همتك نعدل الكفة
53   مشاهدة  

أكتوبر 1973.. حرب على هامش الدوري المصري!

الدوري المصري


في ٥ مايو ٦٧ الإسماعيلي فاز بـ الدوري المصري لأول مرة في تاريخه.. بعدها بشهر بالتمام والكمال صحونا على نكسة، بسببها حرمنا لأربعة سنوات من قطايف ولطايف الدوري المصري الممتاز جدا، عامان ما رفت راية على كورنر، وعامان آخران ألغيت فيهما المسابقة بعد بدايتها.. لا أعرف يقينا إن كان الأمر عقابا للإسماعيلي على فوزه بالدوري أم عقاب لاتحاد الكرة الذي أنهى الموسم في ميعاد طبيعي – واحنا مش واخدين على كدا.

بعد شهر من احتفالات شهدتها الإسماعيلية وحدها دون سائر القطر المصري، خيم الحزن الممتزج بالذهول ربوع الوطن المكلوم. المصريون “فشّوا غلهم” في الإذاعي المسكين أحمد سعيد، الذي قدم إعلام عبد الناصر رأسه قربانا للمصريين كأنه المسؤول عن الهزيمة والبيانات الكاذبة.. ما علينا.

أحمد سعيد مؤسس إذاعة صوت العرب

مات عبد الناصر وعبد الحكيم وجاء السادات مصحوبا بزفة أمل، ارتفعت المعنويات كالعادة مع أي تغيير، ثم سقطت على جدور رقبتها مرة أخرى بسبب الحركات الفشنك “الراجل دا مش ناوي يحارب”.

عاد الدوري في يوم ٦ أكتوبر 71 بمشاركة 11 فريقا .. ثم ألغي بعد ذلك.. أمر يشبه قرارات التعبئة العامة في الجيش التي كانت “بتنزل على مفيش”.. الأوضاع في مصر عموما مربكة، الجيش يعبأ ولا يحارب، الممثلون في لبنان يصنعون أفلاما تناسب أجندة نتفلكس، كرة القدم أفيون المصريين تتعطل كلما دارت، الجمعية مفيهاش فراخ ولحمة ولا زيت وصابون، الإعلام يقول إن مصر لا تقدر على دفع ثمن فاتورة الحرب وأن لا بديل عن قبول السلم. المظاهرات الشبابية تغمر الجامعات، والسادات يبدو إنه جاي يهزر!.

في يوليو 1972 قام الرئيس السادات بزيارة المخابرات العامة، وبصحبته قائد الجيش ومستشار الرئيس للأمن القومي ورئيس المخابرات العسكرية، ودعا كل رؤساء الأقسام بالجهاز إلى اجتماع تاريخي، استغرق أكثر من 5 ساعات. ووجه بوضع خطة خداع استراتيجي يسمح لمصر بالتفوق على التقدم التكنولوجي والتسليحي الإسرائيلي (الأمريكي) عن طريق إخفاء أي علامات للاستعداد للحرب وكي لا تجهض إسرائيل بضربة استعدادات القوات المصرية على الجبهة.

السادات كان يرى أن التوازن العسكري مع إسرائيل ليس في صالحنا، وأن التقدم العلمي والتكنولوجي يسمح للعدو برصد كافة تحركاتنا سواء على الجبهة أو في الداخل، وما لم نتمكن من تنفيذ خطة خداع استراتيجي، فإن الانتصار في الحرب سيكون مستحيلا.

كلف الرئيس المخابرات العامة بالإشراف على وضع هذه الخطة بالتعاون مع المخابرات الحربية وكافة الجهات المعنية في الدولة، حتى نستطيع التفوق على التقدم التكنولوجي والتسليحي الإسرائيلي عن طريق إخفاء أي علامات للاستعداد للحرب كي لا تجهض إسرائيل استعدادات حرب التحرير.

شملت خطة الخداع الاستراتيجي عدة محاور من بينها:

* إجراءات تتعلق بالجبهة الداخلية

– إظهار ضعف مصر اقتصاديًا وعدم قدرتها على الهجوم، ومنها استيراد مخزون استراتيجي من القمح، عن طريق قيام المخابرات العامة بتسريب معلومات بأن أمطار الشتاء قد غمرت صوامع القمح، وأفسدت ما بها، وتحوّل الأمر لفضيحة إعلامية استوردت مصر على أثرها الكميات المطلوبة.

-إخلاء المستشفيات تحسباً لحالات الطوارئ، إذ جرى تسريح ضابط طبيب من الخدمة وتعيينه بمستشفى الدمرداش، ليعلن عن اكتشافه تلوث المستشفى بميكروب، ووجوب إخلائها من المرضى لإجراء عمليات التطهير. وفي اليوم التالي نشرت “الأهرام” الخبر معربة عن مخاوفها من أن يكون التلوّث قد وصل إلى مستشفيات أخرى، قبل أن يصدر قرار بتفتيش وإخلاء باقي المستشفيات.

-استيراد مصادر بديلة للإضاءة أثناء تقييد الإضاءة خلال الغارات، عن طريق تنسيق أحد المندوبين مع مهرب قطع غيار سيارات لتهريب صفقة كبيرة من المصابيح مختلفة الأحجام، وبمجرد وصول الشحنة كان رجال حرس الحدود في الانتظار، واستولوا عليها كاملة وتم عرضها بالمجمعات الاستهلاكية.

ومن أجل تقليل الانتباه العام دعا الفريق أول أحمد إسماعيل جميع وزراء الحكومة يوم 27 سبتمبر 1973 لزيارة هيئة الأركان العامة لاطلاعهم على الجديد من الأجهزة المكتبية والحاسبات الآلية.

* إجراءات خداع ميدانية

وفرت المخابرات معلومات حيوية سمحت ببناء نماذج لقطاعات خط بارليف في الصحراء الغربية لتدريب الجنود عليها وخداع الأقمار الصناعية لملء المعسكر بعدد من الخيام البالية والأكشاك الخشبية المتهالكة، ولافتات قديمة لشركات مدنية.

وطوال صيف 72 كانت القوات المصرية تقدم عرضا مسرحيا للترفيه عن العدو، إذ أظهرت تدريبات الجنود على عبور القناة بشكل متعمد تحت سمع وبصر قوات العدو، ففي مواجهة أجهزة التصوير الإسرائيلية أعد المصريون شواطئ للنزول عليها، وبنوا الجسور.

السادات صاحب الخداع الإستراتيجى

وعرضت الأفلام التي التقطت في ذلك اليوم على التلفزيون الإسرائيلي، وقام المصريون مرة واحدة على الأقل في عام 73 بتمثيل عملية العبور بأقل تفاصيل ممكنة، ونقلت الصحف المصرية سير هذه العملية التي شهدها جنود العدو في خنادقهم على الضفة الشرقية للممر المائى، وهذا التكرار للتدريب على عملية العبور أكبر خدعة للعدو، إذ إنه لم يثر فيهم سوى الضحك والاستهزاء من عدم قدرة القوات المصرية على القيام بذلك وعبور أكبر خط دفاعي عرفه التاريخ.. حلوة المسرحية؟

عبور القوات المصرية يوم 6 أكتوبر كان بالضبط نفس ما حدث قبل ذلك بكل تفاصيله الدقيقة، وهكذا كان العدو يعتقد أنه تدريب اعتيادي يقع أمام عيونه، وهو حقاً كذلك، في حين أنه كان في نفس الوقت تدريباً عملياً على خطة العبور.

كعودة الدوري وإلغاءه، أطلقت مصر أكثر من رسالة عن احتمالات شن الحرب دفعت إسرائيل للاستعداد واستدعاء الاحتياطي ثم تؤجل الحرب، وهو ما أربك حسابات العدو خاصة مع وجود رسائل متناقضة وفي اتجاهات مختلفة، وفي النهاية شن المصريون الحرب وحطموا الأسطورة واعترف القادة الإسرائيليون أمام لجنة “إجرانات “وغيرها بأن المصريين خدعوهم وأن جهاز الموساد وأجهزة المعلومات الإسرائيلية تعطلت تماما قبل الحرب.

في يوليو 1972 صدر قرار بتسريح 30 ألفا من المجندين منذ عام 1967 وكان كثير منهم خارج التشكيلات المقاتلة الفعلية وفى مواقع خلفية.

في نفس العام 1972 عاد الدوري المصري مجددا، وزاد عدد الفرق المشاركة إلى 12، واكتمل موسم 72/73 في رسالة مفادها الظاهر أن المصريين استسلموا للواقع وقرروا عيش حياتهم، غير أن شهورا قليلة بعد ذلك ستجعلك تدرك الرسالة الخفية: “المصريون قادرون” وأن المحلاوية مية مية فهم من فازوا باللقب.

في الفترة من 22 وحتى 25 سبتمبر تم الإعلان عن حالة التأهب في المطارات والقواعد الجوية بشكل دفع إسرائيل لرفع درجة استعدادها تحسبا لأى هجوم، لكن القوات المصرية أعلنت بعد ذلك أنه كان مجرد تدريب روتيني، واستمرت تطلق تلك التدريبات والمناورات من وقت لآخر حتى جاءت حرب أكتوبر وظنت إسرائيل في بدايتها أنها مجرد تدريب أيضا.

في 21 أغسطس 1973.. عقد اجتماع بين القادة المصريين والسوريين الذين جاءوا بالملابس المدنية على إحدى السفن القادمة إلى الإسكندرية، وخلال الاجتماع تم تحديد موعد الهجوم ما بين 5-11 أكتوبر.

سربت معلومات للجانب الإسرائيلى، مفاداها أن مصر ستبدأ إجراء مناورات شاملة في الفترة من 1 وحتى 7 أكتوبر. .. وفى يوم 9 أكتوبر سيتم تسجيل الضباط الراغبين في تأدية مناسك الحج، وكذلك تنظيم دورات رياضية عسكرية مما يتنافى وفكرة الاستعداد للحرب، والإعلان عن السماح لسائر المصريين بالسفر لتأدية الشعائر نفسها مما جعل إسرائيل تظن أن مصر لن تخوض حربا وأنه لن يحدث أي هجوم من قبل جيشنا على قواتها.

في الوقت نفسه بدأ الموسم الجديد من الدوري المصري 1973/1974 وزاد عدد الفرق المشاركة إلى 18 فريقا لأول مرة في تاريخ المسابقة، وأصبح غزل المحلة مضطرا للدفاع عن لقبه في مسابقة زاد عدد المتنافسين فيها بمقدار الثلث!.

اعتمد نجاح خطة الخداع الاستراتيجي على عنصر المفاجأة من خلال إخفاء توقيت العملية حتى عن الجيش المصرى نفسه.. فقد أخفيت ساعة الصفر ولم تعلن إلا قبل الحرب بوقت قليل، وألغيت أية أعمال للتخطيط والاستطلاع التي يفترض أن تسبق الحرب كي لا يكتشف الجيش الإسرائيلى نوايا مصر.

إقرأ أيضا
عبدالرحيم كمال مؤلف مسلسل الحشاشين

فى صباح يوم الحرب نفسه 6 أكتوبر 1973، شوهد الجنود وهم في حالة استرخاء وخمول، وكان المصريون في الظهيرة على موعد مع لقاء المحلة بطل النسخة السابقة من الدوري مع الطيران في ملعب الترسانة بميت عقبة.

جانب من مباراة المحلة والطيران في الدوري المصري موسم 1973/1974

بدأت المباراة والفلاحون يملأون جنبات الملعب (الطيران ناد غير جماهيري).. الشوط الأول والنتيجة تشير إلى التعادل السلبي، وفجأة بدأ جمهور المحلة في الهتاف للطيران !. رواد الملاعب قديما يعرفون أن الراديو الترانزيستور كان أهم لدى مشجع الكرة من الفوفوزيلا المزعجة، سمع المشجعون عبر الراديو البيان الأول للحرب، وعرفوا أن الطيران الحقيقي عبر القنال وبدأ معركة التحرير فهتفوا للطيران.

حكم المباراة إبراهيم الجويني الضابط بالقوات المسلحة رفض طلب اللاعبين بإلغاء المباراة، إذ اعتقد أنه الأمر مجرد مناورة معتادة.

الدوري المصري

عمر عبدالله نجم المحلة الشهير قال في تصريحات سابقة لمجلة الإذاعة والتليفزيون: “أتذكر تفاصيل المباراة جيدا لقد كنا نلعب من أجل الفوز. وفوجئنا بهتاف الجماهير للطيران.. حاولنا إقناع الحكم بإلغاء اللقاء بعد التأكد من اندلاع الحرب، لكن الحكم رفض، مع منتصف الشوط الثاني تقريبا.. تزايد هتاف الجماهير للجيش المصري وأصبح الجميع على يقين بأن الحرب قد بدأت أخذنا جميعا ننظر لبعضنا البعض.. كل لاعب من المحلة يقف مع لاعب من الطيران والحديث كله عن الحرب والمباراة تسير بشكل غريب، لكن فجأة تراجع الحكم عن موقفه وأطلق صافرة بإلغاء المباراة وعدم استكمال الشوط الثاني.

الدوري المصري

أما حنفي هليل أحد أهم نجوم المحلة فقال للمجلة ذاتها: “ليس صحيحا على الإطلاق ما يكتب حول استكمال اللقاء.. رفض الحكم الغاء المباراة بين الشوطين بالفعل، لكن في الشوط الثاني قرر عدم استكمال المباراة.. وليس صحيحا ان الطيران أحرز هدفا ثم تعادل غزل المحلة كل ما حدث أننا فوجئنا بهتاف الجماهير للطيران رغم أن التعادل السلبي كان يسيطر على اللقاء”.

ويضيف هليل: “لقد كان ضمن الخداع الاستراتيجي أن يظل كل شيء كما هو.. مباريات الكرة في موعدها دون تغيير .. كل الشواهد تؤكد عدم وجود حرب، لذلك جاءت الضربة الجوية الأولى صادمة للعدو”.

بعد الانتصار العظيم.. قرر اتحاد الكرة عدم استكمال المسابقة التي مر منها شهر واحد فقط ليتفرغ الجميع للحرب والنصر، حتى أن مصر التي كانت على موعد مع استضافة كأس الأمم الأفريقية ٧٤.. قرر مسئولو اتحاد الكرة بها عودة النشاط الكروي مرة أخرى استعدادا للعروس الأفريقية، ولكنهم أعادوه على هيئة دوري مناطق كي يستعد المنتخب للبطولة، دوري ودي بلا نقاط للفائز أو المتعادل، بلا منافسة حقيقية، فالشعب كله على قلب رجل واحد، وما تجمعه حرب أكتوبر لا تفرقه منافسات كرة القدم.

اقرأ أيضا:

السوبر الإفريقي.. 30 عاما بعد أيمن منصور

الكاتب






ما هو انطباعك؟
أحببته
0
أحزنني
0
أعجبني
0
أغضبني
0
هاهاها
0
واااو
0


Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
‫إظهار التعليقات (0)

أكتب تعليقك

Your email address will not be published.







حقوق الملكية والتشغيل © 2022   كافه الحقوق محفوظة
موقع إلكتروني متخصص .. يلقي حجرا في مياه راكدة

error: © غير مسموح , حقوق النشر محفوظة لـ الميزان