همتك نعدل الكفة
723   مشاهدة  

” أسباب للفرح بـ ” طارق إمام

طارق إمام


تستحق “ماكيت القاهرة” لـ ” طارق إمام ” المرشحة عن جدارة للفوز بجائزة البوكر، كل ما تلقاه من فرح واهتمام، لأن الكتابة عنده كما فهمت – بصعوبة- هي فعل فرح واحتفاء بالحياة نفسها، كأنه يود لو جعل منها حفلا لا ينتهي، لو أصاب من حوله بتلك العدوى الحيوية.

يؤمن طارق بخلود النص، لكنه يتشكك كذلك في أن فرح الكتاب يمكن تذوقه بعد الموت – ومن يعرف شيئا عما يقع هناك، إذا كنا أصلا سنكون هناك، وإذا وجدنا فهل لنا ككتاب أن نلمس خلودنا؟، فإن كل لحظة بالنسبة له هي ثمرة عليه أن يتذوق لذتها الآن وفورا. هي فكرة على تشاؤمها، تنتج التفاؤل، وأول من سخر منها المتشائم الأكبر أبو العلاء المعري الذي لا يشتبك بنهج حياته مع طارق إلا من خلال تلك النقطة التي سخر فيها من العاملين من أجل إنصاف التاريخ قائلا” والإيمان بأحكام الأيام لَغْو، والتعزي بإنصاف التاريخ باطل، فالأمر كله صائر إلى الفناء”، من تلك الفكرة أيضا يستنبط طه حسين فكرة حيوية أخرى، عزاء الزمن هو عمل ضعاف النفوس، أما النفوس القوية فهي تعمل لأن ذلك ما تستدعيه طبيعتها.

وفي رأيي أن عزاء “الزمن” كثيرا ما يكون حجة البليد والأسوأ من ذلك كله، منشأ الشعور بالظلم الاضطهاد، فبدلا من أن يوجه الكاتب طاقته إلى عمله، تفرك روحه داخل طاحونة الكراهية، موجها سهام غضبه نحو أي شيء عدا نفسه، وكشأن كل مسمم بالأمل في ” إنصاف التاريخ” يعوض خيباته بالشراسة أو نرجسية بلا دليل أو الإنكار أو التشبث برداء أخلاقي ما، حيث لكل أن يتخير سلاح جنونه.

نحن أمام شخص إذن لا يتوقف عن العمل بدأب وفرح، لأن ذلك ما تستدعيه طبيعته.

طارق إمام رومانتيكي، حيث لا يمكن الرهان على عالم مشيد من الأحلام والتجريب والرهان والخطأ، إلا عبر تلك الرومانتيكية، ولأن كل روائي هو مزيج من ظلين: دون كيخوته وسيرفانتيس، لا أحد فيهما يضمن رهانه، حيث كل شيء معلق بعمل دؤوب وإيمان أعمى بالسراب فنجاح النصوص في الوصول إلى قرائها من عدمه لا يضمنه أحد، ولم يعد في ظل الإقبال على العديد من النصوص العادية والسيئة معيارا يمكن الاتكاء عليه. ربما لأنه شخص يجد في الحب أمرا هاما، غذاء لخيالات الفرسان، والحب هنا لا يعني الغرام العاطفي، بل حب الكتابة والصداقة والمعاصرين وشجرة أسلافه من الأدباء كماركيز كما يحدد بنفسه، لكن هذا أيضا خطير، لأنه يقدم بعنفوان يضيق بالحذر، وقد ينقلب فورا إلى ما هو ضده، كشأن من لا يؤمن أن تبادل الحب أمر يمكن تأجيله، إلى ما بعد الآن وفورا.

فعالية طارق إمام في الوسط الثقافي المدهشة، كثيرا ما جعلتني أتساءل متى يجد الوقت. يملك طارق من الطاقة، ربما طاقة الفرح، ما يمنع أن يكون انخراطه عائقا ضد أن يحمي أوقات الكتابة والقراءة الخاصة، لا أظن أن قوة على الأرض قادرة على انتزاع تلك الساعات منه.

في كل عام ظل طارق إمام يطرح نصا يتقدم به خطوة إلى إنتاج درته “ماكيت القاهرة”، والتطور أحيانا قد لا يكون تقدما ثابتا إلى الأمام، بل قد يأتي على شكل التقدم عدة خطوات والتراجع خطوة.

جزء من فعالية حضوره، هو أن ما يعد في الوسط الثقافي أشبه بصفقة من المجاملات يتحول على يديه إلى عملية إنتاج لقراءات مدهشة لأغلب نصوص مجايليه، لذا يظل حضور طارق هو نتاج الحيوية وامتداد لفعل الفرح بالكتابة كما فهمته، فهو كأي كاتب ممتاز، هو في الأساس قارئ ممتاز، لكنه ربما الناقد الأهم في زمن تكلس فيه ” النقد” باستثناءات قليلة ومن بينها ما يقدمه الناقد محمود عبد الشكور الذي لا يجعل من النقد عائقا بل جسرا بين قارئ ومبدع، ولا يجعل منه حكم قاض، بل فعل إضاءة للنص.

المدهش في طارق أنه لم يتخل عن ترسانة المصطلح النقدي، التي كثيرا ما اتهمت في أنها السبب في تحويل النقد إلى متاهة من العتمة، تمتزج تلك الترسانة مع لغة بالغة القوة والجمال والإدهاش ترتكز في الأساس على راية الخيال، يبحث فيها عما هو أكثر من إضاءة، عن احتمالات ومسارات توسع من إمكانيات العمل، تأويلات كأنها حوار جدلي بينه وبين العمل الأدبي، امتداد لا يقل أصالة وابتكارا عنه، ففي التأويل قوة على التخيل، تسمح لكل مرة يقرأ فيها أحدهم كتابا أن يعيد إنتاجه ككتاب جديد.

في عملية تبادل الحب تلك عبر الكتابة، تغذية للنص الأصلي بعناصر مدهشة تفيد صاحبها بما يتفتح من مسارات ومكافأة فورية أن أحدا بتلك الحساسية يرى ويسمع ويدرك، وأيضا تغذية لنص طارق الكبير، الذي لا يتوقف عن التفكير في الكتابة إلا عبر الكتابة، حيث لا شيء موجود خارج ما هو مكتوب، العالم كله ليس إلا نصا، سلسلة من الأحرف والرموز.

إقرأ أيضا
فيلم رأس الحسين

ربما أختلف مع طارق في إصراره على الانتساب لماركيز، فأعماله أقرب إلى روح بورخيس وإيتالو كالفينو، بما فيها روح التجريب العالية، الاتكاء على القراءة كوسيلة لفهم العالم وتخييله، أسئلة الابتكار والمحاكاة، امتداد نصوص كِتاب الأدب الكبير المفتوح واللانهائي داخل نصه الكبير واشتباكه معها، أسئلته حول الكتابة وكذلك تغلغل أفكار المتاهات والمرايا في رواياته وقصصه القصيرة، وهي هموم تعلو في أعماله على هم ماركيز الأقل تعقيدا دون أن يكون أقل عبقرية من بورخيس وكالفينو وهو: كيف أحكي حكاية ساحرة بلغة شاعرية تناسبها. بل لعل ارتباط رواية ماكيت القاهرة بمفهوم السيمولاكر لجيل دولوز يؤكد ما أذهب إليه، وهو مفهوم أشير إليه بتعبير مبستر: عن القوة الإيجابية للنسخة المحرفة التي لا تعود كذلك، بل تنفي الأصل والنسخة، وهي فكرة مختلفة تماما عن المنتحل والمقلد الذي ينتجه عديمو الموهبة والخيال. وهي فكرة أدين باستيعابها لرواية ماكيت القاهرة بعد أن لم أستوعبها بالكامل عندما قرأتها كفلسفة نظرية لا كإبداع حي مجسد.

حكايات ماركيز لم ترتبط بالفلسفة، بل بمزج عناصر الحكي الشعبي والرصد الصحفي، الواقعة الرسمية وكما رواها الناس عبر الخرافة والشائعة والتضخيم. لكني أؤمن أيضا أنه أدرى بشعاب روحه وربما عبر اختياره لماركيز كسلف يجد القوة، ودليلي يرتكز فقط على فهمي لأعماله، ربما لأن ماركيز أيضا كان أقرب ما يكون في سيرته وأعماله إلى طاقة فرح وحيوية وحركة وانخراط دائم في الحياة الثقافية على مستوى كولومبيا وأمريكا اللاتينية والعالم، ها أنا ربما أتنازل عن فكرتي الأولى وأقف في صف فكرة طارق إمام، عن أسباب اختياره لإمامه، ولكل منا سلف كمرشد نقترب منه ونهتدي به ونختلف معه، نقيس المسافة عليه، ونطمح سرا في تجاوزه.

ماكيت القاهرة التي أتوقع وأتمنى فوزها بجائزة البوكر هي فوز للجائزة وتجديد للثقة فيها ومنبع للأمل أن الأدب الذي يملك رؤية مركبة للعالم، المتناقض مع القارئ والذي يقف معه عبر الوقوف ضده، مازال يملك مكانا مستحقا لدى القراء وسط سيل من ثغاء جميل ومهضوم وناجح.

الكاتب






ما هو انطباعك؟
أحببته
4
أحزنني
0
أعجبني
0
أغضبني
0
هاهاها
0
واااو
0


Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
‫إظهار التعليقات (2)

أكتب تعليقك

Your email address will not be published.







حقوق الملكية والتشغيل © 2022   كافه الحقوق محفوظة
موقع إلكتروني متخصص .. يلقي حجرا في مياه راكدة

error: © غير مسموح , حقوق النشر محفوظة لـ الميزان