أيام فتح الجاكيت ودراما حياة المصريين في السنة السوداء
-
محمد فهمي سلامة
كاتب صحفي مصري له الكثير من المقالات النوعية، وكتب لعدة صُحف ومواقع إلكترونية مصرية وعربية، ويتمنى لو طُبّقَ عليه قول عمنا فؤاد حدّاد : وان رجعت ف يوم تحاسبني / مهنة الشـاعر أشـدْ حساب / الأصيل فيهــا اسـتفاد الهَـمْ / وانتهى من الزُخْــرُف الكداب / لما شـاف الدم قـــال : الدم / ما افتكـرش التوت ولا العِنّاب !
كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال
الآن نحن في عام ٢٠١٢، والمكان في مدينة عُمالية تتنفس الكهرباء، حيث ماكينات التطريز والسنجر وماكينات الحياكة والرسم على القماش وورش تصليح ومصانع الصباغة.
مدينة المحلة الكبرى، حيث العامل ضيق الخُلق، والفلاح الذي يفهمها (وهي طايرة)، تلك الثنائية التي تستطيع أن تنتقي من كلام الساسة الكثير ما ينفعهما فقط في الحياة اليومية وينحيان جانبًا -كأقوى فلتر لتصفية المياة- ما يباع من كلام الليل المدهون بالزبد على المنصات للمصالح الانتخابية، وهذه مجموعة تجلس على مقهى في ميدان الشون، ويستعدل أحدهم جلسته بعد أن فتح الرئيس الإخواني المعزول محمد مرسي قميصه في ميدان التحرير مؤكدًا بأنه لا يرتدي قميصًا واقيًا من الرصاص، قائلًا بسخرية : “هنبدأها أونطة؟!”.
الآن نحن بعد ثلاثة أشهر تقريبًا من لحظة فتح القميص، والمكان في مدينة طنطا، وتحديدًا في كلية التجارة حيث يجتمع معظم أبناء الدلتا .. حيث تحوّلت ساحة الكلية لدوائر صغيرة من الطلّاب الذين ينتمون للجماعة الإرهابية المحظورة، وكل ثلاثة منهم يستقطبون عددًا من الطُلاب والطالبات في مشاهد دعوية صغيرة متفرّقة في بقاع الكلية المختلفة ليبدأ الكلام عن حُرمانية الاشتراك مسرح الكلية والفرق الموسيقية الطلابية .. فيصرخ أحد الطلاب فيهم: “يا عم ارحمونا .. الكهربا بتقطع كل نص ساعة”! فيفاجئ بهذا الوجه الذي كان يقف بشوشًا مُبتسمًا منذ خمس دقائق فقط ليصرخ فيه : “إخرس يا كافر”، وتندلع النار في الكُلية ليخرج الأمر وكأنها مشاجرة شخصية وكثيرون لم يتعرفوا تحديدًا على سبب المشكلة.
الآن نحن في بركة السبع بمحافظة المنوفية، وتحديدًا بعد ستة أشهر من لحظة فتح القميص، حيث طوابير البنزين التي لا حصر لها، ما دفع سائقو ميكروباصات الأجرة على طريق الدلتا للقاهرة ألا يقوموا بتلك الرحلات اليومية لتعطيل مصالح الناس كي تنتبه حكومة الإخوان لفداحة شُح البنزين وخطورته على المصلحة العامة، وأقسم السائقين إذا حاول أحدهم أن يكسر هذا الاعتصام سوف تكون عقوبته تهشيم سيارته إلا قطع صغيرة متناثرة كي لا يكسر آخر حالة الإضراب، وكان هناك من قرر أن يكسر تلك القاعدة، فقابلته عُصبة من السائقين حاملين العصا والشوم وكسروا الميكروباص في مشهد متوحش غاب فيه البنزين والأمن معًا، فصرخ صاحب السيارة في زميلة الذي يهشمها معاتبًا : “هي بقت كدا؟! ” فرد الآخر ” روح اشتكي للي قطع البنزين “.
بعد عشرة أشهر من لحظة فتح القميص هو تاريخ تلك الواقعة .. وقفت بائعة في سوق سمنود الشعبي، تلك البائعة تقف هنا منذ أكثر من ربع قرن تبيع الفاكهة والخضار، وفي تلك الأيام -ولأول مرة في تاريخها- لم تأتيها البضاعة نظرًا لإن البنزين قد انقطع تمامًا وعربيات البضاعة تخلفت عن الموعد، فسبّت البائعة وهاجت وماجت قائلة : “جيبناهم عشان قال الله وقال الرسول لا شوفنا الله ولا الرسول” .. فهمزتها منتقبة كانت تمشي في السوق قائلًا : “لا لا استغفري الله عيب تشتمي الناس المحترمة انتوا مالكوش إلا اللي يديكم بالجزمة ” وكانت تلك شرارة خناقة حريمي في السوق، حيث لأول مرة تدخل السياسة طرفًا في سوق كل اهتماماته تنصب تنصب على الطماطم والبطاطس!
حن الآن قد أتممنا العام كاملًا تقريبًا من لحظة فتح القميص، والمكان تحديدًا في مدينة المنصورة، حيث كانت إحدى الليالي التي انقطع فيها النور كعادة تلك الأيام السوداء .. والتي قرر فيها أحدهم أن يشرب سيجارة في خنقته من البلكونة، ليندهش لمشهد غرائبي لا ينُم إلا عن جماعة قد جعلت أذن من الطين وأخرى من عجين (وصّدروا الطرشة) لأصوات الناس التي تأن من آلام المعيشة اليومية وشُح الكهرباء وانعدام الأمن ونطاعة أصحاب اللُحى الإخوانية الذين كانوا يدافعون عن النظام الحاكم في دوائر الحوار الصغيرة على المقاهي وفي مراكز الألعاب الرياضية والمحلات الصغيرة .
أشعل الرجل سيجارته على مشهد يعتبرًا نموذجًا في المدرسة العبثية .. حيث وضع أحدهم “بروچكتور” في الشارع وعلى الشاشة صورة للمستشار أحمد الزند والمستشارة تهاني الجبالي، وحوله ثلة من الإخوان التنظيميين والمُحبين وصنعوا دائرة من الدعوات على المستشار والمستشارة بألا يطلع عليهم شمس ويرينا اللي فيهم عجائب قدرته ! فنظر خلفه إلى إبنه قائلًا : “هي الورقة اللي انت قولتلي عليها المفروض نمضيها عشان يغوروا فين ؟ “
الآن نحن في ثورة الثلاثين من يونيو .. وكان المشاهير من أفراد الجماعة قد أسقطوا القناع الذين طالما صدروه للناس، وظهروا بالوجه الحقيقي في مواقف متتالية على برامج التوك شو المصرية التي كانت تنقل صورة الملايين الهادرة إلى الشوارع، والذين قالوا للإخوان “وآدي قعدة” وصمموا ألا طلوع من الشارع إلا إذا رحل الإخوان .. وصرخ البلتاجي وهَدّدَ صفوت حجازي وانهالت فتاوى قنوات الإخوان بتحريم الخروج على الحاكم لكنها مصر، وكانت عناصر الإخوان المسلمين الصغيرة في الحواري المساجد والزوايا قد حاولت إقصاء الناس بالنصح الخبيث عن ضرورة عدم الخروج على مرسي، لكن الطوفان الجارف والقرار المصري الخالص قد أتى من داخل الحارة قبل أن يصدر من البيانات في التليفزيون .. قد جاء من البائعة في سوق سمنود، والسائقين المضربين، والرجل الذي دخّن السيجارة في البلكونة بالمنصورة، والعامل الذي سخر من (أونطة) الرئيس المعزول .. وقرر المصريون وضع حدًا للسنة السوداء.
الكاتب
-
محمد فهمي سلامة
كاتب صحفي مصري له الكثير من المقالات النوعية، وكتب لعدة صُحف ومواقع إلكترونية مصرية وعربية، ويتمنى لو طُبّقَ عليه قول عمنا فؤاد حدّاد : وان رجعت ف يوم تحاسبني / مهنة الشـاعر أشـدْ حساب / الأصيل فيهــا اسـتفاد الهَـمْ / وانتهى من الزُخْــرُف الكداب / لما شـاف الدم قـــال : الدم / ما افتكـرش التوت ولا العِنّاب !
كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال