أغنيات الكانتين وترميم تمثال رمسيس الثاني ولوحات عالمية.. كيف أبدع نزلاء السجون
-
محمد احمد
كاتب فضي له اكثر من 250+ مقال
السجن في عزلته يشعر بالحنين للحرية، ويتوق لرؤية أهله وأحبابه وأولاده، ويحن للدنيا الواسعة الرحبة خارج حدود محبسه، فقد أنجز نزلاء السجون ما لم يستطعه فنانون عالميين، ونظموا إذاعة محلية مشغولة بالفن والأدب والطب، فضلًا عن اللوحات التي أحدثت صدى عالمي في الصحف العالمية وقبلها المحلية.
زجل لوصف أحوال النزلاء
يتنغى أحد السجناء في أيام العيد ندمًا على الأيام التي كان يقضيها فرحًا في هذا الوقت، يقول: “يا عيد خبّر عن صحاب عاقني، عنهم تربص هذه القضبان، خبر عن الأهل والكرام وعهدهم، وعن الديار الذاكرات حناني، خبر عن الدار التي همنا بها، يوما وشمنا الحب في الأركان”.
الدكتور نجيب الكيلاني في أحد فصول دراسته عن أحوال المساجين، رصد الفنون التي تُثار في نفوسهم، فرصد زجلية كتبها أحد النزلاء “أ.ج” بسجن أسيوط بعنوان “عليوه”: ” عليوه قام من النوم بعد الفجر بشوية، علشان عليه الدور في دلق البول والميهن مسح عليوه الأرض بعد الكنس بالخيشة، عشان ما يجي الشويش ويشوفها مجليه”. ويستمر النزيل في شرح حال “عليوه” وانفعلاته النفسية وانتظاره للجلد، إصابته بآلام روماتزمية حادة، وكحة شديدة، ثم سوقه إلى العروسة، وتنفيذ الجلد، إلى أن يغمى عليه فيحملونه إلى زنزانته وهي في حالة يرثى لها.
وفي عام 1955 ألغيت القيود الحديدة التي كانت يكبل بها النزيل في السجن، فهتف نزيل في ليمان طرة، يقول ” الليلة ديه عيد علينا، عند صدورنا انزاح كابوس، الحديد كان سبه لينا، كان مذلة للنفوس، بند في اللايحة القديمة، اللي سابها الاحتلال، نيته ما هش سليمة، والضمير وهم وخيال”.
أغاني الكانتين
كان نظام إدخال الكانتين في السجون نعمة كبيرة، فقد أتيحت لهم الحلوى والفواكه والمأكولات، بعد أن كانت محرمة عليهم وكان مجرد حيازة “أكل ملكي” يفتح عليهم طريق التأديب والعقاب.
لكن عددًا منهم لم يستطع الاستفادة بهذه المزية، نظرًا لفقره وشدة حاجته للمال، فكتب أحد هؤلاء يقول في زجليته “نحن والكانتين” : ” سملون وسردين والرنجة، شغل لارنجة، حاجات تجيب مرض الدنجة، للي مفلس، جيوبي أنضف م الصيني، مين يديني، لولا المبادىء تحميني، كنت أهلس، أشوف مناظر وأتألم، ابقى مبلم، عاوز أدوس وأعلم، مين يسمعني، الجوع مطلع أيمانهم، هد كيانهم”.
أدب ياما في السجن مظاليم
كان بعض النزلاء يكتب قصصًا قصيرة بأبطال خيالين، وبعضهم يكتب اعترافاتهم تحت عنوان ” من أرشيف النزلاء” أو ” ياما في السجن مظاليم”، وكان بعضهم يرجأ جريمته إلى الظروف القاهرة، أو يرى نفسه مظلومًا لم يجد من ينصفه، فيدافع في كتاباته عن كرامته وإنسانيته، أو يصور بعضهم جريمته على أنها جاءت بمحض الصدفة.
فالنزيل الذي أشار إليه نجيب الكيلاني بـ”م.م” حُكم عليه بعدة أحكام مجموعها حوالي 86 سنة، ودخل ليمان أبي زعبل وطره، وروى لمجلة “الأثنين”، كيف ارتكب الجريمة الأولى ثم الثانية، إلى أن زامل أشهر المجرمين وصار أشهر من النار على العلم.
وفي عام 1958 أقامت مجلة “الأثنين” مسابقة في القصة القصيرة، ووزعت على الفائزين مكافآت مالية ذهبية، ثم أعلنت عن مسابقة في الشعر الوطني، وشارك فيها المساجين كما شاركوا في مسابقة القصة القصيرة.
النحت
عهدت وزارة التربية والتعليم عام 1935 إلى الفنان أحمد عثمان بإنشاء قسم للنحت في ليمان طره، وإتاحة الفرصة للنزلاء كي يتثقفوا ويتعلموا ما يستطيعون من قواعد فن النحت وأصوله، فنحتوا تماثيل “تحتمس” و “أوزوريس” و “حتحور” و “بيتهوفن” وقليل من تلك التماثيل يشمل فكرة صياد السلحفاة.
وكان من أهم الأعمال التي قام بها النزلاء ترميم تمثال رمسيس الثاني الذي كان مقره بميدان المحطة بالقاهرة، بعد فشل أحد المقاولين الأجانب في القيام بهذا العمل الذي انتهى منه النزلاء بسرعة ودقة.
وروى الفنان أحمد عثمان، أن الفنان الأسباني “كومندادور” أخصائي تلوين التماثيل أثناء زيارته لمصر أعجب بتمثال نصفي من الصلصال، وتمنى أن يكون هذا التمثال من الحجر حتى يستطيع تلوينه، كان نحت هذا التمثال حتى يستطيع تلوينه، وكان نحت هذا التمثال من الحجر يحتاج لثلاثة شهور على الأقل كما يعتقد “كومندادور”، لكن الفنان أحمد عثمان عرض الفكرة على أحد النزلاء فرد عليه ” اتكل على الله يا أستاذ، دا أنا ابنك وأنت مربيني”، وفعلًا أتم النزيل التمثال في 12 يومًا، فلم يتمالك “كومندادور” نفسه وصاح ” مصر… مصر العظيمة في فنها الخالد على مر الأجيال، اليوم ألمس بنفسي حدثًا فنيًا صنعه مصري لا يمكن أن يتم إلا على أيدي سلالة الفراعنة الأمجاد”.
اقرأ ايضا
حصان شعبان عبد الرحيم يحرج إنسانيتنا
الرسم
ذات مرة زار اللواء أحد زكي شكري مدير عام مصحلة السجون، سجن بني سويف، ورأى لوحة فنية لأحد النزلاء، رسم فيها نافذة حديدية تعلق بها طفل صغير، من خلفه أمه السجينة وكتب تحت الصورة ” وأنا ذنبي إيهّ” فأصدر أوامره لمأمور السحن كي يسمح بمزيد من الحرية والترفيه والاهتمام بالأطفال وأمهاتهم داخل السجن. وعرضت هذه الصورة في الصحف المحلية والعالمية وأحدث دويًا كبيرًا.
إذاعة السجون المحلية
نظم سجناء ليمان طرة إذاعة محلية وكان لهم مطلق الحرية في تنظيمها واختيار موضوعاتها في حدود اللائحة، وقلدهم في ذلك نزلاء سجون المنصورة.
كانت موضوعات تلك الإذاعة مكونة من، تمثيليات إذاعية قصيرة، أزجال من إنتاج النزلاء، أحاديث طبية، أغاني من إنتاج وتلحين وغناء النزلاء، أسئلة النزلاء والإجابة عليها وتقديم مقترحات، نشرات إخبارية تتعلق بالسجن عامة والخارج عامة، موضوعات ثقافية عامة، تسجيل الزيارات الرسمية التي يقوم بها كبار الزوار من المصريين وغير المصريين، قصص قصيرة هادفة.
اقرأ أيضا
اللواط والخبص وتعاطي المخدرات … ممارسات غريبة يتفاخر بها نزلاء السجون
الكاتب
-
محمد احمد
كاتب فضي له اكثر من 250+ مقال