأحجبة الدراويش.
لم يكن الشتاء يؤثر في بدنه اللميع، فتراه تحت المطر كما تراه في صحو الشمس، سائراً لا يبالي بشيء، أما طعامه وشرابه، فلا أحد يعلم من أين يأتي بهما، وحسب روايات نمامين كبار في البلدة، لم يره أحد يتذوق الزاد أو يشرب من الترعة، أو يجمع عقب سيجارة ليدخنها كما يفعل العيال والفقراء.. نشاطه الوحيد، هو استعراض بدنه أمام العالم في تحدٍ صامت، لا يقطعه إلا صوت باطني يزوم كلما دخل حارة أو خرج منها.
اجتمع الرجال في الحقول لبحث شأن هذا المارد الجبار، قالوا فلنطرده من بيننا، لكن عيونهم الكسيرة، أدركت أن حسرات نسائهم لن تتوقف، وصورته في المخيلة لن تغادر بعد أن يغادر جسده.. قرروا اذن أن يبقى، لكن وفق شروطهم.. ذهب ثلاثة من أشداء البلد إلى حيث ينام عبد الوهاب في الجرن القديم، أخذوا معهم طعاماً، وثلاث جلاليب كالحة، وعلبة دخان وأخرى للنشوق.
بعد قليل عاد الثلاثة هاربين مفزوعين إلى اجتماع الرجال، وبدوا متوترين للغاية وهم يروون كيف زام بعنف أمامهم، ثم قال «عبد الوهاب»، وانتفض واقفاً فجأة فانخلعت قلوبهم، وحين تجرت عيونهم على شيئه الهائل، ألقوا ما بأيديهم ثم فروا هاربين.
كانت الحكاية تطن في البلدة وحلقات السمر وجلسات النساء المشتاقات على الأسطح، احتار الجميع في هذا الفحل البري وطريقة ترويضه، ذهبوا لساحرين على الأقل، وخاطبوا خمس حكماء وشيوخ وقساوسة وأحبار يهود، غير أن الحل تأخر كثيراً، لدرجة أن طفلا في الخامسة من عمره، كان قد بلغ الخامسة عشر، حين شوهد عبد الوهاب للمرة الأولى مرتديا «جلابية على اللحم»، خارجاً في ممشاه اليومي المتحدي وسط طرقات البلدة الضيقة.
قالت النسوة إن مراهقاً ذهب للجرن قبيل المغرب، ومعه غجرية جرها جراً عبر الحقول حتى وصلوا إلى الجرن، في وقت كان من المفترض ألا يراهم فيه أحد، وحين أشرقت شمسه بين قرنيها، وجد المارد الأسمر الهائل يقف أمامه منتصباً من كل شيء.
فزع الولد من هول الصدمة وفارقه الوعي، أما الغجرية، فهرولت عارية وسط الغيطان تصرخ من الصدمة، حتى اصطدمت بتعريشة عنب أمام بيت السيد عبد الحميد جلول، ففقدت الوعي.
حين أفاقتها زوجة السيد، روت البنت كل شيء.
*
قالت النسوة إن زوجة السيد أجرت تحقيقا مهنيا مهيباً مع الفتاة، فالسيد الذي ينام من العصر حتى صلاة الفجر، لا يوقظه جوع ولا رغبة، وزوجته التي جاء بها في عمر أولاده، تجلس مكدودة الروح في انتظار ما لا يأتي، وحين ارتطمت الغجرية بتعريشة العنب، سمعت الزوجة فرقعة فحسبت أن البهائم «سابت» من حبالها الغليظة، وحين خرجت للتفقد، وجدت بنتاً تصغرها بعام أو عامين، عارية وممددة على الأرض، فيما رأسها يزينه الدم وبعض من خشب التعريشة.
النسوة المحترفات مثل زوجة «جلول» لا يتركن هكذا فرصة دون إثبات القسوة والسيطرة.. أفاقت البنت، وألقت عليها بردعة نزعتها من ظهر الجحش الصغير، وأمسكت سيخ الفرن البلدي، وهددتها:«انطقي يا كلبة».
روت البنت المفزوعة من السيخ والوجع يشق رأسها:«شافنا يا عمتي.. العفريت شافنا يا عمة، ووقف ليله فوق راسي»، روت البنت أن عبد الوهاب خرج لهم في الظلام فجأة بجسده الفارع الذي جاوز المترين، وسمرته اللامعة التي لهول قتامتها تكاد أن تضيء الشوارع.
طردتها زوجة «جلول»، وجلست وحدها تفكر في رواية البنت التي وصفت بدقة الغجريات المتنقلات، طبيعة ما كان، ورسمت في ذهن المرأة ذات الأسياخ، صورة خرافية لهذا «العبد» «الوهاب» الذي لم يكن يمر في شارعها كثيراً.
*
في اليوم التالي، فوجئ الجميع بالمجنون وقد ارتدى جلبابا متسخاً يسير بينهم ذات المسيرة التي تشبه حركات النازيين وتطويحات الدراويش في وقتٍ واحد.
سرى الخبر في البلدة كما تسري الشائعات المعقدة، وانتشرت نميمة النساء على أسطح المنازل، وسالت الحكايات من أفواههن حتى صبت في آذان الرجال نقلاً عن نقل عن نقل، فصارت حكاية الغجرية والمراهق، أشهر من أي شيء، وحين مر عبد الوهاب «مستوراً» أمام الجميع، كانوا يودون لو أن في قلبه مثال ذرة من عقل ليسألوه:«اشمعنى دلوقتي؟».
كان اللغز محيراً وكاسحاً، فالرجل الذي عاش لسنوات يعرض جسده كاملاً لشمس النهار، ويغسله بالمطر، أصبح واحداً «منهم»، من أولئك الذين لا يحتك الهواء بأجسادهم لعقود طويلة، إلا في لحظات الخلوة أو الخلاء.
كيف يمكن لجبار مثل عبد الوهاب أن يغير من نفسه فجأة ويتحول إلى «واحد منهم»، لمجرد أنه رأى مراهقاً يتحسس طريق الدنيا بين قرني غجرية في أقصى الغيطان؟.
عاش عبد الوهاب عريانا جميلاً، طويلاً كشجر الصفصاف، عارياً كخشب الأبنوس الغالي الفواح، ماشياً كمن يحركه القدر بنفسه كل صباح كي يمر على الطرقات فتشهق النسوة، ويدمدم الرجال، ويطارده الصبية بالطوب والكلام القبيح دون أن يلتفت.
يوماً إثر يوم، كان عبد الوهاب يتغير، في البداية تلصص عليه سبعة من أشقياء الحي، فوجوده يعود لمكنه في شرق الجرن، ليخلع جلبابه وينام عارياً كما كان يسير من قبل الموقعة، وحين يسيقظ في الصباح، كان يحمل جلبابه على بدنه ويطوف في الأنحاء بجدية وصرامة وبلا هدف كما كان يفعل منذ سنوات طويلة.
تغير عبد الوهاب كثيراً، لاحظ أكثر من رجل أن عبد الوهاب يحمل طعاماً في يده، مرة حبتين من الطماطم، ومرة وجدوه ينهش الكرنب في الغيطان، وآخرى كان يُرى وهو يمد بوزه إلى «الطلبمة» كي يشرب مع العيال، فيما كانت آخر مرة شاهده فيها الناس، في ليلة النصف من شعبان، والقمر بدرٌ يخرق ظلمة الليل، بينما يتمدد عبد الوهاب ميتاً في مكانه، حيث نام للمرة الأولى وهو يرتدي الجلاليب الثلاثة خوفاً من البرد والانكشاف.