الكاتبات والوحدة بين الرغبة في التلاشي وترك بصمة ما
-
إسراء سيف
إسراء سيف كاتبة مصرية ساهمت بتغطية مهرجانات مسرحية عدة، وبالعديد من المقالات بالمواقع المحلية والدولية. ألفت كتابًا للأطفال بعنوان "قصص عربية للأطفال" وصدر لها مجموعة قصصية بعنوان "عقرب لم يكتمل" عن الهيئة العامة المصرية للكتاب بعد فوزها بمسابقة للنشر، كما رشحت الهيئة الكتاب لجائزة ساويرس.
كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال
الكتابة كالنداهة والسحر ولكنني أؤمن لا يوجد كاتب أو كاتبة تحلوا بهذه الموهبة إلا وكانت خلف كلماتهم معاناة من نوع خاص، وقصص تكاد تكون أسطورية.
وقد شعرت بنورا ناجي وهي تكتب قصص كاتبات تآلمن من الوحدة بكتابها ” الكاتبات والوحدة” وشعرت بحساسيتها المفرطة التي جعلتها تتلاحم مع هؤلاء الكاتبات وتضع نفسها مكانهن وتشعر بمشاعرهم، حتى أنها حلمت بالكتابة أروى صالح تحكي لها عن مشاعرها بعد قراره هاء حياتها بالتسعينات، ولعلها زارتها فغلًا من العالم الآخر، حيث وجدت قلبا يشعر بها بحق وتآلم من أجلها فشاركتها القليل عبر بوابة الموت الأصغر (النوم) والطريق الوحيد المتصل بيننا وبين الموتى.
مي زيادة، فيرجينيا ولف، سوزان سونتاج, رضوى عاشور وغيرهن من الكاتبات ، أصرت نورا على تتبع مشوار حياتهن ومعرفة سبب وحدتهن وكيف عبروا عنها ولو بانتحار بعضهن تاركين لنا رسالة واضحة بأنهم لم يجدوا من يشعر بوجودهم أو لم يصلوا لمعنى الحياة.
ربطت نورا ناجي بين كل كاتبة عرفتنا عليها وبين حياتها وتفاصيل منها بجرأة كبيرة . فتحت لنا قلبها كي تجعلنا ندخل في نفس حالة التلاحم بيننا وبين الكاتبات. فتقول نورا مثلا عن عنايات الزيات:
مثل إيمان أحب التفكير في أن عنايات لا تزال موجودة، تكتب روايتها الجديدة وتُكمل حياتها مع ابنها، تجد حبًّا جديدًا، تلقى التقدير الذي” “تستحقه، تُنهي وحدتها، وتعرف أخيرًا معنى الحياة
لم تكن ما كتبته نورا مجرد مقالات جعلتنا نتعرف على حياة هؤلاء الكاتبات، ولكن جرعة ثقيلة من المشاعر تجعلك رغما عنك تشعر بالآخرين بعد قراءة هذا الكتاب، مثلما فعلت هي تماما وأنا على يقين أن هذا الكتاب أرهقها نفسيًا وترك أثرًا في روحها وربما غير فيها.
بالنسبة لي هذا الكتاب عظيم لأنه يعري الحقيقة؛ أن النساء تحدياتهن بالحياة مختلفة وخاصة الكاتبات. اكتئاب ما بعد الولادة، تحرش أقارب أو آخرين، صعوبة في نيل الحرية وتحقيق الذات، صعوبة لنيل الطلاق….إلخ كلها مشكلات تواجهها النساء بطرق مختلفة كي لا يفقدن حياتهن، وتواجهها الكاتبات بالكتابة عنها والتطهر من الآلم الذي يتحول لندبة في الروح مع الوقت أقل تأثيرا ولكنه موجود.
قالت لي طبيبتي النفسية يوما قبل التعافي التام من نوبات الاكتئاب، أنني أعاني من لون مختلف من نوبات الاكتئاب تصيب المبدعين وحدهم، أخذت الأمور بشكل ساخر كعادتي وقلت لها: أنا مبدعين؟
فتحدثت بوجه جاد كعادتها في مناقشة الأمور الهامة بحياتي، وقالت : أن هناك لون من الاكتئاب يصيب المبدعين حيث أنهم يشعرون بشكل مختلف بكل شيء من حولهم، ويتمتعون بتأرجح المزاج؛ كلمة حلوة تغير يومهم للأفضل، وموقف سخيف يجعلهم يستعدون شبح الماضي ويسود يومهم، وأحيانا يتحمسون للحياة بشدة، وأحيانا أخرى يريدون تركها حالا دون مقدمات.
نصحتني طبيبتي بالكتابة خاصة قبل النوم، وبالقراءة حتى لا تسيطر علي أفكاري.
يحدث الاكتئاب أحيانا كثيرة من الشعور بالخواء النفسي وعدم إيجاد معنى من وراء الحياة؛ لذلك شعرت بكل كاتبة كتبت عنها نورا ناجي وقررت ترك الحياة بعد معاناتها بالحياة من صدمات تلو الأخرى، وخاصة من عانين بفترة الطفولة وتكوين الشخصية، وتأكدت أن العالم بالفعل قاسي لولا ما يتركه لنا هؤلاء المبدعون!
كنت هناك بهذا البئر المظلم وحدي تماما حين عانيت الاكتئاب، عرفت حينها معنى الوحدة التي وصفتها نورا بكل القصص التي كتبت عنها، وعندما مررت بهذه الرحلة الصعبة لمعرفة نفسي والتركيز على وضع معاني لحياتي ، هزمت الاكتئاب؛ هذا الحمل الثقيل الذي كتم نفسي وزارني لنوبتين بعام ٢٠١٧ وعام ٢٠٢٢، حيث كنت لا أعرف كيف أسيطر على التفكير بترك الحياة برمتها، وكيف أصحو دون الرغبة في البكاء وآلام الجسد والروح!…عانيت مع القلق فترة طويلة، ولكن نوبات الاكتئاب -رغم تغلبي عليها بوقت ليس بكبير- كانت لعنة حقيقية لشخصية تتسم بالتفاؤل وحب الحياة.
كنت أبكي حتى أثناء العمل، وأرسم ابتسامة زائفة لتلاميذي الأجانب الذين مازلت أعلمهم العربية، وكنت فقدت القدرة على الرد على الهاتف حتى أقنعني دكتور محمد مخيمر بالمحاولة ولو مرة وحيدة للرد على اتصاله وسيتحمل نوبات بكائي، وكانت المكالمة الأولى الطويلة التي أقوم بها مع صديق مقرب، وتحمل بكائي بالفعل في موقف لن أنساه له بحياتي.
كل قصة ذكرتها نورا ناجي في الكاتبات والوحدة عن كاتبة ما لامستها بمشاعري وبموقف ما مررت به ظننت أن الزمن سيتوقف عنده، وشعور مر تمنيت بعده التلاشي ؛ الكلمة التي كررتها نورا مرات عديدة بهذا الكتاب واصفة شعور كل كاتبة عانت من الوحدة أو الاكتئاب؛ الشيطان الذي يدفعنا دائما للتلاشي والانسحاب من الحياة، حيث تقول
في بعض الأحيان كانت تسيطر عليّ رغبة في التلاشي، أمشي في الشارع فأنظر إلى الأشخاص من حولي، يعيشون وكأن لا شيء يحدث، لا” “أحد يشعر بأحزاني الداخلية أو ما أفكر فيه فعلًا، هم فقط يرون وجهًا وجسمًا لامرأة تسير
أقرأ أيضا..محمد رمضان موهبة حقيقية أم خطة تسويقية؟
في الواقع الكاتبات والوحدة يستحق أكثر من مقال كي أتحدث عنه، وعن كل مقال على حدى، ولعل أكثر قصة شعرت أنها تمثل عصرنا الحالي، قصة الكاتبة أروى صالح ووصفها لما يحدث بمفاهيم وسط البلد، وكأنها تتحدث على الفترة الحالية وما بعد أحداث ٢٠١١ التي جعلتني أصدق كل من كان يجلس بمقهى للمثقفين حتى تخلصت من سذاجتي.
وأكثر قصة جعلتني أشعر بالأمل ؛ قصة رضوى عاشور التي اعتبرها قدوتي بالحياة، وتذكرت بكائي حين خبر موتها عندما كتبت نورا عن إدراكها للحظة رحيلها عندما كُتب تحت اسمها بمكتبة ما “المرحومة” شعرت حينها بآلم بالمعدة واستدعاء لمشاعر الحزن عندما سمعت خبر رحيلها.
تصف هند عبد السلام صديقتي كل عزيز فارق الحياة قائلة: فلان مشي…مشي كلمة أستخدمها أنا الأخرى لعجزي عن استيعاب الموت حتى الآن، وما تركه بنفسي الكاتبات والوحدة، أن ربما هؤلاء (مشوا) ولكن لا تموت أبدا كلمة صادقة ولا تتلاشى بصمة حقيقية.
الكاتب
-
إسراء سيف
إسراء سيف كاتبة مصرية ساهمت بتغطية مهرجانات مسرحية عدة، وبالعديد من المقالات بالمواقع المحلية والدولية. ألفت كتابًا للأطفال بعنوان "قصص عربية للأطفال" وصدر لها مجموعة قصصية بعنوان "عقرب لم يكتمل" عن الهيئة العامة المصرية للكتاب بعد فوزها بمسابقة للنشر، كما رشحت الهيئة الكتاب لجائزة ساويرس.
كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال