أمركة السينما المصرية (5) أنور وجدي “2” حينما جاءت هوليوود للقاهرة
-
عمرو شاهين
كاتب برونزي له اكثر من 100+ مقال
في الحلقة السابقة كان الحديث عن أنور وجدي ممثلًا، وكيف كان أول من انتهج النموذج الأمريكي في صناعة النجم وصورته الذهنية، وكيف تأثر بالشكل الأمريكي في التمثيل، ولكن الحقيقة أن وجدي ليس مجرد ممثل بل هو سينما تمشي على قدمين، والحقيقة أن ما قدمه للسينما خارج مجال التمثيل أكبر بكثير مما قدمه لها كممثل، كان مخرجًا ومؤلفًا ومنتجًا وموزعًا وفي كل مجال منهم كان هو صاحب السبق وأحيًانا الفضل الأول.
كلاكيت أول مرة
في منتصف الأربعينات أجبر القدر أنور وجدي على القيام بمهام المخرج، في تلك الفترة كان يفتتح ثنائيته كبطل مع ليلى مراد، في فيلم “ليلى بنت الفقراء”، هذا الفيلم كان مقرر له أن يخرجه المخرج الكبير كمال سليم مخرج فيلم “العزيمة” ولكن قبل بداية تصوير الفيلم يتوفى كمال سليم ليقرر أنور وجدي أن يقوم بإخراج الفيلم، ولما لا وهو منتجه أيضا ومشارك في كتابته، ليقرر أنور وجدي أن يصنع فيلمًا أمريكيًا للغاية.
القصة نفسها التي شارك وجدي في كتابتها، هي قصة رومانسية حول قصة حب بين رجل وسيدة من طبقتين مختلفتين، تيمه عالمية تصلح لكل زمان ومكان، في وقت كانت السينما تضج بالأفلام الرومانسية، والجمهور مقبلًا عليها، فكانت القاعدة تقول لا سينما بدون قصص حب، ولكن الأهم هو كيف صاغ أنور وجدي تلك القصة إخراجيًا.
التيمة الرومانسية الكلاسيكية هي مضمار رحب لاستعراض واستخدام التكنيك الأمريكي في الإخراج والتصوير المعتمد على كل ما هو جميل وفاخر وساحر، حتى في الديكور المفترض أنه فقير وغير فاخر، ستراه منمق ومتناسق وبه جماله، هذا التكنيك اعتمدته أمريكا منذ لحظة أن صدرت للعالم وجهها الأشهر، أنها سينما السحر والفرص وكل ما هو جميل ومبهج، في تلك الفترة كان هذا ما تعمل عليه السينما الأمريكية، حتى حينما قدمت فيلمها الكلاسيكي “ذهب مع الريح” والذي يحمل بداخله العديد من الدراما المؤلمة والمأساوية في بعض الأحيان، لم تتخلى عن جماليات الصورة وسحرها، وهذا ما التقطه أنور وجدي.
بالإضافة لأن أنور وجدي لم يفته تقليد السينما الأمريكية في أن يكون البطل ضابطًا، يركب السيارة الجيب المكشوفة في حواري وشوارع القاهرة، وهو نسق كان شهيرًا في السينما الأمريكية في هذا الوقت، حيث الأفلام التي تدور قصصها على هامش الحرب العالمية الثانية، تلك التي باعت معها أمريكا وأكدت على فكرة سينما الحلم.
إشارات وتحولات استعراضية
ولكن هذا ليس بجديد، سبقه إليه محمد كريم، فما الذي قدمه أنور وجدي كمخرج في ليلى بنت الفقراء؟ الإجابة أن في الفيلم كانت هناك إشارة لشيء استثنائي وربما يكون شكل جديد من السينما، وهو السينما الاستعراضية، صحيح لم يكن في الفيلم استعراضات ولكن لنقف للحظة أمام مشهد الافتتاح في المولد ومشهد الختام بالعرض شبه العسكري، ونرى كيف تعامل أنور وجدي معهما.
الاعتماد على الزوايا الواسعة وحجم الكادر الكبير ليظهر المجاميع بكاملهم، وتحريكهم داخل الأستوديو، كانت تلك إشارة تقول أن هذا الرجل لن يقف عند هذا الحد لن يقف أبدا، والحقيقة أن تلك الإشارة سرعان ما ترجمت لسينما على الفور في فيلمه قلبي دليلي عام 1947.
الحقيقة أن السينما المصرية كانت تتذكر السقوط المدوي لأول فيلم استعراضي في تاريخها “ملكة المسارح” لبديعة مصابني عام 1936، الفيلم الذي قضى على فكرة الفيلم الاستعراضي في مهدهاـ ليبقى الفيلم الغنائي وحده على الساحة والذي حاول أن يدخل الاستعراضات على استحياء عن طريق وجود راقصة في العمل، ولكن أنور وجدي كان لديه رأيًا وحلمًا أخر.
كان يحلم بفيلم استعراضي حقيقي، ولكن ما هو الفارق بين الفيلم الغنائي والفيلم الاستعراضي؟ يشترط الفيلم الغنائي وجود مطرب وهذا المطرب من أبطال الفيلم الرئيسيين، وتلعب فيه الأغنية دور المشاهد الدرامية والتي يصاغ مضمونها في أغنية، بينما الفيلم الاستعراضي يشترط وجود مؤدي غنائي وليس بالشرط مطرب، ويكون الاستعراض المصاحب للغناء هو بطلا من أبطال الفيلم، رقص المجموعات والراقصين جزء من نسيج الفيلم وتلك نقطة غاية في الأهمية، وأيضا تشكل الاستعراضات إما مشاهد رئيسية في البناء الدرامي، أو مشاهد ناقلة بين فصل وأخر داخل الفيلم السينمائي.
قلبي دليلي أو جس النبض
بالعودة لحلم أنور وجدي، وقبل الحديث عن تفاصيله، أنور وجدي تاجر بارع، يتحسس السوق قبل أن يلقي بثقله فيه، لهذا كان فيلم قلبي دليلي هو جس نبض لجمهور السينما حول الفيلم الاستعراضي، في البداية أغنية الافتتاح ” أنت سعيدة” هي أغنية موقف داخل القطار ولكن هنا يبدأ أنور وجدي في الترويج لحلمه، الحركة داخل الأغنية والتنقل من عربة لعربة ومقابلة شخوص جدد وفكرة أن تحاط المطربة بعدد من الراقصات أو الفتيات، هو تمصير لشكل من أشكال استعراضات الشارع في السينما الأمريكية، فقط لم يكن هناك رقص، كذلك في أغنية أضحك كركر المطربة محاطة بعدد من الفتيات وهناك حركة داخل الأغنية بلا رقص أي نعم ولكن هناك حركة للمجاميع واستعراض وعمل تكوينات بهم.
كل هذه المقدمات ومعها مونولوجات إسماعيل يس وشكوكو في الفيلم والأغنية الشعبي والرقصة في الفرح، كانت جس نبض من أنور وجدي ولكن أقرب شكل للاستعراض في الفيلم جاء في أغنية الفيلم الأساسية، قلبي دليلي، هنا ستجد الفتيات والشباب يرقصن حول ليلى مراد ولكن أيضا أنور وجدي كان حذرًا -أو مخطئًا – حينما قرر ألا يستخدم حجم كادر أوسع وزاويا مختلفة ليقوم بتصوير الاستعراض.
وإن كان أنور وجدي قد أخطأ في قلبي دليلي، ولكنه في عنبر لم يخطئ، يمكن القول أن عنبر فيلم استعراضي مكتمل الأركان، خلق البيئة المناسبة لعمل استعراضات “الكازينو” خلق الموقف المناسب لعمل الاستعراضات، الأوبريت والاستعراض داخل الفيلم، والاستعانة بالعديد من المؤديين الغنائيين في استعراض “اللي يقدر على قلبي”، هذا الاستعراض الذي اعتبره هو نسخة طبق الأصل من استعراضات هوليوود الساحرة حيث السلالم العالية، والتنقل داخل الاستعراض، واستخدام المجاميع من الراقصين والراقصات ودمج مختلف أنواع الغناء داخل عمل واحد، واستخدام الاستعراض كمحرك درامي، بالإضافة للأغنيات الدرامية والخفيفة مثل “دوس على الدنيا”، في عنبر لم يكتفي أنور وجدي بالتأثر بالسينما الأمريكية بل حملها حملُا إلى داخل الأستوديوهات المصرية، ولكن هل توقف أنور وجدي مع الفيلم الاستعراضي عند هذا الحد؟ الحقيقة أن أنور وجدي تجاوز هذا بكثير جدا.
الحلقة القادمة أمركة السينما المصرية (6) أنور وجدي (3) فن المجازفة
لقراءة الحلقات المنشورة هـنـا
الكاتب
-
عمرو شاهين
كاتب برونزي له اكثر من 100+ مقال