The Substance فيلم رعب شخصي جدا
-
ياسر عبد القوي
كاتب وباحث وتشكيلي، المدير الفني والمخرج البصري (سابقا) لمجلة (كافيين) الثقافية، مدير التحرير والمخرج الفني (سابقا) لمجلة (الغرفة) السريالية، مدير التحرير والمخرج الفني لمجلة (نقد 21).
من على السطح يبدو فيلم The Substance بسيطا بقصة خطية مباشرة يمكنني أن أحكيها لك في سطرين:
“نجمة سينمائية خبت نجوميتها مع تقدمها في السن، تأخذ عقارا مجهول الأصل، مستنسخ للخلايا يخلق مؤقتا نسخة أفضل وأكثر شبابا منها”.
لكن الأكثر إثارة في هذا الفيلم، ليس القصة- المثيرة جدا فعلا- بل كيفية حكي القصة، فالفيلم يجمع ما بين ثلاث أنواع سينمائية:
1- الخيال العلمي، عقدة الفيلم تقوم على تكنولوجيا كيميائية خيالية لمادة يمكنها إنتاج نسخة بيولوجية من الشخص المحقون بها
2- رعب الجسد أو الرعب البيولوجي Body horror وهو فرع من خيال الرعب، يعرض عمدا انتهاكات بشعة أو مزعجة نفسيا لجسم الأنسان أو مخلوق آخر، قد تظهر هذه الانتهاكات من خلال الطفرات أو التشويه أو حركات الجسم غير الطبيعية، ورغم أنه فرع من أفلام الرعب الامريكية إلا أن له جذور في الأدب القوطي المبكر، أهم مخرجين هذا النمط هو المخرج الكندي (ديفيد كروننبرغ- David Cronenberg) والذي سنرى في الفيلم عدة إحالات من أهم أفلامه، الواقع أننا يمكننا اعتبار (كورالي فارجيت – Coralie Fargeat) مخرجة الفيلم تلميذة لكروننبرغ، وهي تظهر ذلك بوضوح.
3- النمط الثالث هو (الرعب النسوي – Feminist Horror) وهو تعبير وضعته الباحثة السينمائية الأسترالية (باربارا كريد- Barbara Creed) تعرفه بأنه: يستكشف عكس مفهوم وقوع النساء كضحايا في أفلام الرعب، ويقدمهن باعتبارهن مصدر الرعب (الوحوش) وكثيرا ما يستخدم وحوشا تعكس الجنسانية النسوية.
اللغة السينمائية
فيلم The Substance قليل الحوار عموما، معتمدا رمزية الصورة وإحالاتها كأداة للحكي السينمائي، كما يعد المكان محوريا في الفيلم، النظرية العلمية الخيالية التي يقوم عليها الفيلم تُقدم مباشرة في المشهد الافتتاحي، حقن سائل أخضر في صفار بيضة، ليخرج صفار أخر منها، القصة التأسيسية للشخصية الرئيسية ( إليزابيث سباركل) – تلعب دورها ديمي مور- تقدم عبر لقطة بمسقط رأسي لنجمة تحمل أسمها على ممشى الشهرة في هوليوود، وكيف يمر عليها الزمن فتفقد اهتمام الناس بها، وتصاب بالشروخ ، وتصبح مجرد (بلاطة) على الرصيف لا تعني شيئا لأحد ممن يمرون عليها، بعدها نصبح مستعدون لمقابلة إليزابيث التي تقدم برنامج (أيروبيك) لربات البيوت بالفترة الصباحية، الممر الذي تمر به إليزابيث خارجة من ستوديو التصوير يحمل دلالته الرمزية القوية التي ستكرر فيما بعد، ممر طويل بجدران حمراء مغطاة بصورها في مراحلها العمرية المختلفة، وهي تسير عبره ، كأنما تسير عبر عمرها كله من شابة مثيرة في العشرينيات، إلى أمرأه في أوائل الستين.
في دورة المياه نلتقي للمرة الأولى ب (هارفي) مدير المحطة التي تعمل بها اليزابيث، كيف يقدم الفيلم (هارفي) – الذي يلعب دوره الممثل ( دينيس كويد)- دائما لقطات هارفي مقربة كثيرا، مقربة أكثر من اللازم، مقربة ومن زاوية مرتفعة قليلا، اللقطات تمنحك كمشاهد شعور بعدم الارتياح، كأنما شخص يلصق وجهه بوجهك، يقتحم مساحتك الشخصية، تخيل هذا من وجهة نظر امرأة، إنك تكاد ترى مسام وجهه، تشم رائحة عرقه، تشعر بأنفاسه على وجهك، هناك شيء منفر وغير نظيف في الشخصية، هو يتحدث في الهاتف، يتبول ويتحدث في الهاتف، يكيل الإهانات لإليزابيث ساخرا من تقدمها في السن، ويعلن أنه سيستبدلها بمقدمة برنامج صغيرة ومثيرة، في المشهد التالي، (مشهد التهامه للجمبري) يأكل بشهوانية وتلمظ ، اللقطة مقربة لفمه، المؤثرات الصوتية لأسنانه وهو يسحق الجمبري واحدة تلو الأخرى، بينما يبلغ إليزابيث بفصلها، بإلغاء وجودها، المشهد في الحقيقة عنيف ومفزع، يترك المائدة مزدحمة بالفوضى والبقايا، كما هي حياة اليزابيث.
(بؤس) حياة إليزابيث
من هنا فيلم The Substance يركز على مظاهر بؤس واقع إليزابيث ،صحيح أنها تقطن بشقة فارهة فاخرة تطل على مشهد طبيعي عبر حائط زجاجي، إلا أن حياتها بائسة، الشخص الوحيد الذي يبدي أعجابا عاطفيا بها، هو زميل من أيام المدرسة، حين يريد منحها رقم هاتفه، يسجله على قصاصة يقتطعها من أوراق تحليلات طبية خاصة به، الورقة تسقط في بركة مياه قذرة ، فيلتقطها ويعطيها لها، مبللة ومنفرة، انعكاس للطاولة المثقلة ببقايا الطعام في المشهد السابق، أغلبية المشاهد مقربة Close Up ، المادة التي تستخدمها إليزابيث لتنتج نسخة أفضل وأجمل من نفسها، تلتقطها من غرفة خاوية من أي أثاث ، مجرد ما يشبه صناديق البريد البيضاء، تصلها عبر ممر معتم ، تدخل إليه عبر باب صغير صدئ لا يفتح بالكامل فتضطر للزحف أسفله، في زقاق قذر بحي مريب، الأمر يذكرنا بمشاهد شراء المخدرات في الأفلام حيث الأزقة المعتمة والأركان المريبة.
المادة التي تستخدمها نفسها، تأتي محملة بكل ( الرايات الحمراء) الممكنة، مجهولة المصدر والتركيب، السائل بلون أخضر يذكرنا بلون السموم، عبوة كبيرة نسبيا رغم التحذير بأنها تستعمل لحقنة واحدة فقط، هل هذا نوعا من الإغراء لإعادة الاستخدام رغم التحذير الصارم؟ إليزابيث تحقن نفسها في حمام منزلها، حمام فارغ من أي أثاث أو اكسسوارات بشرية، الأرضية والجدران مكسوة ببلاطات سيراميك بيضاء ، كأنما هو ( معمل) وليس حمام منزلي، حتى حوض الوجه يماثل أحواض المعامل أو غرف التشريح، مساحة محايدة فارغة باردة، لا إنسانية، الحزمة التي تحتوي ( المادة) نفسها مريبة، لا تعليمات تفصيلية، لا كتيب تعليمات للاستخدام، فقط كروت كبيرة مطبوعة بالأسود على الأبيض، وعلى اليزابيث ان تجد طريقها عبرها.
الوعد الإعلاني
“ستطلق إمكانيات خلاياك الوراثية، ستطلق النسخة التي حلمت بها من نفسك“.
هكذا يعد الإعلان بخصوص (المادة)، ما هي المادة؟ لا يهتم الفيلم بتوضيح ما هي، من هم منتجوها؟ كيف تعمل؟ ليس هذا مهما، فالمادة الخضراء المريبة هي مئات المستحضرات التي يروج لها بين النساء خاصة، مستحضرات ستجعلك أجمل واصغر وأكفأ، وأذكى، ستزيل التجاعيد، تلغي الترهلات، تزيد النشاط، تجعلك عبقريا،…إلخ.
النساء يُقصفن يوميا بكم هائل من الدعاية عن مثل تلك المستحضرات العجائبية، ومئات الملايين منهن يستجبن ويستخدمنها، اليزابيث ترضخ للدعاية، تحت تأثير حياتها الوحيدة، وتأخذ الحقنة، وحين تسقط مغشيا عليها، نري ظهرها يتورم، ثم ينشق ليخرج منه كوع بشري، المشهد يشبه تماما انسلاخ حشرة عن هيكلها الخارجي القديم، تورم الظهر، انشقاقه، ثم خروج الحشرة من قشرتها القديمة.
تولد (سو) -تلعب دورها الممثلة الشابة مارجريت كوالي- في نفس الحمام البارد الشبيه بالمعامل الطبية، (سو) تقف متأملة جسدها الشاب المتدفق بالإثارة والحيوية أمام نفس المرأة التي كانت إليزابيث تتأمل فيها جسدها الزاوي الذي فقد نضارته منذ سنوات بعيدة –بغض النظر أن ديمي مور تبدو رائعة حتى في عمر 62 عاما- كل شخصية مسموح لها بأسبوع واحد فقط من الحياة، تكون فيه الشخصية الأخرى في غيبوبة تتغذى عبر الوريد على مادة بيضاء شمعية أتت في كيس مع عبوة المستحضر، ثم يتبادلان الأماكن.
أنتما واحد
لكن لتبقى (سو) حية عليها أن تحقن نفسها مرة يوميا بـ (المثبت)، وهو سائل (النخاع الشوكي) تسحبه بمحقنة كبيرة من العامود الفقري لإليزابيث، سبع جرعات لأسبوع واحد، لكن طبعا القواعد وضعت لكي تُكسر.
(سو) تحل محل إليزابيث في برنامج الأيروبيك الذي أصبح نسخة جديدة مثيرة تركز على جسد سو، الممر الأحمر خال من أي صورة حين تدخل (سو) للأستديو، وحين تخرج تكون فيه صورة واحدة لها، إنها تبدأ مسار حياتها هي الأخرى، شخصية (سو) تقدم بلغة سينمائية خاصة، اللقطات دائما تشبه لقطات إعلانات التسعينيات المولعة بإثارة جسد المرأة، كل حركة، كل وقفة تشبه لقطة إعلانية، حتى وهي تشرب عبوة مياه غازية في المطبخ، تبدو كلقطة إعلان مياه غازية شهير من التسعينيات، جسد (سو) يبدو دائما لامعا، جديدا لدرجة استثنائية، الحقيقة أن مارجريت كوالي لا تتمتع في الواقع بذلك الصدر المترع، ولا بتلك الأرداف الممتلئة، بل أضيفت لها عبر أضافات صناعية في غرفة المكياج.
العلاقة بين الشخصيتين
فيلم The Substance استلهام معكوس لرواية (دكتور جيكل ومستر هايد)، ففي الرواية نجد وعيان يقتسمان جسدا واحدا، أما في The Substance فنرى وعي واحد يعيش في جسدين.
لكن كل جسد لا يُظهِر أي احترام أو تعاطف مع الجسد الآخر، (سو) تترك جسد إليزابيث عاريا راقدا في الحمام على الدم والقيء طوال أسبوعها، وترد اليزابيث بالمثل. ثم تذهب (سو) خطوة أبعد، بصنع غرفة خلف جدار الحمام لتخزين جسد اليزابيث، فيتراكم بينهما كثير من المرارة، الاحتقار، الغيرة.. رغم أنهما شخصا واحدا.
تدفع اليزابيث ثمن استهتار (سو) التي تسحب جرعة ثامنة ليوم إضافي، فتنهض اليزابيث بأصبع متعفن، وحين تكررها لفترة أطول تنهض بنصف جسد يبدو عمره قرن، وحين تسحب من نخاعها الشوكي كمية تكفيها لثلاثة أشهر، تنهض اليزابيث كمسخ بحدبة ظهر عملاقة وجسد لا يكاد يشبه أجساد البشر، في رمزية واضحة لأننا ندفع في كهولتنا ثمن خطايانا في الشباب، خصوصا خطايانا الصحية.
تود (سو) لو لا تترك اليزابيث تنهض أبدا، لكنها تحتاج لنخاعها الشوكي، الذي لا يتجدد إلا حين تستعيد اليزابيث وعيها.
أخيرا تقرر إليزابيث إنهاء التجربة لكنها تتراجع خوفا من فقدان الحلم والبقاء تحت الأضواء ولو بجسد مستعار، فتوقظ (سو) لتلتقيا للمرة الأولى بوعيهما، فتقتلها (سو) بكل غضبها ونفورها منها.
وبموت الأصل تبدأ النسخة بالتحلل؛ تتلاشى حواسها وتتساقط أسنانها ثم أذنها؛ في محاكاة لمشهد بفيلم كورننبرغ The Fly.
تحاول (سو) تكرار التجربة مع عبوة (المادة) لتنتج نسخة أفضل من نفسها، لكنه لا يمكن استنساخ النسخة، والناتج مسخ مخيف مُرَكَب من عدة أجساد منها وجه اليزابيث، مسخ يستطيع التسلل للمسرح ليلة عرض رأس السنة، مغطية وجهها بصورة لـ (إليزابيث) كقناع، وحين يواجها رفض الجمهور لبشاعتها تصرخ فيهم: “هذا أنا، اليزابيث“.
ثم يتدفق منها شلال دماء يغرق الجميع، كأنما يدين المجتمع لحصره النساء في قالب جسدي لا يمكنهن تجاوزه، وعليهم التضحية من أجله دائما، يهرب المسخ من المسرح وفي الشارع قرب النجمة التذكارية ينفجر ويتحلل متلاشيا.
ختام
تقول المخرجة: فيلم The Substance هو عن العنف، العنف الذي تعاملت به مع جسدي طوال حياتي لأرضي تصور المجتمع عنه.
الكاتب
-
ياسر عبد القوي
كاتب وباحث وتشكيلي، المدير الفني والمخرج البصري (سابقا) لمجلة (كافيين) الثقافية، مدير التحرير والمخرج الفني (سابقا) لمجلة (الغرفة) السريالية، مدير التحرير والمخرج الفني لمجلة (نقد 21).