الشيخ زكريا أحمد وأم كلثوم..من قصة حياة ثومة “كوكب الشرق” (17)
-
أحمد كريم
كاتب برونزي له اكثر من 100+ مقال
أهلا بكم أعزائي القراء في الحلقة السابعة عشر من قصة كوكب الشرق أم كلثوم، وقلنا في الحلقة السابقة إننا سنخصص حلقة للحديث عن مشوار الشيخ زكريا أحمد مع أم كلثوم، واليوم هو موعد شيخ الملحنين الشيخ زكريا أحمد برفقة صاحبة العصمة أم كلثوم.
مشوار أم كلثوم و الشيخ زكريا أحمد
في حديثنا عن المرحلة الريفية لأم كلثوم قبل انتقالها للقاهرة ذكرنا أن اللقاء الأول بالشيخ زكريا أحمد إنما كان في العام 1919م، حين استمتعت أم كلثوم وهي عائدة من الكتاب لصوت مشيخي قادم من بيتها يتغنى بتوشيح مولاي كتبت رحمة الناس عليك فضلا وكرم، فيما عرفت بعد ذلك أنه الشيخ زكريا أحمد الذي عاد في رمضان من ذات العام لتقضي أم كلثوم الشهر برفقته، وليكون هذا اللقاء هو اللقاء الذي يستمع فيه الشيخ زكريا لتلك الموهبة الجبارة ويقول مقولته الشهيرة التي دونها في مذكراته: ” ومنذ ذلك اليوم أصبحت أصما لا أسمع إلا صوتها، أبكم لا أتحدث إلا باسمها، فقد أحببتها حب الفنان للحن خالد ظل يبحث عنه طويلا”.
سينما نهاية العالم في سيناء بين الحلم الجميل والواقع المٌحبط
بدأ التعاون الفني بين أم كلثوم والشيخ زكريا أحمد في عام 1931م بطقطوقة اللي حبك يا هناة والتي اعتبرت أول طقطوقة مطورة على الطراز الجديد، فقد كانت الطقاطيق تلحن قديما على لحن واحد وبمقام واحد لجميع أغصانها، ثم أتى زكريا وقلب ذلك لميزان، فلحن كل غصن من الطقطوقة بلحن مختلف محدثا ثورته التي تطورت اكثر وأكثر فيما بعد، وانتقلت لميادين أخرى أهمها كان ميدان قالب الدور الذي هندسة زكريا وقدمه لأم كلثوم بالطريقة التي تليق به وبها، فقد أدخل زكريا على ألحانه.
وفي الأدوار تعديلات أكسبته طعما جديدا ومذاقا خاصا يستطيع المتذوق لهذا الفن أدراكه، فأحيانا كان يعدل مواضع الآهات وأحيانا أخرى يجعلها خاتمة للدور وأحيانا يستبدلها بـ يا ليل يا عيني، حتى الكلمات كان يغير فيها لتحتمل اللحن وتتناسب معه، أحيانا يجعل لحن المذهب هو لحن الدور وأحيانا يجعلهما متغايران وأحيانا يكسب هذا من طعم ذلك، وكل ذلك في سبيل إخراج الدور بشكل جديد دون إخلال بروح الموسيقى الشرقية.
ومن أهم الأدوار التي لحنها الشيخ زكريا لأم كلثوم: دور هو ده يخلص من الله ودور ياللي تشكي من الهوى ودور يا قلبي كان مالك ومال الغرام ودور إمتى الهوى يجي سوا ودور ابتسام الزهر وأدوار أخرى والحق أن أهم ما ميز ألحان الشيخ زكريا أحمد طوال مسيرته أنها حوت ما حوت من الطرب والسلطنة لدرجة جعلت من مستمعي أم كلثوم والمغرمين بها والسائرين في دربها يعرفون أن اللحن لزكريا أحمد بمجرد شروع التخت في عزف المقدمة الموسيقية.
وكثيرا ما تحدثت عن هذه النقطة بالتحديد، لماذا هيمنت السلطنة وشع الطرب من ألحان زكريا بهذا الشكل، وربما تكمن الإجابة في التنشأة المشيخية الثقيلة التي نشأها الشيخ زكريا أحمد برفقة المشايخ وبين صوانات الليالي والمآتم، فزكريا في الأصل فقيها كان يقرأ السورة بأحد المساجد وكان قارئا في المآتم بامتياز وانضم لبطانة أساطين التواشيح والإنشاد في عصره وعلى رأسهم الكبير الشيخ علي محمود والشيخ إسماعيل سكر وغيرهما، هذه التنشئة المنضبطة و المشيخية أثقلت فكر زكريا وجعلته لا يرضى بمجرد صياغة بعض الألحان الملتحمة معا، فما كان ليرضى إلا بما يملأ رأسه ورأس المستمعين.
يقول الدكتور فيكتور سحاب في كتابه السبعة الكبار في الموسيقى العربية:”تعرفت أم كلثوم على رفيق عمرها الثاني الشيخ زكريا أحمد في يونيو 1919م في السنبلاوين وذهبت إليه في القاهرة عام 1922″ وهو اللقاء الذي أشرت إليه في حلقة سابقة حين دعاها لإحياء أحد الأفراح وأستمع إليها وقتها الشيخ علي محمود والشيخ أحمد ندا” ولكنه لم يبدأ بالتلحين لها إلا سنة 1931م ولعله كان مشغولا عنها بنتاجه المسرحي الكثير فيما كانت هي راضية بأبي العلا محمد وأحمد صبري النجريدي.
فلما مات معلمها الأول سنة 1927م وكف الثاني عن التلحين وبدأت السينما تحل محل المسرح تدريجيا في اجتذاب الناس التقى اللذان كان مقدرا أن يلتقيا، فكانت أولى أغنياته لها طقطوقة اللي حبك يا هناه سنة 1931م، وتوالت الأغنيات بعد نجاح الباكورة نجاحا عظيما فلحن لها جمالك ربنا يزيده 1931م، والعذول فايق ورايق 1932م، ويا بشير الانس 1935م والدور الخالد إمتى الهوى يجي سوا على مقام الهزام 1936م والطقطوقة الشهيرة بكرة السفر 1939م.
الشيخ زكريا أحمد وأم كلثوم بين عهد الاسطوانات والأغنية الكبيرة
كأحد محبي عهد الاسطوانات ومغرم بصوت أم كلثوم في مرحلة الثلاثينيات أجد بغيتي تامة غير منقوصة في أعمال الشيخ زكريا لأم كلثوم في تلك المرحلة، بين الأدوار والطقاطيق التقليدية والمطورة أجد مرادي من السلطنة والوجدان، ابتداءا من اللي حبك يا هناه وحتى بكرة السفر، شكلت تلك الباقة من الأغنيات الصغيرة المسجلة على اسطوانات ميراثا عظيما ومرحلة مهمة في تاريخ أم كلثوم، صحيح تعاونت أم كلثوم مع غير زكريا في هذا النوع من الأغنيات بيد أن ما لحنه زكريا لها جمع في مضمونه بين خبرات الصييت القديم وتطوير الناظر بعين المستقبل، ومن أهم أعمال الشيخ زكريا لأم كلثوم خلال تلك المرحلة:
طقطوقة الليل يطول ويكيدني 1931م/ مقام راست
مونولوج ياما أمر الفراق 1931م/ مقام كرد
طقطوقة أكون سعيد لو شوفتك 1932م/ مقام بياتي
طقطوقة العذول فايق ورايق 1932م/مقام عراق
مونولوج شجاني نوحك بكيت 1936م/ مقام بياتي
دور يا قلبي كان مالك ومال الغرام 1936م/ مقام راست
دور إمتى الهوى يجي سوا 1936م/ مقام هزام
ومن مرحلة الاسطوانات انتقل زكريا أحمد مع أم كلثوم لمرحلة الأغنيات الكبيرة التي كانت أم كلثوم تقدمها في حفلاتها ذات الوصلات الطويلة، خصوصا بعد عودة بيرم التونسي من منفاه في مطلع الأربعينيات، فشكل مع أم كلثوم وزكريا ثلاثيا بديعا قدم صروحا من الأغنيات العظيمة الخالدة، بين الطرب الوجداني والسلطنة والآهات سبح زكريا وبيرم والآنسه فأخرجوا لنا دررا نسمعها ليومنا هذا، ومن أهم تلك الأغنيات: أهل الهوى، لآهات، حبيبي يسعد أوقاته، يا عين يا عين يا عيني بالدمع وافيني، الأوله في الغرام، أنا في انتظارك.
الخلاف بين زكريا أحمد وأم كلثوم:
كان الشيخ زكريا أحمد من الفنانين الذين يعتزون بأنفسهم ولا يسمحون لأحد كائنا من كان أن يتخطى حدوده معهم أو يمس كرامتهم ولعل ذلك كان السبب في الخلاف بينه وبين أم كلثوم، فطباع زكريا أحمد كانت حادة في الحق ومن أفضل ما كتب حول طباعه ما جاء في مجلة الراديو في مارس 1948م، وهو العام الذي شب فيه الخلاف بينهما، فقد جاء فيها: زكريا أحمد من الفنانين القلائل الذين يعتزون بأنفسهم ويحافظون على كرامتهم رغم تواضعهم الجم.
كريم إلى أبعد حد ومحب للخير ومعروف بصراحته اللامتناهية فهو يقول للأعور أعور في عينه”، وعن واقعة الخلاف بين زكريا أحمد وأم كلثوم يروي الفنان ميشال خياط أن القصبجي وزكريا والسنباطي كانوا قد اتفقوا على وقف التلحين لأم كلثوم إذا لم تزد أجرهم، ويبدو أن أم كلثوم التي تعرف عناد زكريا اتصلت بالقصبجي أولا وكان أقل الثلاثة معاندة فتراجع، ثم اتصلت بالسنباطي فرضي.
وأخيرا اتصلت بزكريا وقالت له بلهجة كيد ربما إن صاحبيه عندها، ودعته إلى مكالمتهما، فتكلم وغضب لهذا الأمر الذي عده نوعا من الإذلال وأقلع عن التلحين لها، بل قاضاها في حقوق سابقة بلغت في حسبانه اربعون ألف جنيها، حتى انه كتب في مذكراته التي دونها بنفسه ” أم كلثوم لها عندي وزة أكلتها عندهم في طماي سنة 1919م ولي عندها أربعين ألف جنيه.
استمر الخلاف بينهما قرابة الثلاثة عشر عاما ولم ينته إلا قبل وفاة الشيخ زكريا أحمد بشهور قليلة في عام 1961م، فكانت خسارة كبيرة للفن بتلك القطيعة الطويلة التي كلفت جمهور الإثنين العشرات من الأغنيات التي كانت ستبلغ في ذراها مبلغ أغنياتهما معا، ليعود زكريا بآخر أعماله لأم كلثوم هو صحيح الهوى غلاب التي لحنها لها من مقام الصبا وكأنه ينعي نفسه، ليلقى ربه في فبراير 1961م ولتنطوي صفحة مهمة وكبيرة في حياة كوكب الشرق أم كلثوم بفقدان قطب من أقطاب التلحين لها.
الكاتب
-
أحمد كريم
كاتب برونزي له اكثر من 100+ مقال