أغنيات في الذاكرة : اّه حبايب .. جورج وسوف .. السلطان الجالس على عرش الطرب
-
محمد عطية
ناقد موسيقي مختص بالموسيقي الشرقية. كتب في العديد من المواقع مثل كسرة والمولد والمنصة وإضاءات
كاتب فضي له اكثر من 250+ مقال
قبل عام 1994 لم يكن جورج وسوف قد اكتسب شهرته الكاسحة داخل مصر، كان يتم تداول شرائطه بين القادمين من لبنان أو من أتيح لهم التعرف على صوته عبر الإذاعات الأجنبية مثل “مونت كارلو” والتي كانت تلبي طلبات مستمعيها من كافة الدول العربية إذاعة أغنيات مطربيها المفضلين وكان الطلب أكثر على أغاني “جورج وسوف”.
ظهر شريط “كلام الناس” في تلك الفترة التي كانت تعيش فيها الأغنية المصرية حالة رواج تجاري للأغنية الشبابية المعتمدة على كثير من الإيقاعات قليل من التطريب مع خلو الساحة من مطرب شعبي يزاحم عرش الأيقونة “أحمد عدوية” المبتعد عن الساحة ورغم وجود أصوات شعبية جماهيرية مثل “حسن الأسمر – عبد الباسط حمودة” إلا أن عرش عدوية لم يقترب منه أحد حتى جاء جورج وسوف كي يزحف ببطء ليحتل مقعد عدوية بين صفوف جماهير الأغنية الشعبية التي كانت تبحث عن صوت طربي يملك بصمة مختلفة عن الموجودين على الساحة.
نجح شريط كلام الناس في تعريف الجمهور بصوت جورج وسوف و حررته من المقارنة مع الأصوات المصرية التي كانت تبتلع الأصوات غير المصرية على الساحة، وأعاد الجمهور إكتشاف أغانيه الأولى “روحي يا نسمة – حلف القمر – أوعديني – الهوى سلطان – صياد الطيور” والتي لم يشعر فيها الجمهور بأي عائق من ناحية الصوت أو اللهجة حيث كانت أقرب إلى روح وشكل الأغنية المصرية الشعبية ومتسقة تمامًا مع ذوق الجمهور الذي كان يبحث عن لمحة تطريب غائبة عن سوق الغناء ليحتل بعدها جورج المكانة التي يستحقها تمامًا ونصبه الجمهور سلطانًا للطرب.
رغم تعاون جورج الشاعر والملحن المصري “شاكر شعيشع” الشهير بـ شاكر الموجي في العديد من الأغاني التي نجحت في فرنسا ولبنان إلا أن الفضل الأكبر في شهرة جورج داخل مصر تعود إلي الثنائي : الملحن صلاح الشرنوبي والموزع الموسيقي طارق عاكف حيث صنعا تجربة لافتة مع جورج بداية من مجموعة “كلام الناس” مرورًا بالشريط التالي “ليل العاشقين” والذي ثبت أقدامه أكثر في سوق الغناء المصري.
في شريط ليل العاشقين صنعا الثنائي الشرنوبي وعاكف مع الشاعر وليد رزيقة أغنية “اّه حبايب” والتي كانت عودة إلى عصر صناعة الأغنية الطربية وفي نفس مواكبة لشكل أغنية التسعينات الإيقاعية .
الكلمات :
كلمات وليد رزيقة تأتي ملائمة لمزاج الأغنية الشعبية المصرية التقليدية عن تيمة الحب الموجود لكنه ضائع تحت وطأة الفراق والغدر والخيانة في مفردات مصرية قحة تشير إلى عاشق مأزوم يغني باّسي “اّه حبايب بس فين الحب غايب وليه يا قلبي مالكش نايب” وفي نفس الوقت صالب عوده لا ينتحب أو يبالغ رغم قسوة المشهد الذي ينهيه بجملة “ده الهوى مليان عجايب”.
الموسيقى :
لحن صلاح الشرنوبي واحد من أحلى وأصعب الألحان التي شهدتها حقبة التسعينات قاطبة، بناء شاهق متعدد الأفكار اللحنية غارق في التطريب الشرقي والنقلات المدرسة بشكل يعطينا لمحة عن فهم عميق للمقامات الموسيقية الشرقية التي هجرها أغلب الملحنين لصالح مقامين فقط.
هذا اللحن كان لابد له من موزع على قدر كبير من المسئولية ولن تجد أعظم من طارق عاكف كي يضع أفكاره التي تبرز جمال وحلاوة لحن الشرنوبي لذا لا يمكن بأي حال من الأحوال فصل اللحن عن التوزيع بل نحن أمام تحفة موسيقية متماسكة الأركان و مترامية الأطراف.
وضع طارق عاكف أفكاره الخاصة في المقدمة على مقام الهزام وهو المقام الرئيسي لـ لحن صلاح الشرنوبي بداية من الوتريات التي يظهر خلفها الكيبورد بنقرات خفيفة حتى يستلم المقدمة بتكنيك عزف يحمل بصمة المايسترو طارق عاكف ثم يوسع الأفكار بدخول اّلة الساكسفون الشرقي بفكرة جديدة خلفه نقرات عاكف الكيبوردية المميزة ثم تستلم الوتريات الراية حتى تسلم الغناء بسلاسة لجورج وسوف.
يخف الإيقاع مع دخول صوت جورج حيث يبدأ اللحن من نقطة الصفر على مقام الهزام “اّه حبايب بس فين الحب غايب وليه يا قلبي مالكش نايب” فيما يشبه الموال خلف الغناء رق ووتريات ترد على الغناء حتى تأتي الفكرة اللحنية الثانية على نفس المقام “شافوا إيه بس في عنينا – سمعوا إيه يتقال علينا” بشكل تصاعدي حتى يصل إلي الذروة في “صدقوا صعبان علينا من فراق اغلى الحبايب” ثم يهبط جورج بكل سلاسة مع تكرار كلمة “حبايب”
تعاد المقدمة مرة أخرى كجملة فاصل موسيقي مع اختلاف في تسليمة الغناء بتمهيد عبقري لتغيير مقام اللحن في الكوبليهات حيث يبدأ الغناء من مقام النهاوند في جملة “الحبايب دول عيونك” ثم يخرج منها إلى سلم النهاوند الكبير في “ونسوني في ليل غرامك” ثم يتلاعب الشرنوبي في الإعادة حيث ينتقل إلى مقام البياتي ثم يقفز بكل براعة وعبقرية إلى فرع الراست من مقام الهزام في جملة “شفت فرح ما شفتهوش – عشت عمر ما عشتهوش” حتى يمهد إلي العودة إلي الهزام مرة أخرى في السينيو “شافوا إيه بس في عنينا – سمعوا إيه يتقال علينا” مع تنويعات في الإيقاع من عاكف ووتريات ترد على الغناء بشكل رائع.
في جملة الفاصل الثانية يتلاعب عاكف هو الأخر بالكيبورد بعزف نفس الجملة الرئيسية مع بعض الإضافات “حليات وعٌرب” وجمل وتريات ترد بخفة على العزف حتى يستلم الساكسفون الراية ثم تدخل الوتريات خلفها نقرات من الكيبورد لتسلم الغناء في الكوبليه الثاني الذي كان تكرارا لما حدث في الكوبليه الأول بحذافيره.
أداء جورج وسوف فوق الخيال حقيقة، إحساس بكل كلمة وبكل جملة لحنية يعطيك إحساس بكل نقلة لحنية وكأنه سايب ايده ينم على أننا أمام مطرب هارب من عصور الطرب القديمة مع قدرة على أداء أصعب الألحان بكل سلاسة وخفة.
تأتي أغنية “الحبايب” لتعطينا لمحة عن أن فترة التسعينات لم تكن بالسوء الذي يتصوره البعض على مستوى الألحان والإخراج الموسيقي وأننا كنا نملك ملحن قدير بحجم صلاح الشرنوبي وموزع شرقي رائع مثل المايسترو طارق عاكف مع التأكيد على أن هذا الثنائي كانا أحد الأسباب التي ساهمت في ترسيخ أقدام جورج وسوف في سوق الغناء المصري واكتسابه شعبية ضخمة جدًا بين المستمعين.
ضع سماعتك وانطلق معنا في تلك الرحلة العظيمة مع صوت سلطان الطرب “جورج وسوف”.
أغنيات في الذاكرة : ثلاثية حميد الشاعري العظيمة
الكاتب
-
محمد عطية
ناقد موسيقي مختص بالموسيقي الشرقية. كتب في العديد من المواقع مثل كسرة والمولد والمنصة وإضاءات
كاتب فضي له اكثر من 250+ مقال