همتك نعدل الكفة
9   مشاهدة  

أغاني الأفراح في الريف.. إيحاءات جنسية ورمزية للتفاعل مع البيئة

الأفراح الريفية
  • مي محمد المرسي صحافية مهتمة بالتحقيقات الإنسانية، عملت بالعديد من المؤسسات الصحافية، من بينهم المصري اليوم، وإعلام دوت أورج ، وموقع المواطن ، وجريدة بلدنا اليوم ، وغيرهم .

    كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال



تُعد الأفراح في الريف المصري، وبخاصة في دلتا مصر، واحدة من أروع مظاهر الاحتفال التي تدمج بين العادات والتقاليد القديمة والحداثة في تناغم فريد. قد يظن البعض أن هذه الأفراح مجرد لحظات بسيطة من الرقص والموسيقى، لكن عند التعمق في تفاصيلها، نكتشف عالماً غنيًا بالرموز والطقوس التي تعكس تاريخًا طويلًا من الثقافة الشعبية.

من قبل “ليلة الحنة” وحتى “يوم الصباحية” مرورًا بأيام احتفالية متنوعة مليئة بالأغاني والأهازيج؛ تحمل هذه الاحتفالات في طياتها معانٍ عميقة تُعبر عن مراحل الحياة وتقاليد المجتمع الريفي التي ما زالت حية رغم موجات التغيير التي تصيبها.

تبدأ الاحتفالات في الريف بما يُعرف بـ”عفش العريس” و”عفش العروسة”، حيث تُنقل الأمتعة في موكب احتفالي له طقوسه الخاصة. وفي هذا اليوم، تُسمع أغنيات مميزة تتغنى بها النساء، بعضها يعبر عن الفرح والبهجة، وأخرى تمثل تحديات ومفاخرة بين العائلتين.

وكمثال يبرز يوم “الخَبِّيز”، وهو يوم احتفالي يُقام قبل الفرح بأيام قليلة، حيث تُعدّ فيه الموائد العامرة بما لذ وطاب من المأكولات الريفية التقليدية كالفطير المِشَلتِت والبَتَاو والقُرَص البلدي.

ذلك في إطار استعدادات العريس لاستقبال عروسُه وضيوفهما، لتبدو هذه الاحتفالات كأنها إعلان صريح بأن البيت أصبح “عامرًا” وجاهزًا لاستقبال الحياة الجديدة؛ ويشارك في هذا الطقس كل نساء المنزل تقريبا.

الأفراح في الريف
يوم الخبيز

إيحاءات جنسية لا تغنيها سوى النساء الكبيرات في السن

في خضم هذه الاحتفالات، تُغنى أغانٍ خاصة تحمل معاني رمزية وإيحاءات جنسية ضمنية وأخرى مكشوفة، لا تؤديها إلا النساء الكبيرات في السن، ويُعدّ من غير اللائق أن تغنيها الفتيات الصغيرات اللاتي لم يسبقن لهن الزواج. من هذه الأغاني، أغنية مشهورة تحمل كلماتها دلالة على نضج الفتاة واستعدادها للزواج: “من أمتى وأنت غايب والرمان استوى“.

ويُقصد بالرمان هنا رمزًا للنضج الجسدي للفتاة، في إشارة إلى بلوغها واستعدادها للارتباط. ويعود أصل هذه الأغنية إلى زمن كانت فيه الفتاة تُخطب منذ صغرها، وتنتظر عودة خطيبها أو ابن عمها الذي غاب للعمل أو “الجهادية”، فتبدأ النسوة بالغناء احتفاءً بعودته واقتراب موعد الزفاف.

وللرجال أيضًا نصيبهم من هذه الأغاني، التي تحمل إشارات ضمنية إلى القوة والفحولة، مثل أغنية: “عيني على العازب عيني عليه.. المخدة بين رجليه“. تحمل هذه الأغنية إشارات واضحة إلى بلوغ الشاب واستعداده للزواج.

تُغنى هذه الأغاني وسط أجواء تعكس التقاليد المتوارثة، حيث تنتقل الكلمات والألحان من جيل إلى جيل، محافظة على الروح الأصلية لهذه الطقوس التي توضح سبب الزواج أصلًا وتحتفي به.

احتفالات وأهازيج خاصة بالتنجيد

أما في يوم “التنجيد”، فتكون هناك احتفالات نسائية منفصلة لدى أهل العروسين، حيث تجتمع النساء ويرددن أغانٍ تتعلق بتجهيز المنزل. من بين هذه الأغاني، نسمع “يا منَجِد عَلّْي المَرتَبة“، التي تُغنى خلال عَمَل “المنَجِد” بتنجيد المراتب والمخدات والأغطية القطنية في فناء بيت العريس، في مشهد يرمز إلى استعداد البيت لاستقبال العروس.

ورغم أن المراتب أصبحت الآن “فايبر” إلا أن الأغنية ما زالت تُغنى.. وما زال المِنّجد يُطالب بتعلية المرتبة وفي كوبليه أخر بتعلية المرتبتين.. في استمرار رمزي للتقاليد القديمة الخاصة بالأفراح في الريف.

الأغاني المصرية
تنجيد المراتب

الفخر والنسب بين العائلتين 

تستمر الأغاني في التعبير عن الفخر بالنسب والعائلة، مثل أغنية:

وخاله مين يا ولاه؟ وخاله (فلان) يا ولاه
يضرب بسيفه يا ولاه، بيحي ضيفه يا ولاه“.

يتم تعديل الكلمات لتناسب صلة القرابة المطلوبة، سواء كان الخال أو العم أو الجد، ما يعكس اعتزاز كل طرف بنسبه وعائلته.

وفي المقابل، يرد أهل العروس بأغانٍ مشابهة تمجد نسبهم وتتفاخر بـ”عِزوتهم”، مثل:

يا اللي عمامك سِتة
واحد وزير والتاني مدير
والتالت شيخ الحِتة
“.

لا تقتصر الأغاني على الفخر بالنَسَب والعِزوَة فحسب، بل تمتد إلى أغانٍ ترضي الطرفين وتجنب الصدامات، مثل أغنية:

دولا مين ودولا مين؟ دولا أهلك يا عروسة زي الورد مفتحين
دولا مين ودولا مين؟ دولا أهلك يا عريسنا زي الشمع منورين
“.

تحمل هذه الأغاني رسالة واضحة بضرورة التفاهم والتقارب بين العائلتين.

مع اقتراب موعد الزفاف، تبدأ أغانٍ جديدة تعكس الفرح والاستعداد للزواج. من بين هذه الأغاني:

خدناها.. خدناها..
طلبناها من الصيف الماضي
وأبوها ما كانش راضي

والتي تُغنى في سياق الفخر بحصول العريس على عروسُه بعد جهد وتضحيات، تصل إلى بيع الأراضي لتحقيق هذا الهدف. هذه الأغاني تعكس مدى تقدير العروس ومكانتها في العائلة الجديدة.

أغاني الحِنة بين الاحتفال والتعليم 

في “ليلة الحِنة”، تتغير الأجواء وتبدأ الأغاني التي تحمل طابعًا أكثر احتفالية. تُغنى أغاني مثل: “مدي إيدك يا عروسة، مدي إيدك للحِنة“، وأغاني أخرى توجه للأم، مثل: “أم العروسة هاتي الحِنة، هاتي ولا أنتي ناسية إن الحِنة الليلة دي“.

الأفراح في الريف
ليلة الحنة

هناك أيضًا أغانٍ تحتفي بالعروس باعتبارها وجهًا للخير والبركة، وتعبر عن هذا المعنى بارتباط رمزي بالبيئة الزراعية. من أشهر هذه الأغاني “على سبل الغَلّْة“، التي تقول: “ضم الغَلّْة عود على عود نتسلى“، حيث تمثل الغَلّْة رمزًا للخير والوفرة في الريف. الأغنية توحي بأن العروس تحمل معها البركة والخير لعائلة العريس، كأن وجهها يحمل بشارة الرزق الوفير.

الفخر بصغر سِن العروسة

كذلك، هناك أغاني تتغزل في العروس الصغيرة في السِن، مثل: “يا صغيرة يا أحلى بنات الحتة“، و”حلوة يا واد وصغيرة ومالية عليك المَنّدَرَة.. ورقة مالية عليك الشقة“. هذه الأغاني تعكس الفخر بصغر سن العروس، وهو أمر يرتبط بالثقافة الريفية باعتباره دلالة على الخصوبة العالية وقدرتها على الإنجاب سريعًا.

إقرأ أيضا
علي الكسار

الصغر هنا ليس مجرد وصف، بل يحمل في طياته مفهومًا ثقافيًا عن دور العروس في تعزيز النسل واستمرارية العائلة، وهو ما يفسر تفضيل الزواج من الفتيات صغيرات السن في هذه المجتمعات.

الأغاني التعليمية في ليلة الحِنة

كما توجد بالأفراح في الريف أغاني شعبية تتخذ طابعًا مختلفًا، حيث تمزج بين المُزَاح والإيحاءات، وتغنيها النساء الأكبر سنًا بلهجة ماكرة ومُلغزة. مثل أغنية:

ياللي ع الترعة حَوِّد ع المالح
رجلي بتوجعي من رقص امبارح
ياللي ع الترعة حَوِّد ع المالح
شعري بيوجعني من شد امبارح

التي تُعتبر درسًا ضمنيًا للعروس عن “ليلة الدخلة” وما يحدث فيها، ويُحذر على من لم يتزوجن غنائها فهي في المتعارف عليه أغنية إيروتيكية.

وأغاني أخرى تُغنى بنفس اللهجة الماكرة المُلغزة كأغنية: “نوم دراعك حرير والواد من كتر هزاره كسر السرير” و”أدي السرير من تعبه يدعي ع النجارين“. في هذه الأغنية، توجه العروس رسالة غير مباشرة إلى زوجها، تطلب فيها التعامل معها برفق ولطف خلال العلاقة الحميمة، وهو تعبير عن الرغبة في الحنان والرقة في هذا الوقت الحساس.

الأفراح في الريف
أغاني الحنة

ومن الأغاني التي تتناول التفاعل بين الزوجين بعد الزواج، أغنية “معرفش أدق التوم إلا بقميص النوم“، وهي أغنية تعليمية ذات طابع فُكاهي، إذ تُعَلِم العروس كيف تتعامل مع زوجها وتتودد إليه بدلال، ما يعكس جانبًا من ثقافة التعامل الزوجي.

أغاني عذرية العروس

في ختام ليلة الحنة، تُغنى أغنية “قولوا لأبوها إن كان جعان يتعشى“، وهي أغنية كانت تُغنى  فيما مضى في “ليلة الدخلة”.. تحديدا بعد إتمام الدُخلة وثبوت عذرية العروس، لكنها أصبحت الآن جزءًا من طقوس “ليلة الحِنَّة”. فالأغنية تشير إلى قلق والد العروس بشأن عذرية ابنته.

كان هذا القلق يتبدد بعد التأكد من عذريتها، وكان يتم التعبير عن ذلك من خلال طقس قديم في القرى، حيث تقوم الداية أو الزوج بإثبات عذرية العروس بإظهار الدم وإلقاءه من المندرة، ليطمئن الجميع. الأغنية هنا تشير إلى أن والد العروس، الذي كان قلقًا، يمكنه الآن أن يطمئن ويتناول عشائه.

كل هذه الأغاني والتقاليد المرتبطة بالأفراح في الريف، بمزيجها الفريد من الرمزية والإيحاء تُشكل جزءًا أصيلًا من ثقافتنا الشعبية، إذ تُغنى بالأفراح في الريف لتعبّر عن الفرح والفخر والاحتفاء بالزواج، مع الحفاظ على الروح الجماعية التي تجمع الأهل والأصدقاء في هذه المناسبات. فهي ليست مجرد أغانٍ تُغنى في الاحتفالات، بل هي ذاكرة متوارثة، تحكي قصص الأجيال وتجاربها، وتُخلّد في الوجدان الشعبي كجزء من هوية المكان وروحه.

اقرأ أيضًا: من الحسد إلى القدرة الجنسية.. أسرار الملح في التراث الشعبي

الكاتب

  • الأفراح في الريف مي محمد المرسي

    مي محمد المرسي صحافية مهتمة بالتحقيقات الإنسانية، عملت بالعديد من المؤسسات الصحافية، من بينهم المصري اليوم، وإعلام دوت أورج ، وموقع المواطن ، وجريدة بلدنا اليوم ، وغيرهم .

    كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال






ما هو انطباعك؟
أحببته
0
أحزنني
0
أعجبني
0
أغضبني
0
هاهاها
0
واااو
0


Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
‫إظهار التعليقات (0)

أكتب تعليقك

Your email address will not be published.







حقوق الملكية والتشغيل © 2022   كافه الحقوق محفوظة
موقع إلكتروني متخصص .. يلقي حجرا في مياه راكدة

error: © غير مسموح , حقوق النشر محفوظة لـ الميزان