هروب بلا عودة .. شباب ضيعتهم الحروب
تركوا بلادهم فرارًا من الموت، يبحثون عن مأوى ووطن جديد لا يسمعون فيه صواعق الرصاص، هاجروا وتركوا خلفهم وطننًا ممزقًا اختلطت فيه أصوات الخوف والفزع بضجيج الاشتباكات الدامية ، هاجروا وتركوا قلوب ذويهم تنفطر حزنًا على فراقهم.
سوريا الجريحة
منذ انطلاق شرارة ثورات الربيع العربي ، شهدت سوريا أسوأ فترتها التاريخية، فترة استمرت أكثر من 10 أعوام، فيها احتدم الصراع وزادت قوته، وكان الحل الأمثل التدخلات الخارجية كفرصة أخيرة لحل أزمة الوطن الجريح، لكن لا شيء يحدث، فمَا كان من الشباب سوى هجر البلاد، وبالفعل غادرها أكثر من 14 مليون مواطن منذ بداية الحرب إلى الآن.
تقول المفوضية العليا لشؤون اللاجئين إن هناك 6.8 مليون سوري يعيشون لاجئين في مشارق الأرض ومغاربها، منهم 5.5 مليون في الدول المجاورة، منذ مارس 2022 وما بين ذلك وذلك يجد البعض صعوبة في الدخول إلى الدول الأخرى بطرق رسمية ليكن الهجرة غير النظامية هي الحل أمامهم.
من الجزائر إلى أسبانيا
في شهر إبريل الماضي، قرر كلًا من” أحمد بشير” البالغ من العمر 31 عامًا وشقيق زوجته “حبش أحمد” البالغ من العمر 17 عامًا الخروج من بلادهم بطريقة غير نظامية بعدما أقفلت الحياة أبوابها في وجههم عبر الاتفاق مع أحد المهربين لينقلهم من الجزائر إلى أسبانيا في رحلة تستغرق ساعات عن طريق البحر.
ودع أحمد وحبش أسرتهم وحملوا ما تمكنوا من متاع وسافروا إلى الجزائر بعدما حولوا مبلغ يتخطى الـ 7000 يورو لكلًا منهم إلى المهرب عن طريق أحد مكاتب التحويل بمدينة عين العرب التابعة لمحافظة حلب.
وصل “أحمد “و”حبش” إلى الجزائر برفقة 15 شخصًا آخرين سيرافقونهم في رحلتهم ليقطنوا في إحدى الشقق في منطقة وهران بالجزائر قد وفرها المهرب لهم، لينتظروا بها بضعًا أيام قبل السفر إلى أسبانيا.
وفي يوم السادس والعشرون من شهر أبريل الماضي، وتحديدًا في الساعة الرابعة وأربعون دقيقة أرسل “أحمد” رسالة إلى زوجته يخبرها فيه بأنهم سيتحركون بعد عشرين دقيقة للاتجاه إلى القارب في البحر للسفر إلى أسبانيا:” بعتلي صوت قالي باقيلي 20 دقيقة نمشى في البحر وأنا رديت عليه بصوت ولكن ما وصله انقطع النت عندهم كلهن”.. تقول زوجة أحمد “للميزان”
تلك هي الرسالة الأولى والأخيرة التي أرسلها “أحمد” إلى زوجته بعدما أعلمها بتحركهم قبل سفره نظرًا للخطة التي وضعها المهرب لهم، بعد تلك الرسالة انقطع الاتصال بينهم وأصبحوا في عداد المفقودين، خمس أشهر تحاول عائلة الشابين التواصل معهم لكن دون جدوى، حاولوا التواصل مع المهرب لكنهم عرفوا أنه تم القبض عليه في الجزائر، ليبقى مصير الشابين بجانب الـ 15 الآخرين مجهول، ويبقى الآلم هو المسيطر على قلب ذويهم.
تقول زوجة أحمد للميزان : “من وقت ما انقطع الاتصال معهم ولا نعرف أي شيء عنهم، حاولوا كتير البحث عنهم لكن بلا فائدة لا نعلم إن تم القبض عليهم من قبل إحدى العصابات أم ماتوا”.
أعداد غير قانونية
تخطت أعداد عمليات الدخول غير القانونية للاتحاد الأوروبي عبر المنطقة الوسطى للبحر الأبيض المتوسط بين يناير وأبريل من العام الجاري حاجز الـ 300% بنحو 42 ألفا و200 عملية دخول مقارنة بنفس الفترة من العام 2022، وفقًا لبيان لوكالة الأوروبية لمراقبة الحدود (فرونتكس)
هروب بلا عودة
قبل عام سافر “صلاح” إلى العراق برفقة والده العم” محمود” من أجل السفر إلى الجزائر ثم إلى أسبانيا عن طريق البحر هروبًا من الحرب التي انهالت على بلاده سوريا وتسببت في مقتل العديد من شعبها الذي دفع ثمن الدفاع عن بلاده.
فقد تسببت العمليات العسكرية المستمرة في سوريَا والقصف والتفجيرات طوال الـ 12 عامًا في مقتل واستشهاد نحو 614 ألف شخص، وإصابة أكثر من 2.1 مليون شخص، وفقًا للمرصد السوري لحقوق الإنسان وهي جهة مراقبة مقرها الولايات المتحدة.
كما تدهورت الأوضاع الاقتصادية في البلاد، فوفقًا للأمم المتحدة فإن 90% من السكان في سوريَا يعيشون تحت خط الفقر، ويواجه 70% منهم نقصًا حادًا في الغذاء.
لم يجد “صلاح” طريقًا غير الدول الأوروبية لطرق بلادها لبدء انطلاقة جديدة بعدما أصبح العيش في بلاده شبه مستحيل لهم.
انطلق “صلاح” من العراق إلى الجزائر وظل هناك قرابة الـ 10 أشهر مع مهرب مقابل 7500 يورو قام والد الأول بتحويلهم له من خلال إحدى المكاتب بمنطقة عين العرب التابعة لمحافظة حلب.
لم يتمكن المهرب الأول من إتمام مهمته، ليقوم العم محمود بالتواصل مع مهرب جديد يدفع له نفس المبلغ في محاولة لإخراج “صلاح” من الجزائر إلى أسبانيا عن طريق البحر وتحويلهم بنفس الطريقة السابقة.
ظل “صلاح” في مهربه 15 يومًا برفقة 16 شخصًا بإحدى الشقق في مدينة وهران بالجزائر.
وفي اليوم الرابع من شهر رمضان الماضي تواصل “صلاح” مع والده وأخبره بأنه سيتحرك باتجاه المركب لتبدأ عملية السفر وبالفعل ركب برفقة الـ 16 شخصًا الآخرين التي تتفاوت أعمارهم ما بين الـ 17 عامًا والـ 30 عامًا القارب، وبعد تحرك مسافة تصل إلى 50 كليو متر اكتشفوا وجود عيب في المركب لتتقاسم الآراء بينهم حيث رغب البعض منهم الرجوع إلى وهران والبعض الآخر رغب في استكمال مشوارهم إلى أسبانيا وما بين تلك الآراء وتلك اتفقوا على العودة إلى إحدى الجزر في وسط المياه ليمكثوا بداخلها مدة يومين.
ومن أجل العودة إلى وهران مرة أخرى كان على “صلاح” دفع مبلغ 1200 يورو إلى مهرب جديد يدعى محمد محمود، لتبدأ رحلة سفر “صلاح” إلى أسبانيا من جديد.
بعد العودة إلى وهران مكث “صلاح” مع الـ 16 شخصًا في الشقة في انتظار مكالمة المهرب للإبحار إلى أسبانيا وبالفعل اتصل بهم الأخير ليركبوا السيارة في طريقهم لهم، ولكن عندما وصلوا إلى هناك لم يجدوا ليعودوا أدراجهم خالية الوفاض.
ظل “صلاح” برفقة الـ 16 شخصًا يذهبوا إلى المياه مدة 5 أيام متواصلة ولكن دون جدوى حتى جاء اليوم السادس وجاء الوقت المنتظر وتمكن الأول برفقة من معه بركوب القارب لينقطع الاتصال منذ ذلك الوقت بين “صلاح” وأسرته، ليصبح مصيرهم مجهولًا:”منذ انقطاع الاتصال مع ولدي وقلبي عم يحترق حاولت عدة مرات أن أسافر إلى الجزائر للبحث عن طفلي ولكن لم تنجح محاولاتي.. ابني ما مات ابني لساته عايش”.. يقول العم محمود “للميزان”
حاول معد التحقيق التواصل مع المهرب الذي يدعى محمد محمود بصفته شخصًا يرغب في الهجرة بطريقة غير نظامية إلى الدول الأوروبية لمعرفة خطة السير والتكلفة ولكن لم يستطيع نظرًا إلى أن هاتف المهرب ظل مغلقًا حتى لحظات كتابة التحقيق.
وفقًا لوكالة حماية الحدود الأوروبية فإن الهجرة غير النظامية إلى دول الاتحاد الأوروبي ارتفعت بنسبة 10% خلال النصف الأول من العام الجاري، مقارنة بنفس الفترة من العام الماضي، أغلبهم عبر البحر المتوسط.
ولقى نحو 1200 شخصًا حتفهم في البحر المتوسط منذ مطلع العام الجاري وفقًا للمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين.
أمل تحول لسراب
أما رواية “محمود” فلا تختلف كثيرًا عن رواية “صلاح”، فتحكي والدته بصوت هزمه الحزن وعينان غلبتها الدموع، أن نجلها سافر إلى الجزائر قبل عام بعد الاتفاق مع مهرب مقابل 10000 يورو من أجل السفر إلى ألمانيا ليلحق بشقيقها.
كانت رحلة شقيق والدته سهلة لم يقابله أي صعوبات، على عكس “محمود” الذي لا يزال قاصرًا وتم القبض عليه مرتين بعدما حاول الهروب مع المهرب ليتم تكليف محامي للدفاع عنه وتمكن من إخراجه، ولكن لم يستمر خروجه من السجن كثيرًا حتى تم القبض عليه مرة أخرى أثناء عملية التهريب ولكن في تلك المرة تمكن من الهروب ليلحق بقارب الهجرة وينقطع الاتصال معه منذ ذلك الحين.
عامًا عاشته والدة محمود بين نيران الغربة ونيران فقدانها نجلها التي لا تعرف مصيره لتطرح التساؤلات حول إن كان على قيد الحياة أم أصبح في عداد الموتى؟
بعد غرق القارب تمكنت إحدى مراكب الصيد من إنقاذ شاب يدعى أيضًا “محمود” كان برفقة “محمود” في رحلته الأمر الذي أعطى للأمم بصيص من الأمل لمعرفة أي معلومة عن نجلها لكن سرعان ما تبخر الأمل إلى سراب بعدما أخبرها الشاب بعدم معرفته أي معلومات عن نجلها.
بعد الوصول إلى صفحة الشاب الذي تم إنقاذه من قبل مراكب الصيد على موقع التواصل الاجتماعي ” الفيس بوك” حاول معد التحقيق التواصل معه من خلال إرسال رسالة إلى حسابه الخاص لمعرفة معلومات أكثر عمّا حدث معهم لكن حتى كتابة هذا التحقيق لم يتم الرد عليه.
انتهاكات مستمرة
يقول “رامي عبد الرحمن” مدير المرصد السوري لحقوق الإنسان، لـ “الميزان“، إن المهاجرين السوريين تعرضوا للعديد من الانهتاكات من اختطاف البعض منهم أو سجن البعض الأخر:”العديد من المهاجرين تعرضوا لعلميات اختطاف من قبل عصابات من أجل طلب فدية أو لعمليات نصب كثيرة ومنهم من تعرض للسجن سوا في لبنان أو الجزائر أو تركيا”. ضيعت الحروب الشباب، كما ضيعت الأوطان، ولا نملك سوى أن نتحدث عن قضاياهم ونطرحها على الساحة لربما تنصلح الأحوال ويعود كل عش إلى وطنه.
أحمد وحبش وصلاح ومحمود وغيرهم من الشباب تركوا بلادهم منهم من حمل متاعه مع أحلام طفلولته وغيره حمل متاعه مع لهيب الفراق، باحثًا عن مأمن جديد لهم ولكن تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن، لتتحول أحلامهم في البحث عن مستقبل مضمون إلى مستقبل يحيطه الغموض،لتستغرق رحلة الهجرة بدل من بضع ساعات فقط إلى أشهر وسنوات منذ مغادرتهم، لتنقطع أخبارهم وتبقى أسرهم على أمل العثور عليهم أو معرفة مصيرهم.