الأزرق.. الذي لم أعد أحبه
-
أحمد مدحت
كاتب نجم جديد
منذ يومين تذكرتُ هذه التفصيلة الغريبة، عندما استقررت داخل “التوك توك” بعدما أخبرتُ السائق بوجهتي: “مستشفى، ثم أمسكتُ الهاتف ونظرتُ لشاشته في حيرة، أتأمل الرسالة المقتضبة التي أرسلها لي أخي، يخبرني فيها بوفاة أمي منذ دقائق.. لم أكن منهارًا- ظاهريًا على الأقل- لم أدخل في حالة الإنكار التي تتلبس البعض في مثل هذه المواقف الثقيلة.. لكني شعرتُ بصعوبة شديدة في التنفُّس رغم جلوسي ساكنًا، لا أبذل أي مجهود يُذكَر، ودون وعي مني، نظرتُ للسائق في المرآة التي وضعها أمام وجهه مباشرة، وكان رجلًا أربعينيًا هادئ الطباع، وأخبرته بنبرة محايدة لا تحمل أي مشاعر، كأني أحدثه عن شيء عادي يحدث كل يوم في الحياة: أمي ماتت.
ارتبكتْ ملامح الرجل في المرآة، ثم ترحَّم عليها، وهو ينظر لي بشيء من الحسرة والدهشة، لم يعلم ما يجب عليه أن يفعل بالضبط في موقف كهذا، لم يدرك أنني لم كنتُ- وما زلت- جاهلًا بسبب بوحي له بهذا الخبر؛ ربما شعرتُ في لحظتها بأنني في حاجة لإخبار البشرية كلها أن أمي ماتت، ربما لم يتحمل قلبي وهو يتفتت منتحبًا، في صمت، أن يظل اللسان ساكنًا.
ربما لأن أم المرء لا تموت إلا مرة واحدة، أردتُ إخبار العالم كله بفداحة مصيبتي.
منذ أسبوع تقريبًا ذهبتُ لشراء قميص جديد، حاول البائع المُهذب أن يرشح لي واحدًا ذي لون أزرق داكن، فرفضتُ بتوتر غير مبرر، قبل أن أعتذر له عن عصبيتي وأتحجج كذبًا بإرهاقي من الحر الشديد.. بالطبع لم أستطع إخباره بسبب نفوري المُستحدَث من “الأزرق” بعد أن كان اختياري الأول دائمًا؛ كيف يتسامح الإنسان مع شيء ارتبط عنده برحيل أمه؟.
إقرأ أيصًا…مرفوع عليك قضية .. منطقة دافئة يسكن فيها محمد محيي وحيدًا
نظرتُ للافتة الباهتة التي وُضعت أعلى باب الغرفة: “الثلاجة”.. حاولتُ التماسك، طرقتُ الباب ليفتح لي أبي بوجه شاحب، دخلتُ وأغلقتُ الباب، ووقفتُ أتأمل الجسد المغطى من رأسه لقدميه، أعرف هذا الجسد جيدًا، لطالما احتضنني صغيرًا ومراهقًا وناضجًا دون كلل، تسمرتُ في مكاني لا أعرف ما العمل الآن، كشف لي أبي وجهها وهو يبكي.. البرد يتسلل لجسدي بقوة، برد الثلاجة الذي ما يزال ينخر في عظمي حتى الآن، يهاجمني في كل مكان، تحت لهيب الشمس أشعر ببرد فُجائي، وحده أعرف سببه جيدًا، نعم هي تلك اللحظة، أنظر لملامحها الرقيقة، وقد بدأ الأزرق يكسو وجهها، لون الموت.. هنا اندفع البكاء من داخلي كأن أحدهم فك قيده فجأة، بكيتُ هلعًا عاجزًا كطفل وأنا أقرب وجهي من وجهها، كادت ساقاي أن تخذلاني، لكني تمسكتُ بذراعها من تحت الملاءة، استندتُ عليها للمرة الأخيرة، لكن ملامحها ظلتْ ساكنة، لم تبتسم لي كعادتها، لم تدعُ لي بالستر كما ظل لسانها يردد لسنوات.
في تلك اللحظة أدركتُ الحقيقة المُرَّة، أنني فقدتُ السند بمعناه الصادق، وأن أمي قد فارقتني.
ظللتُ لسنوات أتساءل عن الكيفية التي يتعامل بها الإنسان مع فِراق شخص عزيز عليه، كان يتعامل معه عن قُرب بشكل يومي، بالتحديد الأب والأم.. رُغم كل ما قرأته عن الموضوع، ظلَّ عقلي عاجزًا عن إدراك الطريقة التي يتعامل بها كيان المرء كله لتجاوز خسارة فادحة مثل هذه، هل يمكن حقًا تجاوز كل هذا القدر من الألم؟.
لم أتجاوز الأمر حتى الآن، ولو بنسبة 1% حتى، هذا ما أعرفه صدقًا، ويبدو أنني أتصالح معه مع شمس كل يوم جديد، كي تستمر الحياة بي.. تبدو لي الصورة أكثر وضوحًا لو افترضنا أنني تركتُ نسخة مني، هناك في ثلاجة المستشفى التي فارقتنا فيها روح أمي، ما يزال واقفًا هناك يرتجف من البرد، يبكي بحُرقة العاجز، وينظر لملامح أمه وهو يرغب في سؤالها عن الكيفية التي يجب أن يتصرف بها الآن، دون أن يتوقع ردًا منها.. أعود يوميًا لزيارة نَفْسي الواقفة هناك في الثلاجة، هذه هي النسخة الأكثر صدقًا مني، أمّا هذا الذي يتجول في كل مكان، ويأكل، ويقرأ ويكتب، فشخص ثان يحاول جاهدًا أن يفعل ما يحبه ويجيده، والأهم أن يتفادى الإحساس بالبرد المفاجئ إياه.
هناك ألم لا يمكن تجاوزه، فقط يسمح لكَ- بعد جهد منك- بالتصالح مع وجوده.. حتى يحين اللقاء مع الأحبَّة، في عالم أجمل، وأكثر دفئًا.
الكاتب
-
أحمد مدحت
كاتب نجم جديد