العشق الإلهي و فلسفة التصوف عند البابا شنودة الثالث

التقطنا الأنفاس إثر التعقيدات الوجودية التي عاشها البابا شنودة وظهرت في شعره ـ كما بينا في مقال سابق ـ ، لنسبح مرة أخرى في تأمل العلاقة بينه وبين الرب، ويبدأ خيطها ويُزهر في قصيده “الكرمة” التي تشكل دعوة للتأمل في قوة الاستغفار والرجوع إلى الله، وتجسد الأمل في تجديد الحياة الروحية في ظل الرحمة الإلهية فيقول في لوحته الأولى:

هذه الكرمة يا مولاي من غرس يمينك

نبتت من شوكة كانت على طرف جبينك

يفتتح الشاعر قصيدته بالإشارة إلى “الكرمة”، وهي رمز متكرر في الكتاب المقدس، “أنا الكرمة وأنتم الأغصان” (يوحنا 15:5)، يرمز إلى الحياة الروحية والغنى الروحي، كما تمثل لفظة “الكرمة” هنا إنسانية مخلوقة من “غرس يمينك”، وهو ما يشير إلى العلاقة الحميمية بين الله وخلقه.

وفي اللوحة الثانية يظهر خيط الحب الإلهي في القصيدة وفي الديوان عمومًا، وكأن الاضطراب الذي عاشه طوال قصائد الديوان يصل أخيرًا إلى مرسى أفكاره المضطربة فيقول:

وراها دمك القاني وسئل من جفونك

ورعاعا حبك الصافي وذاقت من حنينك

إن هذه الأبيات تتناول هذه الأبيات تتناول الحب الإلهي المتجسد في دم المسيح، وأن هذا الحب يأتي من تجربة الألم والفراق، مما يُعكس مفهوم الصوفية عن الحاجة إلى المعاناة كسبيل للتقرب إلى الله، فكما يقول القديس أغسطينوس:” الحنين إلى الله هو شغف الروح ويتطلب أحيانًا معاناة شديدة”.

إن العشق الإلهي يعكس تفاعل الروح الإنسانية مع الرب المجيد، لذا نجد أن الشعراء يستحضرون مشاعر الوله والحب تجاه الله، مُتأملين في جلاله وعظمته، وكيف أن الإنسان يجد ملاذه وسعادته في الاتحاد فيه، كوسيلة للشفاء الروحي، وفي قصدية ” حنانك يا رب يغزو القلوب” و قصيدة يا إلهي” يعبّر الشاعر عن مشاعر الإخلاص والتفاني في البحث عن الحقيقة من منظور فلسفي مسيحي عميق.

ويمثل العشق الإلهي تجربة روحية تتجاوز الحدود البشرية، إذ يُعتبر الرب في العقيدة المسيحية هو المصدر الأسمى للحب والجمال، الذي يفيض برحمته وحنانه على خلقه، وهو القوة الدافعة التي تعيد إلى الإنسان اتزانه، وتوجهه نحو النور.

تبدأ القصيدة بتأكيد قدرة الله على غزو القلوب بحنانه، حيث يُصوّر الشاعر الله كـ”الصديق” و”الحبيب”، مما يعكس العلاقة الحميمة بين الخالق والمخلوق. في أبيات قصدية ” حنانك يا رب يغزو القلوب” الأولى يتجلى مفهوم الحب الإلهي في أسمى صوره، حيث يبيّن الشاعر أن الله لا يُحب بشكل عابر، بل يُظهر حبًا عميقًا وعجيبًا يتخطى كل الحدود، فبقول:

فليس شبيه لحبك هذا

فحب الإله عجيب عجيب

هذا التعبير جاء ليبرهن فرادة الحب الإلهي في نفس الشاعر، ويبرهن على الفكرة القائلة بأن الله ليس مجرد كيانٍ بعيد، بل هو مُحب يتفاعل مع تجارب الإنسان وآلامه.

ثم تنتقل القصيدة لتسليط الضوء على فداء المسيح، حيث يُذكر سفك دماء المسيح على الصليب كرمز للحنان الإلهي واستعداد الرب لتقديم حياته من أجل خلاص البشرية، والشاعر يطرح هنا السؤال الفلسفي العميق عن معاني الفداء والتضحية، مُعبرًا عن التقدير العميق لهذا العمل الجليل الذي يرفع عن كاهل الإنسان أثقال الخطية في قوله:

فتحت فؤادي لكم يا بني

وقلبي ينادي فهل من مجيب؟

ثم ينادي الشاعر في قصيده على القلوب الحزينة، يدعوهم في رجاء إلى العودة إلى الله فيقول:

تعالوا إلي جميع التعابير

يفرح قلب الحزين الكئيب

هذا النداء يحمل طابعًا صوفيًا عميقًا، حيث يُعتبر العودة إلى الله هي السبيل للشفاء الروحي والنفسي، كما تنعكس فكرة العودة في الحب الشديد والرغبة الصادقة في التواصل مع الخالق. إن الشاعر يُظهر كيف أن الحنان الإلهي هو ما يفتح الأبواب المغلقة في قلوب الأتباع، مما يؤدي إلى شفاء الأرواح المتألمة.

في نهاية القصيدة، يُبرز الشاعر فكرة الاستجابة الإلهية، حيث يُعبر عن حماس المؤمنين للاستجابة لدعوة الله، في قوله:

نعم يا إلهي سنأتي إليك

بحب حرارته كاللهيب

هنا، تتجلى روح العشق الإلهي التي تُشعل القلوب بحماسة، وتجعل من الإيمان رحلة شغف مستمرة، وكيف أن تلك الناروالوعة من الحب هي ما يُحفز القلوب للقدوم إلى الله بكل شجاعة، ساعين نحو الاتصال الروحي العميق.

تستمر رحلة العشق الإلهي في قصيدة “يا إلهي”، إذ تعكس الأبيات صراع الإنسان في البحث عن الكمال والسعادة الحقيقية حينما عشق الرب فيقول:

يا إلهي أعمق الحب هواك

يا إلهي لي اشتهاء أن أراك

تبدأ القصيدة بنداء مفعم بالشوق يمثل الصورة النمطية للبحث عن الله في التصوف، كما يُظهر الشاعر شغفه برؤية الله، في إشارة إلى الحاجة البشرية العميقة للتواصل مع الرب. هذا الحنين يمكن اعتباره تجسيدًا لفلسفة الحب الإلهي التي تسعى إلى الارتقاء بالروح من خلال التعرف على جمال الله وبهائه.

ويستمر الشاعر في حديثه عن جمال الرب في قوله:

في جمال في بهاء مبهر

في جلال وسط قوات سماك

هنا، يتناول الشاعر المظاهر المختلفة لجلال الله، مُشيرًا إلى أن الجمال الإلهي يبرز من خلال القوانين الكونية، والقوة التي تحكم العالم، و يتجلى الجلال في كل ما حولنا، ويُعتبر هذه الرؤية دعوة لإدراك عظمة الله.

يتعمق الشاعر أكثر في تأملاته عندما يقول:

أنا وسط الناس أجذبهم لك

انا في الوحدة استوحي نداك

هذه الأبيات تعكس التوتر بين الوحدة والجماعة، فبينما يشعر الشاعر بالوحدة، فإنه يستمد قوته من العلاقة مع الله. يُظهر هذا الجانب من القصيدة كيف أن التواصل مع الله يمكن أن يكون تعويضًا عن الوحدة، مما يُشير إلى أن الله هو الحضور الدائم في حياة الإنسان، سواء في كل الأوقات.

في الأبيات الأخيرة، يعبّر الشاعر عن الاعتماد على الله، في قوله:

يا إلهي انت عوني .. أنت حصني

أنت ربي أنا احيا في حماك

هنا، يُعبّر الشاعر عن الإيمان العميق بوجود الله كحماية وعون دائم.

بعد قراءة القصيد يتضح أن البابا شنودة اختار بحر الرمل في كل القائد السابقة كإيقاع موسيقي لقصائده، وهو بحر يتسم بالسلاسة والبساطة، كأنه يعكس مسار الروح المتدفقة نحو العشق الإلهي بلا حواجز أو تعقيدات.

هذا البحر الشعري، بموسيقاه المتناغمة، يتماشى تمامًا مع حالة الشاعر الذي يسعى عبر كلماته إلى تذليل المسافات بينه وبين الرب، ليبقى صوت الحب والاغتراب يعبران عن رحلته الروحية في عالم زاخر بالمعاني العميقة. وكما أن بحر الرمل ينساب بانسيابية، كذلك كانت كلمات الشاعر مفعمة بالعشق الإلهي، تحلق في فضاء الاغتراب كدعوة للقاء الرب المجيد.

اقرأ أيضًا: السيد البدوي بين الخرافة والنسب لبيت النبي