“من تاريخ الأمسيات الدينية المنسية” أمسية البردة ونهجها .. كواليس مجهولة
-
وسيم عفيفي
باحث في التاريخ .. عمل كاتبًا للتقارير التاريخية النوعية في عددٍ من المواقع
كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال
يفتح موقع الميزان ملف تاريخ الأمسيات الدينية المنسية التي كان يحييها التلفزيون المصري، ليعطي تفاصيل أكثر عن مرحلة أدبية وفنية لقيت شهرة في شكلها، وتناسيًا للتحضير لها.
الأمسيات الشعرية .. من صاحب الفكرة ؟
لم تبدأ الأمسيات الدينية بشكلٍ ديني في البداية وإنما بدأت شعرية، ويُنْسَب إلى عبدالمنعم الصاوي وزير الثقافة فكرة الأمسيات الشعرية، وقد عرفتها مصر لأول يوم 10 يونيو عام 1977 من خلال الأمسية الشعرية الأولى في منزل أمير الشعراء أحمد شوقي.
لم تأخذ الأمسية الشعرية الأولى شهرةً مثل أمسية يوم 17 يونيو 1977 م وكانت أيضًا من شعر شوقي، وجاءت شهرتها بسبب تحويل بيت أمير الشعراء أحمد شوقي إلى متحف، وبحضور الرئيس محمد أنور السادات، ورغم أن رئيس الجمهورية حضر بشخصه للأمسية الثانية من شعر شوقي، وأحياها الفنانون، لكن كان المصريون بعيدًا عن متابعتها إلا لو استمعوا لها إلى الراديو، ثم كانت الأمسية الثانية في منزل أحمد شوقي لكن عن حافظ إبراهيم.
أرادت وزارة الثقافة في عهد عبدالمنعم الصاوي بعد الأمسية الثانية أن تنظم أمسية ثالثة لكن بشكل شعبي ودولي أيضًا، فلجأت إلى مدح سيدنا النبي صلى الله عليه وسلم من خلال الأمسية الشعرية الثالثة، لكن لا تكون من شعر شوقي، بل من أشهر قصائد المدح وهي بُرْدَة البوصيري، على أن تذاع تلفزيونيًا على الهواء مباشرةً.
قال عبدالمنعم الصاوي قبل بدء أمسية البردة أن إقامتها خطوة جديدة على طريق إحياء تراثينا الأصل والزاخر بالقيم، وأن نشره بهذه الصورة إحياء له من جديد، وفي نفس الوقت تجربة رائدة لدعم ونشر اللغة العربية الفصحى وتعويد الناس على الاستمتاع بجمالها.
أمسية البردة .. القصة كاملةً
بدأت أمسية البردة في مساء 5 سبتمبر 1977 م الموافق 22 رمضان سنة 1397 م، لكن قبل العرض كانت هناك تحضيرات تجري لتلك الليلة، وكان كل شيء يمشي بنظام في المراحل التحضيرية، سواءًا كان على مستوى اختيار المكان وآليات البث التلفزيوني وغيرها.
كواليس الإعداد والبروفات
ثلاث عناصر رئيسية قامت عليها أمسية البردة، الأولى اختيار أبيات قوية لا تزيد مدة إلقاءها التلفزيوني عن ساعة وربع، أما العنصر الثاني فكان وضع موسيقى تلائم الأمسية، بينما العنصر الثالث يتمثل في البروفات الفنية عليها.
كان العبء الأكبر على المحقق الدكتور إبراهيم الإيباري، إذ تلخصت مهمته في أن يحقق الأبيات ويدرب الممثلين على لغويتها مع شرحها، فظهرت الأمسية في مدة لم تزيد عن ساعة و 10 دقائق ونجح في ذلك.
أما الدكتور يوسف شوقي فأنجز في شهرٍ كامل مهمة تأليف الموسيقى الملائمة للأمسية.
وتولى الفنان كرم مطاوع مهمة الإخراج المسرحي للأمسية، وأجرى البروفات الفنية لمدة 20 يومًا خشبة المسرح القومي بالقاهرة ومسرح محمد عبدالوهاب في الإسكندرية، وأنهى البروفات في 20 يومًا.
مكان عرض أمسية البردة
أعدت وزارة الثقافة الميدان الواقع أمام مسجد الإمام البوصيري ومسجد أبو العباس المرسي إعدادًا مسرحيًا يصلح لإقامة الأمسية كما تم تجهيزه بأحدث الأجهزة والآلات التي تساعد في إخراجها إخراجًا جيدًا وتقديمها في صورة لائقة.
اقرأ أيضًا
الرد على من هاجموا بردة البوصيري “جملة لولا النبي ما خلق الله الخلق صحيحة المعنى”
كما تقرر وضع مكبرات الصوت في مئذنتي المسجد، وكذلك في مختلف الميادين والشوارع السكندرية لتيسير الاستماع إلى الأمسية، وتم توزيع 1200 تذكرة دعوة لحضورها.
الإخراج التلفزيوني والتسجيل
كان عبء المخرج نور الدمرداش كبيرًا في الإخراج التلفزيوني لأمسية نهج البردة، ليس لأن الأمسية ستكون منقولة على القناة الأولى فحسب بل لأن المهندس طه نصر رئيس مجلس إدارة شركة الصوتيات المرئية ستقوم بإنتاج الأمسية بإخراج نور الدمرداش من خلال أفلام ملونة فيديو لتباع في البلاد العربية ودول شمال إفريقيا.
ومثلما لم يتخلف التلفزيون عن نقل الأمسية، الإذاعة المصرية هي الأخرى كانت موجودة وعليها نفس العبء، بعدما قررت صفية المهندس رئيسة الإذاعة بث الأمسية عبر موجات إذاعة البرنامج العام، وصوت العرب، والشعب، والشرق الأوسط، على الهواء مباشرةً لكي يستمع لها المواطنون في القاهرة والبلاد العربية في وقت واحد.
الاهتمام الحكومي
اهتمت الدولة المصرية بأمسية البردة وكان مقررًا أن يحضرها الرئيس محمد أنور السادات مع وزراء حكومة ممدوح سالم الثالثة، لكنه لم يحضر وأناب عنه رئيس الوزراء والذي شهدها مع الوزراء ونوابه ورجال الفكر والأدب ونواب مجلس الشعب وأعضاء المجلس الأعلى للثقافة والآداب، مع شيخ الأزهر الشيخ عبدالحليم محمود والشيخ محمد متولي الشعراوي وزير الأوقاف حينها.
الممثلون المشاركون في الإلقاء
وصل إجمالي المشاركين في إلقاء أبيات البردة إلى 135 فنان ( 5 فنانين رئيسين + 2 مطربين – المغنية زينب يونس والمطرب علي الحجار – + 128 فرد من الكورال وفرقة الإنشاد الديني، وفرقة المسرح الغنائي، وكورال الأوبرا).
قام خمسة من كبار رموز المسرح في مصر بإلقاء أبيات البُرْدَة وهم «حمدي غيث، محمد السبع، عبدالعظيم الزرقاني، محمد الطوخي، عبدالوارث عسر»، ولعل أصعب موقف بالنسبة لهم أنهم ظلوا واقفين لمدة ساعة وهم يلقون دون النظر للمتاعب المتعلقة بسن بعضهم مثل عبدالوارث عسر الذي كان حينها يبلغ 83 عامًا.
أما الغناء فكان من نصيب المطربة زينب يونس والوجه الغنائي الجديد وقتها المغني علي الحجار.
من المواقف الإنسانية أن والد علي الحجار كان ضمن الكورال، وحكى الحجار عن ذلك حيث ذكر أنه أعلن الحجار رفضه الوقوف في المقدمة مغنيًا ووالده يكون خلفه في الكورال، لكن والده أصر على أن يكون ضمن الكورال وقال “دي فرصتي أسند إبني”.
ضم الكورال أيضًا ممثلون وأشار لهم التتر ولم يظهر بوضوح في التسجيل سوى الفنانات الأربعة وخلفهم عبدالسلام الدهشان وكذلك رضا الجمال وخالد زكي.
نهج البردة .. كواليس التجربة المكررة باختلاف
تكررت تجربة أمسية المديح النبوي لكن ليس من بردة البوصيري، وإنما من قصيدة نهج البردة لأمير الشعراء أحمد شوقي، وبدأت أمسية نهج البردة في مساء يوم 10 مارس سنة 1978 م الموافق 30 ربيع الأول لعام 1398 هجرية بميدان الإمام الحسين في القاهرة، وذلك بمناسبة المولد النبوي الشريف، وكانت أبياتها من شعر أحمد شوقي وهي الأمسية الشعرية الرابعة في تاريخ الأمسيات المنسية.
حضور رئيس الجمهورية
اختلفت أمسية نهج البردة 1978 عن أمسية البردة 1977 م في أمور كثيرة، على رأسها حضور الرئيس محمد أنور السادات، فقد تغيب عن أمسية البوصيري وأناب عنه ممدوح سالم، بينما حضر إلقاء مديح أحمد شوقي.
وقد استقبله الجماهير مع وزراء الحكومة وهتفوا له مصفقين، وكان على رأس مستقبليه الدكتور عبدالمنعم الصاوي وزير الثقافة، وحسن كامل رئيس ديوان رئاسة الجمهورية، والدكتور محمود الشنيطي نائب وزير الثقافة، واللواء سعد مأمون محافظ القاهرة.
كواليس البروفات والتحضير
الاختلافات تواصلت في ظروف الإخراج والقائمين عليه، سواءًا كان عبر بث التلفزيون المصري، أو على خشبة المسرح الموجود في ميدان الإمام الحسين.
لم يتخلف المخرج نور الدمرداش عن الإخراج التلفزيوني لأمسية نهج البردة، لكن الإخراج المسرحي قام به الفنان محمد توفيق وكان كورال نهج البردة أضخم من حيث العدد حيث ضم 180 فنان.
بداية أمسية نهج البردة أيضًا مختلفة، إذ استهلت فقراتها الأولى بقدوم موكب مهيب لجميع أفراد الأمسية عدا الممثلين الرئيسيين وهم يرتدون الزي العربي الخالص، وبعدها صعد الموكب على خشب المسرح، إلى جانب تداخل ألحان غناء الرجال في شعر شوقي مع ألحان ترديد الفتيات في التسبيح بأسماء الله الحسنى.
النقل التلفزيوني والتسجيل
الاهتمام ذاته الذي لقيته أمسية البردة في البث والنقل، لقيته أيضًا أمسية نهج البردة، وتم إعداد نسخ ملونة في شرائط فيديو للتسويق الداخلي والخارجي، إلى جانب طبعه في شرائط كاسيت للجمهور.
الممثلون المشاركون في الإلقاء
شارك في أمسية نهج البردة 180 فردًا من نفس أعضاء الفرق التي تم الاستعانة بها في أمسية البردة سنة 1977 م لكن مع اختلافات كثيرة واتفاقات طفيفة.
الوحيد الذي شارك في الأمسيتين هو الفنان عبدالوارث عسر، بينما الجدد كانوا «زكي طليمات، سامي طمطوم، سعد الغزاوي، جلال الشرقاوي، نجاة علي الممثلة، وكريمة مختار»؛ وقد روعي سن زكي طليمات وعبدالوارث عسر فتم الائتيان لكل واحدٍ منهما بكرسي للجلوس عليه، وهذا لم يحدث في أمسية البردة.
أما الغناء فكرر الدكتور يوسف شوقي الحضور كملحن للأمسية، بينما تولى الغناء ياسمين الخيام ومحمد ثروت.
إشارات سياسية
لم تخلو أمسية نهج البردة من بعض الإشارات السياسية، فقد كانت مصر حينها مشغولة بالتحضير لتوقيع اتفاقية كامب ديفيد، وبدأت الدول العربية في الغضب من نظام السادات، إلى جانب بعض الهدوء الطائفي بعد مرور أزمة تحكيم الشريعة في مصر، فتم وضع أغنية عن القدس وأخرى عن المسيح من ألحان الدكتور يوسف شوقي.
بعد انتهاء أمسية نهج البردة استعدت وزارة الثقافة للأمسية الخامسة عن ابن الفارض وكانت ستقام أمام مسجده ليتولى كرم مطاوع إخراجها، لكننا بعد بحث لم نجد عنها خبر حتى الآن.
لم تتكرر تجربة البردة بعد ذلك سواءًا في عصر السادات أو بدايات عصر مبارك، لكن مصر مع منتصف الثمانينيات كانت على موعدٍ مع تغير جديد في تاريخ الأمسيات الدينية وهي تجربة الليلة المحمدية وتلك لها تاريخ آخر تجدونها هـــنـــا.
يُتْبَع
المراجع
- أحمد شوقي في المصادر والمراجع – محمد فتحي عبدالهادي – د. نبيلة خليفة جمعة
- فيديو| “بردة البوصيري”.. اللقاء الصعب بين علي الحجار ووالده – دوت مصر
- مكتبة الإسكندرية – موقع الرئيس محمد أنور السادات
- أرشيف جريدة الأهرام أعداد 4 و 5 سبتمبر 1977 و 10 و 11 مارس 1978 م
الكاتب
-
وسيم عفيفي
باحث في التاريخ .. عمل كاتبًا للتقارير التاريخية النوعية في عددٍ من المواقع
كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال