همتك نعدل الكفة
314   مشاهدة  

بين نقرات عوده الفريدة وكرم قصعته.. سيرة الموسيقار محمد القصبجي (1)

الموسيقار


الحلقة الأولى:
مقدمة عن الموسيقار الكبير المرحوم محمد القصبجي:

كانت مقدمة العود لمونولوج رق الحبيب الذي غنته كوكب الشرق أم كلثوم، واالتي استقلت تحت مسمى ذكرياتي هي مدخلي الأول لعالم ذلك الموسيقار نحيل البنية قوي الفكر المرحوم محمد القصبجي، وعلى الرغم من أنني بعد سنوات طويلة من التعرف على المرحوم محمد القصبجي قد اكتشفت أن هناك صولات وجولات له في دنيا الموسيقى قبل رق الحبيب إلا أن تلك المقدمة ظلت خلال تلك الفترة الطويلة هي مرشدي لعالم ذلك الرجل الفذ.

كنت طفلا صغيرا حين جذبني عزف المرحوم محمد القصبجي على عوده في حفل النادي الأهلي الذي أقيم في سبتمبر من العام 1944م، ولم أكن أدري عن تاريخه الطويل شيئا، فرق الحبيب هي آخر ما قدمه المرحوم محمد القصبجي لكوكب الشرق أم كلثوم وبعدها انقطع عن التلحين واكتفى بموقعه خلف الست يعزف على أوتار عوده ويترجم مشاعره وأحاسيسه بنقرات تتدفق لقلوب مستمعيه الذين يمزجون فنه بفن أم كلثوم، لم أكن أدري شيئا عن ثورته مع مونولوج إن كنت أسامح وانسى الأسية، لم يتح لي قبل ذيوع التسجيلات أن أستمع لمونولج يا قلبي بكرة السفر وتغيب عن الأوطان، لم تصل لي رائعته مع زهرة القرن العشرين أسمهان ليت للبراق عينا، في البداية كنت متوهما أن المرحوم محمد القصبجي مجرد عازف محترف على آلة العود ولم يخطر ببالي أن ذلك الرجل قد أحدث في تاريخ الموسيقى العربية ثورة كبيرة بنيت عليها أسس كثيرة في موسيقانا وسار على نهجها العديد من الموسيقيين الذين عدوا أقطابا لهويتنا العربية في الموسيقى.

أكتب في تلك السلسلة عن ذلك الفنان العبقري الذي خاض مشوارا صعبا وملهما لكل من يتتبع سيرته، أكتب عن نشأته وتعليمه وتجديده الموسيقي وعن الشائعات التي أثارها الناس عنه، وكذلك عن تزييف الكثير من الحقائق التي كتبت عنه، فتاريخ المرحوم محمد القصبجي للأسف قد نال منه التزوير ما نال.

إقرأ أيضًا…كيف تحولت تصريحات جادا لزوجها ويل سميث من علاقة لاعتراف بالخيانة؟

عاش المرحوم محمد القصبجي ومات ولم يأخذ نصيب كبير من الشهرة كالنصيب الذي حازته أعماله، فالشائع بين كثير من الناس أن هناك فنان شهرته تفوق شهرة أعماله وهناك فنان أعماله أشهر منه، ومحمد القصبجي كان من النوع الثاني، فكثير من عوام الناس يعرفون أغنياته ولا يعرفون أنه صاحب ألحانها، فمن من الناس لا يعرف بتبص لي كده ليه؟ ومن منهم لا يعرف يا طيور، وإمتى هاتعرف، وأنا قلبي دليلي قال لي هاتحبي وأسقنيها بأبي أنت وأمي وياما ناديت وانتي فاكراني ولا ناسياني ومادام تحب بتنكر ليه ومنيت شبابي بالنعيم، ويا صباح الخير ياللي معانا ومش ممكن أقدر أصالحك، فكل تلك الأعمال للمرحوم محمد القصبجي وكلها أعمال شائعة ومعروفه بين الناس ولم يحظ المرحوم القصبجي نفسه بتلك الشهرة، وقد دعت تلك المسألة كثير من النقاد والكتاب إلى البحث عن أسبابها، ويمكن القول بأن تلك الظاهرة ليست غريبة أو مستجدة، فكثير من الموسيقيين في مصر لم يحظوا بالشهرة التي يستحقونها على الرغم من قدرتهم وتمكنهم كالمرحوم أحمد صدقي والمرحوم أحمد عبد القادر والمرحوم محمود الشريف وغيرهم، والحق أن تلك المسألة متعلقة بعقبة الملكية الفنية، فالغالب الذي اعتدنا عليه أن المؤلف والملحن كثيرا ما يهمل ذكرهم في حين يحظى المغني بكل الشهرة وحده، فأم كلثوم كمطربة تربعت على عرش الطرب في مصر لم تصل لما وصلت إليه إلا بأعمالها التي كان عامل المشترك بينها جميعا “بعيدا عن موهبتها الفريدة” هو جودة الألحان، فالقصبجي لم يحظ بربع شهرة أغنية أم كلثوم الخالدة يا صباح الخير ياللي معانا، مع أنه هو من خلق موسيقاها، وكثيرا ما أحاول أن أتخيل إن كانت كلمات تلك الأغنية قد آلت لملحن من ملحنين الصف الثاني أو الثالث ثم غناها مطرب آخر أو حتى غنتها أم كلثوم نفسها، لا أعتقد أبدا أنها كانت لتحوز تلك الشهرة، ومن المعلوم أن هناك أغنيتين أو ثلاث أغنيات لأم كلثوم قد طويت صفحتهم ولا يعرفهم أحد بسبب رداءة ألحانهم.

والحق أن مسألة إهمال ذكر دور المؤلف والملحن ليست السبب الوحيد، فالفرق الواضح بين محمد القصبجي وبين موسيقيين كثر في عصره أن غنائه كان نادرا، فمثلا زكريا أحمد له تسجيلات كثيرة ربما لو لم تكن موجوده لما حاز الشهرة التي حازها كذلك المرحوم الشيخ سيد درويش الذي عرف عنه أنه حاز شهرة فاقت أعماله رغم عظمتها وكثرتها، وكذلك الموسيقار الكبير رياض السنباطي له العديد من التسجيلات التي يغني فيها، ولا يخفى على أحد أن السنباطي كان صاحب صوت جميل لا سيما حين يغني كيف مرت على هواك القلوب التي لحنها لكوكب الشرق أم كلثوم، على أن الكثير من مؤرخي الموسيقى في مصر والوطن العربي يرجعون مسألة عدم اشتهار المرحوم محمد القصبجي إلى نقطة أخرى قد تكون خفية عن البعض، فالبعض يرى أن عدم اشتهار المرحوم محمد القصبجي قد يكون مظهرا من مظاهر محنة التراث في اذاعاتنا العربية ومؤسسات التربية الفنية، وهذا هو الفارق بيننا وبين أوروبا، ففي أوروبا يقوم النشاط الموسيقي الراقي على إعادة تقديم مؤلفات بيتهوفن وموتسارت برامز وغيرهم، لكي تنشأ الأجيال الجديدة وتتربى على تراثها وتتاح لها فرصة تشكيل ذوقها ووجدانها الفني في تلك البيئة، وللأسف هذا التقليد لا يتبع في موسيقانا العربية إلا في نطاق ضيق، وربما في السنوات الاخيرة يعتبر منعدما، وتستطيع عزيزي القاريء أن تلاحظ ذلك بنفسك، ولعل الحل كان يكمن في إعادة تقديم الموشحات والأدوار والطقاطيق بأصوات مطربين جدد حتى يأخذ الملحن والمؤلف حقهما من الشهرة بدافع غض الطرف قليلا عن الأسماء الكبيرة التي تهيمن على العمل الفني وتسبق شهرتها شهرته.

يستحق الموسيقار الكبير المرحوم محمد القصبجي أن تعاد أعماله بأصوات جديدة ويعاد تقديمها بصورة تليق به وبفنه كي يأخذ حقه الذي هدر على مدار نصف قرن من الزمان، وضيع تراثه بين ظلمات التجديد المزور والمزعوم.

إقرأ أيضا
بليغ حمدي

وقد كانت تلك الحلقة مقدمة لسيرة ذلك الموسيقار الكبير الذي أمد الموسيقى العربية بعظيم فكره الذي لولاه لاختفى جانبا كبيرا من جوانب هويتنا الموسيقية العربية، ومن الحلقة القادمة إن شاء الله نبدأ مع مشوار حياته منذ مولده ونشأته، فألقاكم على خير.
دمتم في سعادة وسرور.

الكاتب






ما هو انطباعك؟
أحببته
2
أحزنني
0
أعجبني
1
أغضبني
0
هاهاها
0
واااو
0


Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
‫إظهار التعليقات (2)

أكتب تعليقك

Your email address will not be published.







حقوق الملكية والتشغيل © 2022   كافه الحقوق محفوظة
موقع إلكتروني متخصص .. يلقي حجرا في مياه راكدة

error: © غير مسموح , حقوق النشر محفوظة لـ الميزان