المطران كبوجي “المقاوم الذي كرهته إسرائيل فأوقعته بالخيانة”
-
وسيم عفيفي
باحث في التاريخ .. عمل كاتبًا للتقارير التاريخية النوعية في عددٍ من المواقع
كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال
كسر المطران كبوجي شيئًا في وفيات الشخصيات المسيحية عبر الانترنت وهو أنك لم تجد شخصًا تكلم عن عقيدته ونهايته الأخروية كما هو معتاد، بل ورغم عداءه للربيع العربي أحبه كافة الثوار، ومن هنا الخيط «كيف تمكن المطران من أسر قلوب الجميع ؟».
المطران كبوجي .. حكاية الطفل جورج وأثر الانفجار
ولد جورج بشير كبوجي في 2 مارس من عام 1925 في مدينة حلب السورية لأسرة ميسورة الحال فوالده كان أشهر تجار السيارات في حلب، بينما والدته كانت على صلة قرابة بأبرز فقهاء الدساتير الشامية وهو إدمون رباط.
اقرأ أيضًا
مسلسل حارس القدس “دراما تاريخية ذات إيقاع هادئ قليلاً وعيبين في 4 حلقات منه”
اليُتْم كان عنوان طفولة كبوجي فقد مات والده وهو في الخامسة وبعد 3 سنوات دخل المدرسة الرهبانية الباسلية الحلبية في دير الشير بلبنان وتخرج منها بشهادة التعليم الأساسي ثم انتقل إلى فلسطين ودرس في دير القديسة آن بمدينة القدس.
في القدس قضى جورج طفولته وشبابه وقبل أن يُرْسَم كاهنًا كاثوليكيًا انفجر فندق الملك داوود في عام 1946 م على يد العصابات الصهيونية قبل عامين فقط من قيام الكيان الصهيوني كدولةٍ على أرض عربية وعن هذا الانفجار كتب خلال مذكراته «ذكرياتي في السجن» قائلاً «كنت الطالب الوحيد الذي غادر معهد القديسة آن ذلك النهار، وشاهدت جثث الضحايا التسعين من الإنجليز والعرب وانتابني ألم لا يقاس».
الطريق إلى الرهبنة .. وسر اسم هيلاريون
دراسيًا فإن جورج ظل يدرس في المدارس الحلبية حتى نال الشهادة الثانوية لينتقل عام 1933 إلى دير الشير في لبنان وظل فيه إلى عام 1944 م ومنه إلى دير القديسة آن في القدس لدراسة العلوم اللاهوتية حتى حل عام 1947 وتمت سيامته كاهنًا وسُمِّي بـ هيلاريون واختيار اسم هيلاريون كاسم رهباني له دلالة عروبية ومسيحية ، فالقديس هو راهب فلسطيني من غزة وتم اعتباره أحد مؤسسي الحياة الرهبانية في فلسطين بعد أن أخذها من مصر.
اقرأ أيضًا
“فلسطين لم تعرض العمل” لماذا فشل مسلسل حارس القدس في تحقيق مشاهدات ؟
عمل المطران هيلاريون كبوجي كمدرس في مدرسة النهضة الوطنية القريبة من بلدة سوق الغرب في جبل لبنان، ثم تم اختياره كمساعد للبطريرك ومسؤولاً عن إبراشيات دمشق.
تدرج في المناصب الكهنوتية حيث صار رئيساً عاماً للرهبانية الباسيلية الشويرية عام 1962 وبعدها بعام تم اختياره رئيسًا للرهبانية الحلبية وتمت ترقيته لرتبة المطران في 6 نوفمبر عام 1965 م وتم تعيينه نائبًا بطريركيًا في القدس لطائفة الروم الكاثوليك وهناك بدأت النزعة العروبية والمقدسية له.
المطران كبوجي وطريق النضال
كانت نكسة يونيو 1967 بمثابة التحول الأبرز في الصراع العربي الإسرائيلي، ولم يكن المطران كبوجي بعيدًا عن تلك التحولات فمثلاً دفن بيديه 400 شهيد بعد احتلال إسرائيل، وعن النكسة وتأثيرها قال كبوجي «بعد احتلال القدس بثلاثة أيام كنت أسير بسيارتي في شوارع القدس مرتديا بدلتي الكهنوتية، فاقترب مني فجأة جندي إسرائيلي وبصق عليّ ترجّلت من السيارة وانهلت عليه ضربا بالعصا حتى سقط على الأرض، واقتنعت أن هؤلاء الغزاة لا ينفع معهم إلا السوط، ولا بد من العنف لكسر شوكتهم وشراستهم، قررت أن أعمل جاهدا لمواجهة المحتل وأسست أولى خلايا الداخل في القدس وعقدت الاجتماعات في المطرانية، كانت عزيمة الشباب قوية وحماستهم كبيرة، ولكن ينقصهم السلاح للقيام بعمليات ضد العدو».
المطران كبوجي مع المقاومة
تسرب اليقين إلى قلب المطران هيلاريون كبوجي بأن مواجهة الاحتلال لابد أن تكون بالسلاح، وهي نفس القناعة التي كان عليها قادة حركة فتح فتواصل معه أبو جهاد وأبو فراس خاصةً وأن الحركة كانت تريد توصيل السلاح إلى خلاياها الجهادية داخل القدس وتولى المطران كبوجي بنفسه نقل السلاح إلى خلايا فتح في الضفة عن طريق إدخاله بسيارته إلى القدس عبر معبر الناقورة اللبناني.
بحكي رياض الملاعبي أحد قادة المقاومة في فتح ما فعله المطران قائلاً «يمتلك سيارة مرسيدس وجماعتنا صنعوا بداخلها مخابئ يصعب كشفها وتحمل 500 كيلو جرام من الأسلحة، وكان المطران يتمكن من نقل 70 قطعة سلاح في سيارته التي لا تخضع للتفتيش نظرا لكونه يحمل جوازا دبلوماسيا من الفاتيكان، كما نقل بسيارته صواريخ كاتيوشا وقذائف أر بي جي إلى القدس، وكان يغطي حاجة الضفة الغربية من السلاح ولمدة ثلاث سنوات متتالية نشط المطران في نقل السلاح بسيارته من لبنان إلى المقاومة في فلسطين، وكانت الخطة تقضي بأنه عندما يصل المطران للقدس يرسل أبو فراس خبير أسلحة ليفرغ حمولة السيارة ويخبئها في مدرسة الفرير ببيت حنينا، ثم يتولى رياض الملاعبي جلبها وتوزيعها لاحقا على كل الفصائل في الضفة الغربية، أما الأخوان زكي وزهير الملاعبي كانت مهمتهما توزيع السلاح بالضفة الغربية».
الاحتلال يكشف المطران .. هل هناك خيانة ؟
شهدت فترة السبعينيات نشاطًا قويًا للموساد بعد الخيبة الكبرى التي تلقاها في حرب أكتوبر وقرر تجنيد بعض العناصر في الداخل الفلسطيني وذلك للإيقاع برموز المقاومة قتلاً أو سجنًا وكان كبوجي من ضمن المطلوبين وعن هذا قال بدأتُ ألاحظ تبدلا في أسلوب تصرف الإسرائيليين معي، وكانت المرة الأولى على الحدود اللبنانية عندما وصلت إلى مركز الناقورة صباحا وعلى غير العادة طلب الضابط أن أفتح صندوق السيارة فرفضت» وعلة الرفض أنه كان يحمل جوازًا دبلوماسيًا واتصل بالسفير الفاتيكاني والذي بدوره تواصل مع إسرائيل من أجل عدم تفتيشه.
ألقي القبض فجأة على المطران كبوجي في 2 أغسطس عام 1974 م حين أوقفت سيارته عند أحد المعابر العسكرية في فلسطين وتلك التفاصيل حكاها بنفسه في مذكراته إذ قال أنه الضابط طلب منه النزول لكن المطران رفض لحصانته الدبلوماسية فرد الجنود عليه عمليًا بطرحه أرضًا والإتجاه إلى السيارة وإخراج السلاح منها وهو ما أثار دهشة المطران حيث كانوا يعرفون بمكان السلاح، وتم اعتقال المطران لمدة 17 ساعة ثم أخلوا سبيله ولكنهم احتفظوا بالسيارة، وبعد أسبوع وصل جنود لمنزله وفتشوه وقيدوا يديه ونقلوه إلى سجن بيت شيمش غرب القدس، وظل المطران على قناعة بأنه تعرض للخيانة من شخصٍ ما بدليل أن الضابط الإسرائيلي كان يعلم بالضبط أماكن تخبئة السلاح.
المحاكمة والنفي
اهتم الرأي العام بقضية المطران هيلاريون كبوجي بسبب مكانته الدينية ودوره في نقل السلاح، وتم وضع الفاتيكان في حرج بالغ فأرسل البابا وفد للمطران طلب منه إنكار تهمة نقل السلاح للمقاومة من أجل إطلاق سراحه وخروجه من القدس لكن كبوجي رفض لأن مقاومة الاحتلال فخر.
حكى المطران هيلاريون كبوجي تفاصيل احتجازه قائلاً «وضعوني في غرفة ضيقة طولها متران ولا يزيد عرضها عن مترين أيضا، أرضها رطبة وكان فيها فراش من القش العفن كريه الرائحة، فضّلت النوم على الأرض وتمسكت ببدلتي الكهنوتية التي أرادوا استبدالها بثياب السجن، منعوا عني كتاب الصلاة وهذا مخالف للقوانين الدولية، فأنا رجل دين ومن واجبي تلاوة فروضي اليومية.. كانوا ينقلونني إلى جلسات التحقيق فجأة، واشترك خمسة عسكريين في استجوابي دفعة واحدة».
بدأت محاكمة المطران كبوجي يوم 21 سبتمبر 1974 م ولمدة 108 يوم وخلالها أصر المطران على رفض هيئة المحكمة لأنها رمز الاحتلال ولم ينكر ما قام به من نقل السلاح، فتم الحكم عليه بالسجن 12 عامًا، ودخل الفاتيكان في مفاوضات مع إسرائيل لإطلاق سراح كبوجي، وبعد ثلاث سنوات وثلاثة أشهر في السجن تم الإفراج عنه بشروط قاسية منها النفي بعيدًا عن القدس ووضعه في إقامة جبرية داخل روما وعدم عودته إلى لبنان أو سوريا، وظل المطران في روما حتى ذهب إلى أمريكا الجنوبية حيث فنزويلا ومنها للبرازيل والأرجنتين وهي فترة قال عنها «خرجت من السجن الصغير لأدخل السجن الكبير».
المطران عاشق القدس
حمل المطران القضية الفلسطينية وهو رجل دين وأسير محرر لكنه لم يذق طعم الحرية بل كان مبعدًا قسرًا عن أحب البلاد إلى قلبه، فلم يلتزم المطران هيلاريون كبوجي بشروط إطلاق سراحه حيث زار سوريا ولبنان عشرات المرات، وقام بالمشاركة في أسطول الحرية المتوجه إلى غزة وتم اعتقاله ثم تم تسليمه عام 2009 لقوات الأمم المتحدة، على حدود الجولان، وفي عام 2010 تم تسليمه للأردن، كما أجرى زيارات إلى دول عديدة للتعريف بالقضية الفلسطينية.
وفي 1 يناير عام 2017 توفي المطران هيلاريون كبوجي، ودُفِن المطران هيلاريون كبوجي بجانب والدته في لبنان، تنفيذاً لوصيته.
الكاتب
-
وسيم عفيفي
باحث في التاريخ .. عمل كاتبًا للتقارير التاريخية النوعية في عددٍ من المواقع
كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال