همتك نعدل الكفة
535   مشاهدة  

عم مشمش.. أول ظرفاء حياتي

عم مشمش
  • شاعر عامية وقاص مصري مهتم بالشأن النوبي ونقد الخطاب الديني

    كاتب فضي له اكثر من 250+ مقال



شارع كلوت بك منحني كم من الحواديت أظنه لا نهائي، منها العالق في الذاكرة ومنها شبه المنسي تحت ركام الزمن.. بس شوية هوا نتيجة حدث هنا أو هناك يتزاح التراب ويبان طرف الحكاية.

سليط اللسان… بس في حاله

هكذا هو عم مشمش، أسطى تشغيل معادن متميز في صنعته، ذكر مصري تقليدي، خفيف الظل سليط اللسان، طريقه سالك لوجدان أي شخص لم يستغنى عن قلبه ليوفر مكان يصلح لتخزين كراتين بيض مخفضة السعر.

بس في نفس الوقت عايش في حاله، خط سيره من بيته في كلوت بك إلى الورشة في الضاهر والعكس، هكذا في صمت تام. أي حديث مطول لا مجال له إلا العمل أو مع أصدقاء مقربين، وأي عنف مقصور على أسرته.. هي دي طريقة التربية اللي يعرفها، وأي محبة موجهة لدائرته الضيقة وعلى رأسها…. قفايا.

أما لسانه الفالت بخفة دم مصرية أصيلة فمصروف للجميع، بس في نفس ذات الوقت.. مابيخدش راحته إلا في أضيق الحدود.

عم مشمش

مهن تتأكل

في عالم أخر، يتقاطع جغرافيًا مع عالم عم مشمش، يوجد البربري.. صنايعي ماركة شيكابالا، أو ما يعرف إعلاميًا بـ “ابن الشركة”، استورجي موبيليا.. أنا ماقدرش أقيم مستواه لسببين.

أولًا: كنت صغير في السن وقت تأكل مهنته، ع الأقل حدانا في المنطقة.

ثانيًا: أنا من أبناء الطبقى الوسطى الدُنيا، بالتالي صيانة رونق الموبيليا مش ضمن اهتمامتنا.

عم مشمش

العنصرية هتفرتك الكلوت بك

البربري لقب لأن “محمد” غير قادر على تأدية وظيفته كأسم.. وهي التمييز، و”المحمد” المشار إليه لونه غامق سيكة، طبعًا مش بُني زي حالاتي، بس غامق بالقدر الكافي للمواطن المصري اللي لونه قمحي -لون خيرك يا مصر-  إنه يلقبه بـ “البربري”.

من أسطى إلى سيكا

كان محمد البربري يعمل كصنايعي لدى المعلم حسن الدمياطي، أحد أوائل تجار الموبيليا الدمايطة اللي عرفوا طريق القاهرة أيام الانفتاح.

بعد وفاة المعلم، الله يرحمه، حول أبناءه المحل لتجارة أقمشة تنجيد الموبيليا، الأمر الذي أفقد صنعة الأسطى محمد البربري أهميتها بالنسبة للورثة.

ولسبب لا أعرفه قرر البربري التخلي عن مركزه كصنايعي في مقابل البقاء كعامل في المكان نفسه، وهكذا تحول محمد البربري من أسطى (أيً كان مستواه) في مصنع أهلي لتصنيع الموبيليا إلى “سيكة” في محل لبيع أقمشة تنجيد الموبيليا.

عم مشمش

عوالم مختلفة ومدارات متقاطعة

الاختلاف بين الرجلين ليس فقط في مجال العمل.. كمان في تركيبة كل شخصية، الثاني رجل تآكلت أهميته أمام عينيه، والأول شخص يكره الاحتكاك باللآخرين لأبعد الحدود، لدرجة إنه لما اشترى موتوسيكل.. كان بيركنه في جراج العتبة.

يعني تقريبا بيمشي للوصول له ما لا يقل عن 30% من المسافة بين البيت والورشة.. وده طبعًا في سبيل راحة دماغه من أي احتمالات رغي بخصوص ركنه تحت البيت أو جوه مدخل العمارة. وبسؤاله عن هذا القرار الغريب قال: ما أنا مش عشان أريح رجلي هاوجع راسي.

عم مشمش
عم مشمش (خالد سعد)

بس العالمين دول يتقاطعوا جغرافيًا في أحد الشوارع الجانبية المتفرعى من شارع كلوت بك، حيث يعمل البربري في محل ملاصق لبيت عم مشمش.

الأمبراطورية الوهمية

المتعارف عليه أن كل محل بينضف حوالي مترين قدامه وبعرض المحل، حاجة كده زي المياه الإقليمية، لكن خلال رحلة البحث عن دور توسع البربري في عملية كنس ورش الشارع.. وكأنه أمبراطورية وليدة صاعدة.

بحكم التقارب الجغرافي مدخل بيتنا بقى بيتنضف قصاده طول الوقت، وفي الواقع إحنا أصلًا مش طرف في أي حاجة ممكن تكون مرمية في الأرض.. بالقطع هي بتاعت محل تبع البيت اللي إحنا ساكنين فيه.

مساحة تلك الأمبراطورية التنضيفية تمتد لحوالي 5 محلات يمين و3 محلات فقط شمال، لأن الناحية دي منطقة نفوذ محسن القهوجي.. أكتر شخص بيرش مية ممكن تقابله في حياتك.

عم مشمش

لحظة التماس

في يوم من ذات الأيام أثناء تنضيف البربري للمنطقته لقى كيس زبالة مرمي على جنب، وحسب روايته هو شاف الكيس ده أمبارح جوه حوش البيت عندنا، واللي مانعرفش لحد النهارده هو كان بيعمل فيه إيه؟.

المهم إنه بناء على دخوله غير المبرر جوه بيتنا ولتقليبه فيما يوجد أمامه وحفظه للمخلفات، أصبح متضايق أن فيه حد من عندنا رمى كيس الزبالة ده قصاد أحد المحلات في منطقة نفوذه التنضيفي.

قصة ملعبكة وتافهة مش من الموفق خالص أن حد يحكيها لعم مشمش أصلًا.. ما بالك وهو لسه صاحي. بس لسوء حظ بربري وحسن حظ كل من تابع المشهد.. كان عم مشمش هو أول النازلين من البيت بعد أكتشاف الكيس.

كعادته خرج عم مشمش من باب البيت بخطوات سريعة في اتجاه الشارع الرئيسي، كلوت بك، فاستوقفه نداء أ. حمدي تاجر الكراتين.

  • يا أستاذ خالد.. يا أستاذ خالد.

توقف عم مشمش واستدار باندهاش يشوف مين اللي بينده عليه في الشارع، فأكمل أ. حمدي بأدبه المعهود.

إقرأ أيضا
نعي
  • دقيقة واحدة بعد أذنك.

رجع عم مشمش في سرعة وعلى وجهة ابتسامة واضح تماما إنها من باب المجاملة ليس إلا.

  • صباح الخير يا أ. حمدي…. خير؟

تحية وسؤال في جملة واحدة قصيرة حاسمة، طريقة جعلت أ. حمدي يتراجع عن تولي مسؤولية شرح مشكلة محمد البربري، فأختار أن يشير نحوه وهو قول:

  • محمد البربري زعلان من موضوع كده يخص البيت.

بنفس الخطوات القصيرة السريعة تحرك ناحية الشخص المشار إليه، ووصل له في لحظات. لحظات خلالها كان محمد البربري يهئ نفسه لخوض “حدث اليوم”، رتب الكلمات في حلقه بعناية وجهز نبرة الصوت المناسبة.. سحب من رفوف مشاعره كل الريآكشنات والنظرات الوارد استخدامها.

عم مشمش

فرق الإيقاع

وصل عم مشمش بسرعة ونشاط.. وصبر منتهي تمامًا، فاستقبله البربري بنُص كتف ورأس مطأطأ بالإضافة لنظرة مُنكَسِرة مع مسحة عتاب رقيقة. وضع عم مشمش كفه على كتف البربري وسأله:

  • أنت محمد البربري؟

بلهجة مناسبة تمامًا لكوم الأحاسيس اللي تم صرفه رد

  • أيوه.

أكمل بنفس النبرة السريعة المقتضبة

  • أنت زعلان؟

وصل بربري لـ”الكيوه” المُنتظر… والميزانسين جاهز، رد بالإيجاب يليه استدارة بطيئة محملة بالآسى.. ثم يبدء المنولوج الذي أعده بعناية، عن الجيرة والعشرة والنبي اللي وصى على سابع جار إلى أخر كلاشيهات الحارة المصرية كما وردت في كلاسيكيات السينما المصرية.

  • أه

طبطبت كف عم مشمش على كتف البربري مرتين سريعتين منزوعتي المشاعر، في نفس اللحظة التي نطق فيها لسانه بتقريرية قاتلة.

  • ماتزعلش.

ومضى في حال سبيله. أكمل البربري استدارته البطيئة فلم يجد أحد أمامه، فقط أ. حمدي على باب محله يحاول كتم ضحكة واضحة في عينيه.. وفي نهاية “الدُحديرة” المؤدية إلى شارع كلوت بك يبتعد عم مشمش ليلحق بروتين يومه الذي بدء بمشهد لا يخصه في شئ، مشهد أدرك من أول وهلة إنه هيخلص على معلش.. فقدمها سريعة وقاطعة… ولا تنسى.

رحمة ونور على روح عم مشمش وكل حد من الشخصيات دي لو كان سبقنا.

الكاتب

  • عم مشمش رامي يحيى

    شاعر عامية وقاص مصري مهتم بالشأن النوبي ونقد الخطاب الديني

    كاتب فضي له اكثر من 250+ مقال






ما هو انطباعك؟
أحببته
4
أحزنني
1
أعجبني
4
أغضبني
0
هاهاها
6
واااو
4


Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
‫إظهار التعليقات (2)

أكتب تعليقك

Your email address will not be published.







حقوق الملكية والتشغيل © 2022   كافه الحقوق محفوظة
موقع إلكتروني متخصص .. يلقي حجرا في مياه راكدة

error: © غير مسموح , حقوق النشر محفوظة لـ الميزان