محو أذواق مستمعي القرآن من التسجيلات الصوتية والمرئية “الجريمة الكاملة”!
-
عبد الرحيم طايع
- شاعر وكاتب ولغوي - أصدر ثلاثة عشر كتابا إبداعيا - حصد جائزة شعر العامية من اتحاد الكتاب المصريين في ٢٠١٥ - كرمته وزارة الثقافة في مؤتمر أدباء مصر ٢٠١٦ - له أكثر من ٥٠٠ مقالة منشورة بصحف ومواقع معتبرة
كاتب نجم جديد
الموضوع الحساس لم يتطرق إليه أحد من قبل فيما أعتقد، ولا حتى بعضه، فالاهتمام منصب على قراء القرآن أنفسهم بمدى التاريخ، لا أحد اختص المستمعين بكلام، مع أن الحقيقة تقول إن لدينا أعظم القراء؛ ومن ثم فلدينا أعظم المستمعين بالبداهة.. مصر عموما تحب القرآن حبا عظيما، حبا فاق حتى البلد الذي نزل فيه القرآن كما هو مشهور (يحلفون بالمصحف الشريف أكثر ما يحلفون والبلد الذي نزل فيه القرآن يعتبر الحلف بالمصحف شركا كأي حلف بغير الله استنادا إلى بعض الحديث)، لم يدرس أسباب ولع المصريين بكتاب الله الكريم دارس عبقري، لكنه الأمر الراسخ الذي لا خلاف عليه!
أسماء سماوية تماما كالشيخ محمد رفعت ومصطفى إسماعيل وكامل يوسف البهتيمي وطه الفشني وعلي محمود وأبي العينين شعيشع ومحمود علي البنا وعبد العظيم زاهر ومحمود خليل الحصري وعبد الفتاح الشعشاعي وإبراهيم الشعشاعي ومحمد صديق المنشاوي ومحمود عبد الحكم ومنصور الشامي الدمنهوري ومحمد أحمد شبيب وعبد العزيز علي فرج وحجاج هنداوي وحمدي الزامل وعبد الباسط عبد الصمد ومحمود الطبلاوي وأحمد الرزيقي وعثمان الشبراوي ومحمد الليثي ومحمد عبد العزيز حصان والسيد متولي عبد العال وسيد سعيد وشعبان الصياد وعنتر مسلم ومحمود أبي الوفا الصعيدي والشحات محمد أنور وراغب مصطفى غلوش وأحمد نعينع.. وغيرها كثير إلى وقتنا الحالي، فتنت العالم العربي بتنوع الأصوات وتنوع صفائها وحسنها جميعا وإجادتها لأحكام التلاوة (تلاوة القرآن لغة: الترتيل، وهو تأدية الآيات بتلاوة منغمة وبصوت حسن، وبشكل متواتر يختلف عن التجويد) وعلى تجويده بالمثل (تجويد القرأن لغة: قراءته قراءة مؤثرة تخضع لقواعد محددة لإخراج الحروف وفق محارجها وحسب أصولها مع ترنيم وتنغيم لها)
قريبة هذه الأصوات مهما ابتعدت أزمنة بعضها، قريبة من الأفئدة، ولذا خلق كل صوت منها لنفسه قاعدة عريضة من المستمعين، هناك الأشهر دائما والأقل شهرة، إلا أنها جميعها أصوات تبدو علوية وليست بأرضية، كما ألمعت وكما كتب عنها عارفون ومتذوقون الأكابر من قبل، وأصوات قربت الناس من القرآن الكريم وحببت إليهم الإنصات له، كما لم يفعل قراء العالم الإسلامي مجتمعين، وباعترافهم
الشخصي؛ فأغلبهم تعلموا على أيدي قرائنا المصريين على أمداء أجيالهم..
لم يكن الناس، حين يجتمعون حول شيخ من المشايخ السلفين، في مسجد أو ليلة خاصة أو فرح أو عزاء أو إحياء ذكرى متوف أو افتتاح محل أو ضمن ليالي مولد من الموالد الكثيرة في بلادنا، لم يكونوا يستمعون ويسكتون، ولا يزالون على نفس النمط، كانوا يعلقون على الآيات نفسها أو تصرفات القارئ في القراءة تعليقات شتى، هذه التعليقات القريبة أيضا مهما تباعد زمنها، كانت تمثل أذواقهم في التلقي، وكانت تعكس كثيرا من أمانيهم ومخاوفهم أيضا، وتحدد ملامح إعجابهم بالقراء، هذا لأنه يطيل، وذلك لأنه يقصر، وهذا لأنه يتماوج مع القراءة، وذلك لأنه ثابت، وهذا لأنه يكرر، وذلك لأنه لا يكرر، وهذا لأنه كذا، وذلك لأنه كذا، إلى ما لانهاية من صور الانفعال بالأصوات والتفاعل معها، بحيث تصبح حلقة القراءة (القراء والمستمعون) بمثابة انعكاس لصورة مجتمع بأكمله، تفكيره وطرائق تعبيره عن مشاعره، وبمثابة وطن ذي مدد، لا حدود للوطن ولا حدود للمدد!
مع آيات النعيم يقولون (بالعامية وبالفصحى) ما لا يقولونه مع آيات العذاب بالتأكيد، ويثنون على الشيخ القارئ بقولهم: أحسنت! ما أجملك! روح وريحان!، بينما يجللهم الخشوع مع آيات القيامة والحساب مثلا، ولا يبدون تعليقا، أو يقولون جماعة ما معناه: سلم يا رب! ومع آيات المعجزات والقصص يقولون: الله الله! سبحان القادر! جل العليم الحكيم!، ويمدحون الشيخ القارئ قائلين: أعطاك مولاك! أكرمك مولاك! يا شمس! يا قمر! وما إلى هذه الأقوال، وهكذا على حسب الحالة..
ولأن الناس المغرمين بالقرآن وتتبع قرائه أينما حلوا أو ارتحلوا؛ هم غالبا من البسطاء الذين قد ترتفع أصواتهم زيادة عن اللزوم، في تقدير آخرين متربصين، وقد تفلت منهم عبارة لا تناسب جلال الموقف، في ذات التقدير المتربص، وإن كان هذا كله واردا ولا معضلة فيه؛ فإن بعض المتزمتين من رجال الدين، بالإضافة إلى المتشددين الإسلاميين الذين ابتلى الله بهم أرضنا الوديعة لامتحان صبرنا وقدرتنا على التعامل الواثق بمعرفة قويمة لطيفة تملكها أيدينا، وربما معهم ساديون من مقلدي موضة قمع الواقع بالتزيد الديني والأخلاقي، قرروا، بسلطات لا أعلم كيف حصلوا عليها ولا من منحها لهم، أن يمحوا هذه التعليقات من التسجيلات باعتبارها شيئا مشينا للغاية.. لاحظت المحو الكلي في عدد من التسجيلات الصوتية والمرئية القديمة والجديدة، والمحو الجزئي أيضا، أي الذي يبقي ما يروقه ويحذف ما لا يروقه، من السبعينيات خصوصا إلى نهاية الألفية الثانية، وبطول أشرطة التسجيلات عموما، وشعرت بالألم طبعا فهو محو لجزء مهم وحيوي من الذاكرة الوطنية نفسها.. محو لانطباعات فطرية، يمكن من خلالها رصد كل واقع بأطباع من عمروا سوحه!
لا يعطون المستمع قدرا، ولو ضئيلا، مما يعطونه للقارئ، وهو شريك أساسي في المضمار المؤثر الذي يمس الروح فتشفى من أمراضها أو تكاد، بل تزدهر العقلية الرجيعية فتزدهر مثل هذه الأفعال المجرمة، وينمو التيار المتطرف فتنمو مثل هذه الأعمال التخريبية، ولا أحد، بكامل الأسى والأسف، يؤرخ للوطن الخالد من قاعدته التحتية، لا أحد يهتم بالبشر العاديين في أعز ما تستريح له آذانهم ويلتذ به وجدانهم.. ليت المسؤولين والكتاب المثقفين، ممن وعوا وتخلصوا من العقد البائسة، ينتبهون إلى أمثال هذه المآسي التي تجري في صمت تام!
الكاتب
-
عبد الرحيم طايع
- شاعر وكاتب ولغوي - أصدر ثلاثة عشر كتابا إبداعيا - حصد جائزة شعر العامية من اتحاد الكتاب المصريين في ٢٠١٥ - كرمته وزارة الثقافة في مؤتمر أدباء مصر ٢٠١٦ - له أكثر من ٥٠٠ مقالة منشورة بصحف ومواقع معتبرة
كاتب نجم جديد