فقرة إعلانية فاصل ونعود
-
عمرو عاشور
روائي وكاتب مقال مصري.. صدر له اربع روايات بالإضافة لمسلسل إذاعي.. عاشور نشر مقالاته بعدة جرائد ومواقع عربية منها الحياة اللندنية ورصيف٢٢.. كما حصل على عدة جوائز عربية ومنها جائزة ساويرس عن رواية كيس اسود ثقيل...
كاتب نجم جديد
نحن جيل تربى على التلفزيون، أحب برامجه، وعشق أفلامه، وتعلق بمسلسلاته، وبالطبع تأثر بإعلاناته.
الفقرة الإعلانية حيث صوت طارق نور الذي تخلل جميع إعلانات التسعينات، أفكاره التي أدهشت الجميع، وجعلت للإعلان مذاق فني خاص، ليصبح واحد من أكبر رجال صناعة الإعلان في الوطن العربي.. مَن من جيلي بإمكانه أن ينسي شقاوة ياسمين عبد العزيز، وغموض حسن عابدين وسر شوبيس العظيم، ونعيمة الصغير بصوتها الأجش؟
كل جيلي تأثر بالإعلانات، بألحانها وكلماتها خفيفة الظل وأفكارها المتنوعة، حتى أننا كنا في الرحلات المدرسية نغنى جميعاً مقاطع من تلك الإعلانات، أذكر منها على سبيل المثال الحملة القومية لمقاومة دودة البلهارسيا، والغناء الجماعي بأتوبيس الرحلة “انتي يا اللي قاعدة وناسية.. ناسية إن الدودة هنا راسية” .
وينطلق من بيننا صوت يتساءل بلهجة ريفية متعجبة: “دودة إيه؟”.. فنرد: “دودة موجودة.. تحتيكي في الميه”. فيشهق ويخبط صدره: “يا ختي اسم الله.. اسم الله عليا”
هكذا أصبح الإعلان جزء أصيل من ثقافتنا، وربما تراثنا، دون أدني اهتمام بما يروج له الإعلان… ثم انتهي عصر القنوات المحلية ليحل محلها القنوات الفضائية بما لها وما عليها، وتتبدل الفقرة الإعلانية لتصير فواصل إعلانية، وبدلاً من عرضها في أوقات خاصة ومحددة نجدها تقتحم المسلسلات، تفصلها وتفصلنا عنها.
غير أن صناعة الإعلانات قد تطورت تطور عظيم.. الإعلان في الأصل فن مكثف كوجبة خفيفة ممتعة وسريعة الهضم، يعتمد على الأفكار المبتكرة والمدهشة، ويستعين بمن لديهم جماهيرية عريضة من أجل الترويج لمنتج ما سواء كان هذا الترويج يتم بطريقة مباشرة أو غير مباشر.
في رمضان ستطاردك الإعلانات أينما كنت.. ستلاحقك في كل مكان، وعبر كل الشاشات التي ستسقط عليها عينك.. لعل ذلك قد يدفعك كمشاهد للتذمر، خاصة وأنها تفسد عليك المسلسل الذي تتبعه.. أما أنا فـ على النقيض، أفضل الإعلانات وأراها أكثر متعة وفنًا من غيرها، وأنتظرها بصبر فارغ، وأطاردها عبر القنوات.. بالطبع لدي أسبابي، التي يمكن عرضها من خلال إطلالة على بعض الإعلانات ، فـ المتابع الجيد لتلك الإعلانات سيلاحظ
أولاً: الإعلانات عمل فني يعمل على إحياء الفنون التي ظن النقاد بأنها اندثرت بالفعل، مثل: الدويتو.. وهو ما نراه في إعلان نانسي عجرم وكريم كرارة مثلاً، والأجواء العجائيبة التي تحيط بهما.. الاسكتش: سواء استعراضي كما قدمته روبي ودينا الشربيني أو مسرحي كما قدمه سمير غانم وإيمي وطه دسوقي..المنولوج: كما نراه ونسمعه في إعلان أحمد أمين.. الطقطوقة: وهي السمة الغالبة بمعظم الإعلانات.. البطولة الجماعية: ففي إعلان zed مثلا سنجد أكبر مجموعة من النجوم مجتمعة في عمل واحد، حتى أننا لا يمكن أن نري تلك التشكيلة الفنية بعمل سينمائي أو درامي..
وهو ما ينقلنا إلى ثانياً: الاستعانة بمن لديهم جماهيرية عريضة وإمكانية توظيفهم بمهارة بالغة.. لا شك أن صاحب الشعبية نجم محبوب وله عشاقه الذين تستفيد منهم شركات الإنتاج، وقد يكون هذا النجم لاعب كرة مثل محمد صلاح أو معلق رياضي كمدحت شلبي أو نجم مهرجانات كـ حسن شاكوش أو مطرب شعبي مثل عدوة أو حتى داعية إسلامي..
في الحقيقة حاولت حصر عدد النجوم الذين قدموا إعلانات. غير أنه لا يمكن حصرهم، عدد هائل من النجوم الذين نعشقهم وننتظر أعمالهم أيًا كانت.
ثالثاً: الأفكار، وهي العمود الفقري لأي عمل فني، والتي جعلت من الإعلان فن يقترب من (فن النكتة (وهي أصعب الفنون على الإطلاق، فالنكتة تشبه القصة القصيرة شديدة التكثيف والتي لا بد لها أن تنتهي بإدهاشك وإضحاكك وإلا أصبحت بايخة وبلا قيمة. وكذلك الإعلان الذي يعتمد على التكثيف الشديد والدهشة أيضًا، وهو ما يحتاج إلى أفكار مبتكرة ومؤثرة.
من وجهة نظري فقد نجحت معظم الإعلانات في ذلك أيضًا، حتى أننا لو قمنا باستفتاء عن أفضل إعلان لهذه السنة، سنسقط في حيرة عظيمة.. فـ لكل إعلان مذاقه الخاص والمتفرد..
ومع ذلك تبقي الإعلانات كالسرطان الذي يتفشي في الجسد، جسد المسلسل.. فالمسلسل يبدأ عادة بفكرة يتم تحويلها إلى معالجة درامية، كلما كانت تلك المعالجة قوية ومترابطة ومبنية باحترافية وتماسك كلما كان العمل أكثر قوة ومتعة، ثم يبدأ السيناريست في تحويل تلك المعالجة إلى حلقات، مشاهدة متتالية كل مشهد مرتبط بما قبله ويؤدي لما بعده، وحوار تُزن فيه الكلمة بحساب ليقدم لنا الكاتب في النهاية عمل متكامل قوامه 30 حلقة، ثم يأتي دور المخرج وباقي فريق العمل لتنفيذ هذا السيناريو على الشاشة، وتأتي أيضًا الإعلانات لتفسد كل هذا، وكأنها فنون تفسد غيرها من الفنون، فلا يمكن أن تتابع ثلاثة مشاهد من مسلسل دون أن يعقبهم طن من الإعلانات ثم تعود وقد نسيت بالطبع ما كنت تتابعه.. أنا عن نفسي لا أشاهد المسلسلات بسبب الإعلانات، أنتظر حتى ينتهي ثم أحمل ما أرغب في مشاهدته من على النت حتى أتمكن من متابعة العمل الدرامي كما يليق به.
ولكن غيري لا يفعل ذلك، لذا هو يتضايق من الإعلانات ويتذمر حين يراها تفسد متعته، وربما يستبدل القناة فلا يشاهد تلك الإعلانات ولا يتابع مسلسله، وهي خسارة مزدوجة لا بد أن ينتبه لها صُناع الإعلانات، كما لا بد لهم أن يدركوا أن فرض أنفسهم على المستهلك يسبب النفور لا الإقبال، وأنهم استطاعوا أن يقدموا وجبات فنية ممتعة لديها القدرة على منافسة الفنون الأخرى سواء سينمائية أو درامية وعليهم أن يقدموا فنونهم بشكل أرقي، وأن يعودوا إلى الفقرة الإعلانية وليس الفواصل الإعلانية.. فالفقرات دائمًا محببة بعكس الفواصل التي تفصلنا.
الكاتب
-
عمرو عاشور
روائي وكاتب مقال مصري.. صدر له اربع روايات بالإضافة لمسلسل إذاعي.. عاشور نشر مقالاته بعدة جرائد ومواقع عربية منها الحياة اللندنية ورصيف٢٢.. كما حصل على عدة جوائز عربية ومنها جائزة ساويرس عن رواية كيس اسود ثقيل...
كاتب نجم جديد