معنى الجيش الوطني ولماذا تعلو مصر رغم تشابه بدايات التأسيس
-
وسيم عفيفي
باحث في التاريخ .. عمل كاتبًا للتقارير التاريخية النوعية في عددٍ من المواقع
كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال
احترقت أغلب البلاد العربية بنيران جيوشها أكثر من كيها بالاحتلال الأجنبي، لدرجة أن ضحايا بعض البلدان على يد جيوشها يفوق في العدد ضحايا نفس البلد من المحتل الأجنبي؛ وبقراءة تأملية في تاريخ نشأة الجيوش العربية الحديثة، نجد سببين لا ينفصلا عن بعضهما في حدوث ذلك وهما السُّلْطَة والأجنبي. !
دروس وعاها الاستعمار من تأسيس الجيش الوطني في مصر
في ظل الصراع الأوروبي بين المعسكرين البريطاني والفرنسي، تشكل الجيش المصري النظامي الحديث على يد محمد علي باشا عن طريق إجراءات قاسية، وكانت فلسفة الباشا في تأسيس ذلك الجيش توسعية سلطوية أكثر منها وطنية خالصة، إذ كانت نخبة القيادات العسكرية غير مصرية، تخوفًا من حدوث تمرد.
لم تعطي أوروبا نظرة الاعتبار للجيش المصري المشكل سنة 1820م، إلا عندما صار ماردًا ينقض على الرجل المريض (الدولة العثمانية)، وكان من مصلحة أوروبا عدم إسقاط الدولة العثمانية على يد أحد إلا هي، حتى لا يتم استبدال الدولة العثمانية بقوة صاعدة من الشرق، لا سيما وأنه لا توجد دولة في الشرق لديها جيش قوي بالمفهوم الحديث إلا مصر.
وعى الغرب شيئًا مهمًا في ذلك الوقت وهو ضرورة تغذية حب السلطة على حساب الوطن لدى حاكم أي دولة (طالما لم تخضع لاحتلاله)، جنبًا إلى جنب مع إضعاف الجيش الوطني إما بالتسليح حتى يصبح عاجزًا عن حماية وطنه عندما يتعرض للاحتلال، أو إضعافه بالعنصرية حتى يقوم هو بتخريب وطنه تمهيدًا لاحتلاله أجنبيًا لاحقًا.
هذا الـ (Maquette) بدأت أوروبا تطبيقه أولاً على مصر عندما تدخلت لتقويضها باتفاقية 15 يوليو 1840م المعروفة تاريخيًا بمعاهدة لندن، ثم حدث تقويض مباشر للجيش نفسه بفرمان 13 فبراير 1841م والذي نص على تقليص عدد أفراد الجيش المصري وتقييد تسليحه، وتزايد تقليل العدد في عهد عباس باشا الأول.
بذرة التمييز العنصري بين المصريين وغيرهم من الأتراك والأرناؤوط التي أنبتها محمد علي باشا وترعرعت ونمت في عهد خلفاءه (عباس وسعيد وإسماعيل)، جعلت الجيش يتحرك لتحقيق مطالب فئوية في البداية، لقيت ظهيرًا شعبيًا أدى لارتفاع سقف المطالب سياسيًا، وكان ذلك فرصةً سانحة لبريطانيا بأن تحتل مصر عن طريق الخديوي توفيق.
في كتابه مصر الحديث قال اللورد كرومر «يستحيل على أي جيش من الجيوش التمرد دون أن يسيء ذلك التمرد إلى هذا الجيش باعتباره آلة مقاتلة، ودرجة الضرر الناجم عن التمرد لا بد وأن تعتمد بصورة أو أخرى على ظروف وأسباب التمرد نفسه، لذا أصبح جيش عرابي في السلم عبء وفي الحرب دفاع ضعيف».[1]
يظهر هنا حب السلطة بشكل فج عندما قام الخديوي توفيق بإلغاء الجيش المصري وتزامن وجود بريطانيا في مصر بأن المشرق والمغرب العربي قد تعرضوا لسلسلة احتلالات (الجزائر 1830م، تونس 1881م، مصر 1882م، ليبيا 1911م، سوريا 1920م، العراق 1920م).
مع وضع الحرب العالمية الأولى أوزارها بدأ انتشار فكر مبادئ ويلسون الأربعة عشر والتي كان من ضمنها استقلال البلاد، ولا يوجد دليل على الاقتناع بأفكار مبادئ ويلسون سوى أن تم رفع العلم الأمريكي في ثورة 1919م بقلب القاهرة.
منتصف القرن العشرين وتطوير منظومة الفساد العسكري عربيًا !
فساد الجيوش العربية عسكريًا بسبب خضوع بلادها للاحتلال والعمالة، أوقعها بفخ حرب 1948م التي كانت عارًا، ورويدًا رويدًا بدأت رغبة البلاد في التحرر من حكامها مما يعني التحرر من الاستعمار، ومع منتصف القرن العشرين أيقن الاستعمار ضرورة تحويل الـ Maquette القديم إلى Design جديد وثابت في كل البلاد العربية، خلاصته إن لم يكن الجيش تابعًا للاستعمار فعلى الأقل يكون أحد عملاء الاستعمار فيه، وإن لم يكن للاستعمار عميل في الجيش، فينبغي للجيش أن يعمل لصالح الاستعمار !!
فمثلاً دولة الجزائر، وإن كانت قد تحررت من الاستعمار الفرنسي نهائيًا، فإن من صار يتحكم في جيشها بعد الاستقلال هم أفراد دفعة لاكوست (المعروفين في الأدبيات الجزائرية بضباط فرنسا) وهم جنود فرنسيين انشقوا عن جيش فرنسا وانضموا للثورة الجزائرية ضد فرنسا ثم ربوا جيلاً جزائريًا بولاءات مختلفة.[2]
جيل ضباط فرنسا الذين تحكموا في مصير الجزائر، قادوا البلاد لاحقًا إلى أعنف حرب أهلية بين الجيش والشعب عُرِفت في التاريخ باسم سنوات العشرية السوداء، ويبدو في الظاهر أنه صراع بين جيش وطني وجماعات إسلامية مسلحة، لكنه في أرض الواقع أدى لمقتل مالا يقل عن 100 ألف جزائري مدني برصاص طرفي الصراع.[3]
وتأتي الأردن كمثال ثانٍ، إذ كان قائد الجيش الأردني لمدة 17 سنة من 1939م و1956م هو ضابط بريطاني أسماه الأردنيون أبو حِنْيَك ومعروف في التاريخ باسم جلوب باشا، ولك أن تتخيل أن قائد جيش في منطقة حساسة تتماس مع فلسطين المحتلة من بريطانيا والتي سلمتها لإسرائيل، في الأساس هو ضابط بريطاني.[4]
شبح الجيش الوطني المصري يعود مجددًا في منتصف الخمسينيات
مصر في تكوينها الاجتماعي والجغرافي تبدو ظاهريًا مؤهلة للانقسامات السياسية والعسكرية، فالبلاد العربية المختلفة تشهد طوائفًا عرقية وجغرافية ودينية متعددة، غير أن الاختلاف في مصر هو التنوع المتعدد لا الولاءات المختلفة، هذا من الناحية الشعبية.
من الناحية العسكرية فإن مصر كحال غيرها من البلاد العربية أفراد جيشها من أبناء الوطن الواحد، لكن فساد القادة العسكريين سياسيًا في البلاد المختلفة هو الذي دمر أوطانهم، وتلك مسألة قديمة.
في مصر ظهر جيل عسكري مُلْهِم لغيره وهو جيل الضباط الأحرار، فقد سار على دربه آخرين في سوريا والعراق مثلاً، لكن الفارق هو العقلية والنية، ففي مصر ومنذ اليوم الأول للثورة اتخذ الجيش من ممارسة السياسة في صفوفه خصومة لا هوادة فيها، فصار ممنوعًا أن يلتحق بالجيش أي أحد له له ميول سياسية أو دينية أو عِرْقِية، يضاف إلى ذلك عدم الدموية في الخلافات والأهداف؛ وذلك أمر لم يتوفر في غير مصر، مثلاً في حالة ضباط العراق، ذكر حسن العلوي أنه كان حاضرًا مع مجموعة من ضباط ثورة يوليو 1958م في بغداد، وسألهم عن سبب عدم عفوهم عن الملك، فرد عليه العقيد فاضل عباس المهداوي ساخرًا: كنت عايزنا نعمل زي المصريين ندق لهم مزيكا وطبل.
لكن أشنع ما اتسمت به الجيوش العربية في سوريا والعراق أنها صدرت (أيدولوجيا البعث) للبلاد العربية المختلفة في ليبيا واليمن، وتتلخص أيدولوجيا البعث في سحق أي صوت معارض للحاكم عن طريق الكلمة أو السلاح، بالجيش وتوريط الجيش في العمليات السياسية القذرة، مع تقسيمه على أساس طائفي أو قبلي.
الخلاف سمة أساسية في البشر، وبالتبعية فإن العسكريين يختلفون مع بعضهم لأسباب سياسية، وحدث ذلك في كل البلاد العربية «مصر بعد نكسة يونيو (عبدالحكيم عامر وجمال عبدالناصر)، وحدث في العراق (عبدالكريم قاسم وعبدالسلام عارف)، وحدث في سوريا (اللجنة العسكرية وحافظ الأسد)».
لكن المسألة في مصر مختلفة لعدم وجود ولاءات متعددة لدى قيادات الجيش ولعدم تأسيس الجيش على أساس طائفي أو عرقي أو سياسي، بينما المسألة في غيرها عكس ذلك.
وحتى يتم استشعار الفارق في المقارنة بين مصر وغيرها ولتقريب الأمثلة، فإن مصر مثلاً شهدت بؤرة إرهابية في كرداسة بعد ثورة 30 يونيو 2013م، ونُحِّي الجيش من المواجهة وتم تكليف وزارة الداخلية بالمهمة، والتي كانت تتعامل مع تصفية تلك البؤرة بعملية أمنية تستند إلى معلومات، حيث يتم تحديد أماكن الإرهابيين وضبطهم أو قتلهم.
بينما المسألة في سوريا والعراق واليمن مختلفة، فإن ظهر في أيٍ منها قرية يتسم جزء من أهلها بمعارضة النظام (بالسلاح أو التظاهر) فإن الجيش هو من يتولى مهمة تصفية هذه القرية، ليس بالقضاء على عناصر القلاقل فيها، وإنما تدميرها تدميرًا كليًّا وبكل الوسائل المتاحة مثل حلبجة في العراق وحماة في سوريا، وحتى يتم تحقيق ذلك لابد أن تكون العقيدة العسكرية ولاءها للحاكم لا الوطن، يضاف إلى ذلك أن فلسفة الجيش المصري أنه غير عدواني، ليس بجيش يقيم قوته على أساس الاعتداء على الدول الأخرى، بعكس جيش سوريا الذي وضع لنفسه قوة باحتلال لبنان، فضاعت لبنان وسوريا لاحقًا بتعدد ولاءات الجيش.
سمة أخرى يتسم بها الجيش الوطني في مصر وغير موجوده في البلاد الأخرى، وهو أن حمل السلاح والدفاع عن الوطن مهمة خاصة بالجيش فقط لا الشعب، وإن اقتضت الظروف أن يقوم الشعب بحمل السلاح عقب انهيار أو ضعف الجيش، مثل أحداث القناة في 1951م وأحداث حرب السويس في 1956م، أو حتى يقوم فصيل معين بحمل السلاح مثل الذي جرى في سيناء بعد يونيو 1967م عن طريق منظمة سيناء العربية، يجب أن يتم كل ذلك تحت عين الدولة، وبعد انتهاء المهمة أو إعادة بناء الجيش نفسه يتم حل هذه الفصائل؛ وهو الشيء الذي لم يحدث في بلادٍ أخرى مثل سوريا احتل جزء من أراضيها، ولاحقًا انتقل الأمر إلى لبنان لكن بشكل أكثر دموية نتيجةً للانقسامات في لبنان أصلاً.
يضاف إلى ذلك أن النظام في مصر على مدار تاريخ دعمه لحركات المقاومة المختلفة، لا يقبل أن تكون المقاومة متعددة الولاءات ولا يسمح بأن تتخذ المقاومة لنفسها مقرًا عسكريًا في مصر حتى لو تم تدريبها في أراضيها، وهو الشيء الذي لم يفعله الجيش الأردني مع المقاومة الفلسطينية التي بتعدد ولاءاتها وانقساماتها صارت دولة داخل الدولة الأردنية، وانتهى الأمر بمواجهة دموية شرسة بين الجيش الأردني والفصائل الفلسطينية، والأمر نفسه تكرر في لبنان مع نزعة طائفية جعلت لبنان مرتعًا للأيدولوجيات الدينية المسلحة المختلفة.
السبب تميز الجيش الوطني في مصر الآن
في غالب الثورات العربية وبغض النظر عن تفاصيلها، فإن نتيجة أغلب هذه الثورات هو تولي الإسلام السياسي مقاليد الحكم، ثم كان مآل البلاد التي ثار شعبها هو ضياع الوطن بيد جيشه، وهو مالم يحدث في مصر، والسبب الوحيد في ذلك هو العقيدة العسكرية بمفهومها الشامل وهو الوطن أولاً وأخيرًا، تلك العقيدة التي لم تطبقها الجيوش العربية الآن باستثناء مصر.
ولعل أدل مثال على ذلك سوى كلمة الحبيب علي الجفري (يمني شاهد على ضياع بلاده) حيث قال في الندوة التثقيفية ال24 للقوات المسلحة التي انعقدت في 9 فبراير 2017م بالقاهرة «أنتم في مصر قد لا تدركون قيمة أن تعيشوا في كنف دولة قائمة وجيش ولاءه واحد غير مشتت الولاءات، أخوكم من بلادٍ لم تعد فيها دولة ولا أدري أتستمر متحدة أم لا، أعيش في دولة دُمِّرت بمشاركة من جيشها الذي انقسم على نفسه بانقسام ولاءاته».
[1] اللورد كرومر، مصر الحديثة، ترجمة: صبري محمد حسن، مج2، ط/1، المركز القومي للترجمة، القاهرة ـ مصر، 2015م، ص ص267-269
[2] للاستزادة من تاريخ ضباط فرنسا انظر:-
عبدالعال رزاقي، ضباط فرنسا في المغرب العربي، ط/1، دار الأمة للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة – مصر، 2013م
[3] للتعرف على مجازر سنوات العشرية السوداء انظر :-
نصر الله يوس وسليمة ملاح، من قتل في بن طلحة .. الجزائر وقائع مجزرة معلنة، ترجمة: ميشيل خوري ط/1، ورد للطباعة والنشر، دمشق – سوريا، 2003م
[4] جلوب باشا، حياتي في المشرق العربي، ترجمة: جورج حتر وفؤاد فياض، ط/1، الأهلية للنشر والتوزيع، عمان، الأردن، 2005م
الكاتب
-
وسيم عفيفي
باحث في التاريخ .. عمل كاتبًا للتقارير التاريخية النوعية في عددٍ من المواقع
كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال