تذكرة ماتينيه..صراع يوسف شاهين في الوادي٢
-
عبد الجواد
كاتب نجم جديد
كنا قد أنهينا المقال السابق عن فيلم صراع في الوادي بذلك السؤال ما الذي فعله يوسف شاهين إذن ليبرز نقاط القوة و الجمال في السيناريو و جعلنا لا نلتفت إلى ضعف الحبكة ؟
تكنيك يوسف شاهين في صراع في الوادي
تحليل مخرج الفيلم بإتقان لعناصر السيناريو مكنه من إبداع تكنيك يخدم ذلك الـ صراع و هذا التوتر داخل الدراما و جاءت إختياراته لزوايا و إرتفاعات الكاميرا و أماكن الممثلين و أوضاع أجسامهم داخل الكادرات تجعل المشاهد و كأنه يعيش معهم الـ صراع و يتوتر بتوترهم و يمكننا أن نلمس التطوير الذي أحدثه يوسف شاهين في السينما المصرية بعمله في ذلك الفيلم في التالي :
في عالم صناعة السينما يوجد ما يعرف بالمثلث عند ظهور ثلاثة ممثلين في كادر واحد ، و في سيناريو الفيلم مشاهد متعددة كانت تعتمد على وجود ثلاثة ممثلين .
– مشهد يجمع بين آمال و أحمد في بداية عودتها للقريه و ثالثهم فريد شوقي يجلس في السيارة في إنتظار عوتها .
– مشهد بين آمال و أبيها الباشا عند وصولها للبيت يرحب بها في وجود رياض.
– مشهد مواجهة الباشا مع الشيخ عبدالصمد في وجود رياض.
– مشهد الباشا مع صابر في وجود رياض .
حوار الشخصيات في صراع في الوادي
نلاحظ في كل ماسبق وجود رياض كعنصر ثالث و رغم إن رياض في جميعهم كان يراقب الحوار بين الشخصيتين الأخريين في كل مشهد بإستثناء الأخير الذي كان رياض يحاور صابر بينما الباشا يراقب ، في كل مشهد من هؤلاء إستخدم يوسف شاهين تنوعيات مختلفة في تصوير لقطات ثابتة بكل مشهد تراعي أن الأشخاص الثلاثة في كل مشهد لهم نفس الأهمية لأن هناك شخص ينطق الحوار الشخص الثاني يستمع ليرد و آخر صامت داخل كل لقطة لكن ما سيبدو على وجه ذلك الصامت سيطور الدراما فيما بعد ، تلك التنويعات التي إستخدمها شاهين لم تكن مستخدمة في السينما المصرية من قبل و يمكننا الرجوع لدراسة الأفلام التي أنتجت قبل عام ١٩٥٤ بل أزيد على ذلك بأن ما فعله شاهين في تلك المشاهد كان من الصعب على من جاء بعده تقليده ليس فقط في تلك السنوات البعيدة لكن حتى وقتنا الحالي .
حركة الممثلين داخل الكادر الثابت كانت كذلك مبتكرة و نراها في الحقول و في زفة العروسة و في تحرك أهل القرية الغاضبين للحاق بالبريئ صابر لمحاولة الفتك به و في جنازة الشيخ عبدالصمد فلم يتم تصوير جنازة من قبل بهذا العدد من المجاميع في خط حركة كهذا داخل لقطة واسعة ثابتة بتحرك أفقي من أقصى يسار أسفل الكادر إلى اليمين ثم تحولت الحركة من أسفل الكادر إلى خط رأسي يصل بهم إلى أعلى الكادر في نفس جهة اليمين فعبرت الحركة عن أهمية الراحل و عظمة الفقد .
كذلك لم تعرف السينما قبل صراع في الوادي التصوير من داخل السيارات الصغيرة المتحركة فكنا قبلها نرى الممثلين يجلسون داخل سيارات ثابتة و من خلفهم شاشة تعرض الطريق و السيارة تهتز بسواعد الفنيين بالأستوديو لنقتنع كمشاهدين بحركتها لكننا هنا رأينا لقطة بديعة عندما كانت فاتن حمامة تجلس بجوار رياض و هو يقود السيارة عائداً بها من محطة القطار في طريقه إلى السرايا بينما فاتن حمامة تنظر خلفها من خارج شباك السيارة الكابورليه تبحث بنظراتها الملهوفة عن حبيبها أحمد حيث كانت الكاميرا مثبتة خلفها على حرف السيارة و هي في يسار الكادر تنظر للخلف بينما يمين الكادر الطريق و الحقول .
و حركة الممثلين في مشاهد المواجهات سواء هروب حسان شاهد الزور من أحمد أو ملاحقة سليم لأحمد و في محاولة إستهداف رياض لكل من أحمد و آمال ببندقيته كانت حركة الممثلين في كل تلك المشاهد غير إعتيادية و معها حركة الكاميرا فخلق يوسف شاهين إيقاعاً يخدم التوتر و يدعم الـ صراع مع حرصه الشديد على إبداع تكوينات في كادراته .
إرتفاعات الكاميرا هي الأخرى بخلاف عدم تقليديتها كانت كإختيارات بناء على تحليل المخرج للسيناريو و ليس لمجرد الخروج عن المألوف ، فمثلاً في بداية الفيلم عندما كانت آمال في سيارة رياض وقت وصولها للقريه ، رأينا لقطه واسعة ثابتة من زاوية منخفضة يظهر فيها أحمد بالأسفل بينما في خط حركة أفقي سيارة آمال في الطريق بالأعلى و ذلك خير تعبير عن مشاعر الحب التي تجمعهم رغم الفارق الطبقي .
إقرأ أيضًا…أن تعرف راتب الكابتن مدحت شلبي .. بينما أنت كاتبٌ مهمٌّ حذاؤك مقطوع!
و مشاهد المطاردة بين رياض و أحمد و وصول سليم لمكانهما و من قبله آمال ثم من بعدهما الباشا ، في تلك المشاهد إستطاع رياض الصعود إلى مستوى مرتفع عن الأرض ليكشف جغرافيا المكان و يتمكن من قنص أحمد فرأينا زوايا تصوير مرتفعة و أخرى منخفضة نشعر بسببهما كمتفرجين حجم الخطر الذي يحيط ببطلي الفيلم أحمد و آمال و صعوبة نجاتهما فعمقت إختيارات المخرج أجواء التوتر و جعلت قلوبنا تخفق خوفاً عليهما .
الممثلين
يراعي المخرج في ترشيحاته للممثلين أن تكون ملامح الممثل وهيئته الخارجية متوافقين مع بناء الشخصية داخل السيناريو و أن يتمتع بالكفاءة التي تمكنه من التعبير عن الشخصية و دوافعها و إنفعالاتها و صراعاتها ، و قد كانت إختيارات يوسف شاهين موفقة تماماً من الناحية الشكلية .
فاتن حمامة الفتاة الرقيقة البريئة الرومانسية الودودة و التي تحمل مشاعر نبيلة .
زكي رستم الباشا الأرستقراطي رجل المال مهيب الهيئة .
فريد شوقي الشرير المتطلع لئيم الطباع سكرتير الباشا قوي البنية .
منسي فهمي الرجل المسن كفيف البصر الذي يمتلك حدس قوي .
عبدالوارث عسر الموظف المسالم الوديع البشوش .
عبدالغني قمر خائن العهد و الأمانة ، الجبان خبيث النوايا .
حمدي غيث إبن الأصول ذو البأس هادئ الطباع .
الطفل سراج جمعه بملامحه البريئة و وجهه المبتسم و نظراته التي توحي بذكاء حاد .
غير أن يوسف شاهين قرر أن يغامر بإختيار وجه جديد لأداء دور البطولة أمام فاتن حمام فإختار ميشيل شلهوب الذي غير إسمه ليُكتب على تيترات الفيلم عمر الشريف الشاب الفقير المتعلم وسيم الشكل قوي الإرادة.
إقرأ أيضًا…وصلت إلينا النسخة الثالثة..فما هي حكاية النسخة المختفية لفيلم الناس والنيل ؟
هذا من الناحية الشكلية أما وقوفهم أمام الكاميرا لتأدية الأدوار فيأتي وفق توجيهات المخرج بناءاً على فهمه و تحليله للشخصيات و على قدرته في توضيح الحالة النفسية لكل شخصية و دوافعها داخل السيناريو و حالتها المزاجية و دوافعها في كل لقطة فنعود إليهم مرة أخرى لنري هل غلب الإختيار الشكلي على الكفاءة أم لا .
فاتن حمامة في لقطة واحدة نرى من نظرات عينيها لهفتها و هي تبحث عن حبيبها و نلمح كذلك في نفس حدقتيها ضيقها من وجود إبن عمها رياض بالقرب منها و عدم إحتمالها له ببساطة و صدق ، و نصدق مشاعر الود الذي تكنه لخادمتها ممزوجاً بشقاوة لذيذة حتى لا نفقد إحساسنا بأنها شخصية طبيعية منطلقة و ليست ملاكاً لا وجود له إلا على الشاشة ، و من نظرات عينيها نعيش معها لحظات حنينها لغرفتها التي عادت إليها بعد غربة طويلة و نفرح لفرحها بلُقى حبيبها و بحزنها على ما أصاب والده و نلتاع من صدمتها في أبيها بسبب ملامحها التي توحي بالإنكسار الشديد و نتعاطف معها بشدة عندما يرفضها حبيبها و يطردها فتظهر لنا كالضائعة تماماً و تجبرنا على الإحساس بآلامها بعد إصابتها برصاصة من بندقية رياض و نكاد نسمع دقات قلبها و هي تقف أمام حبيبها لتحميه بجسدها من الموت و نلمس صراعها الداخلي بين الحزن على أبيها الذي قُتل في وجودها و بين رغبتها في الإستجابة ليد حبيبها الممدودة كدعوة منه لنسيان الماضي و البحث عن المستقبل ، نتحدث عن كل ذلك في أداء فاتن حمامة و نحن نحاول ألا ننسى سنة الإنتاج لنقارن بين أدائها و بين أداء ممثلات السينما المصرية قبلها و في زمانها و حتى وقتنا الحالي و أيضاً لنشاهد السينما العالمية في تلك الفترة و نعرف المنطقة التي رسخت فاتن حمامة عليها قدميها عبر التاريخ السينمائي .
كان زكي رستم يُخطط لإغراق أراضي الفلاحين بمنتهى القسوة و في ذات اللحظة ينشغل ذهنه بأخبار وصول إبنته و هو ملهوفاً لقدومها و يتحول ذلك الرجل حاد الملامح إلى طفل كبير يشع سعادة عندما تهرول إبنته إلى حضنه ، و نشعر بطُغيانه و بضعفه أمام محبته لإبنته و نرى جبروته و فرحته بإنتصاره على الفلاحين و نشعر بإنهزامه عندما تعرِف إبنته حقيقته و نكتشف مدى عمق مشاعره لإبنته و هو يهرول غير عابئ بفضح نفسه في مقابل إنقاذ إبنته ، هكذا يتصف الأداء التمثيلي بالعظمة .
الذي يبحث عن سيرة فريد شوقي يكتشف أنه في ذلك العام الذي أنتج فيه صراع في الوادي قد بدأ يحصل على أدوار البطولة المطلقة في أفلام أخرى و هو ما يعني إنتقاله من أداء دور الشرير إلى تجسيد البطل الشعبي المكافح ، أما أدائه لشخصية الشرير هنا في فيلم يوسف شاهين فكان من أهم أداوره كخصم لبطلي الفيلم ، و الشخصية في الفيلم تعتمد على خوض مغامرات تحتاج إلى قوة جسدية و سرعة حركة و رشاقة و قد أدى مشاهد الحركة تلك ببراعة و جرأة و هو ما إتسمت به ملامحه فكانت تعبيرات وجهه موحية و لأن تلك الشخصية التي صنعها السيناريو بدون مناطق ضعف إنساني لا يجعلنا نفهم مبرراتها فكان من الضروري أن يحرص فريد شوقي على إضافة بعض اللمسات الكوميدية لتلافى نفور المتفرجين منه عند ظهوره على الشاشة و قد فعل ذلك دون مبالغة تخل بتركيب الشخصية ، كذلك نجح في التعبير عن إنفعالات الشخصية فقسمات وجهه أوحت بما يشعر به اللص و هو متسلل خلف النافذة ليسرق البندقية و بان على وجهه الترقب و هو يكمن لقنص الضحية و كانت تعبيراته منضبطة و هو يهرب فهو حريص ألا يلمحه أحد لكنه غير مذعور رغم إرتكابه لجريمة كبرى بسبب قوة شخصيته و أظهر لنا غضبه من حماقة حسان شاهد الزور عندما خرج من مخبئه ليختلط بالناس في الأسواق فكان يضربه بملامح تشع بالوعيد ، و هي ملامح تختلف تماماً عن ملامحه و هو يصارع أحمد لأنه صراع على البقاء رغم أية دوافع أخرى للغضب ، و هي مهارات يمتلكها فريد شوقي و أجاد يوسف شاهين إدارتها كما حدث منهما بعد ذلك بسنوات عندما وقف فريد شوقي أمامه ليمثل شخصية في فيلم باب الحديد تختلف كليةً عن شخصية رياض في صراع في الوادي .
عبدالوارث عسر مثل تلك الشخصية التي يبدو عليها ضعف التكوين الجسماني و يظهر من تصرفاتها مدى قوة الإيمان و التسليم بالقضاء و القدر و نرى غضبه المفاجئ عندما يُتهم في ذمته يتبعه إرتباك من عدم إستيعابه لأن يتهمه بذلك أشد الناس قرباً منه و محبة ثم نرى شعوره بالندم على إغضاب شخص له أهمية في حياته ، تلك المشاعر جسدها عبدالوارث عسر بقسمات وجهه و بعينيه المعبرتين و بنبرات صوته الشجي و شعرنا بحيرته الشديدة من السبب الذي يجعل حسان الفقير المشمول بعطفه أن يشهد زوراً على واقعة لم يرتكبها فكانت نظراته إلى الشاهد الزور في منتهى القوة و هو يعلن للقاضي بنبرة ملؤها الثقة أن الشاهد يكذب ، و برغم قوة إيمانه و حرصه على التماسك إلا أن مشاعره كبشر يقترب من الموت وقت إقتياده لتنفيذ الحكم سهلت لنا رؤية ما بداخله من خوف ثم جعلنا نشعر قبل النهاية مباشرة برضاه عن مصيره الذي اختاره له الله كشخص يملك إيماناً راسخاً …. أداء مبهر .
أهل القرية في صراع في الوادي
منسي فهمي في دور الشيخ الضرير عبدالصمد ، عندما إنطلق أهل القرية فرحين بصفقة بيع المحصول كان وحده من يشعر بالعدو الكامن الذي لن يترك لهم فرصة للترقي بما سيربحونه من أموال و قد رأينا على ملامحه ذلك القلق المتناقض مع سعادة أهله و عشيرته ، ثم كانت حركات رأسه توحي بالترقب فشعرنا بقوة سمعه التي يتميز بها كفيف البصر فتأهلنا لأن نرى المياه تُغرق كل شيئ ، و إنفعاله في مشاجرته مع صابر لا تتشابه مع حدته عند مواجهته مع الباشا فهنا الغضب وحده لا يكفي في مواجهة عدو متجبر و مغرور لذا يحتاج لأن يظهر أمامه كند لا يقل عنه قوة حتى يكون تهديده له ذو قيمة … غاية في الإقناع .
سيناريو صراع في الوادي
سراج جمعة في شخصية الولد الصغير نافع حفيد الشيخ عبدالصمد ، و شخصية الطفل في السيناريو الفيلم لم تكن بلا أهمية لأنه يساهم في تطور الأحداث بمساعدته لأحمد سواء في تضليل عمه سليم لكي لا يقتله أو بتنبيه أحمد من ملاحقة سليم له ليتمكن من الهرب فكانت عينيه توحي بما يشعر به كطفل في تلك المواقف و كلماته المقتضبة ينطقها بإحساس يساهم في تدعيم مصداقية الأحداث ، و قبل ذلك الـ صراع المركب كان ظهور الطفل في بداية الأحداث ليزرع السيناريست قوة علاقته بأحمد من خلال مشاهد تُظهر ذكاؤه كطفل متميز يلتقط التفاصيل مما يحدث حوله و يضفي جو من المرح بملامحه الجميلة و إبتسامته الساحرة و كأنه طفل نستمتع بوجوده بيننا و ليس ممثلاً أمام الكاميرا و هو بالتأكيد حُسن إختيار من المخرج و براعة في توجيهه ليحصل منه على أداء صادق و معبر .
حمدي غيث الذي أدى شخصية سليم الشخص الودود الذي ينغمس في رحلة الإنتقام لمقتل أبيه معتمداً على كلمات مقتضبة هي منطوق حواره داخل السيناريو و على تعبيرات وجهه التي توضح تصميمه و كذلك عيناه المعبرتان .
خلف الكاميرا وكواليس صراع في الوادي
إختار يوسف شاهين إسناد التصوير للفنان أحمد خورشيد ، ومهمة مدير التصوير تبدأ من معاينة أماكن التصوير التي يحددها المخرج بالتنسيق معه ثم يختار مدير التصوير نوع الخام الذي يراه مناسباً لطبيعة التصوير من حيث عدد المشاهد الخارجي و أزمنة المشاهد ما بين الليل و النهار ، ثم بعد ذلك في التنفيذ عندما يوزع لمباته ليضيئ الكادرات وفق ما تطلبه الدراما و في تضبيط إعدادات الكاميرا لتتناسق و تتناسب مع الإضاءة المخلقة و مع مصادر الإضاءة الطبيعية إن وجدت .
تعتبر الصورة في فيلم صراع في الوادي غاية في التميز و نستطيع أن نؤكد إن السينما قبل ذلك الفيلم لم تكن تعرف تصوير الليل الخارجي لكادرات بأحجام واسعة بهذه البراعة ، من اللقطة الأولى للفيلم قبل التترات نرى لقطة واسعة ليل خارجي ، في مقدمة الكادر النيل و في الخلفية الطريق يتحرك فوقه الفلاحين عائدين من الحقول في خط حركة أفقي من اليسار إلى اليمين و خيالهم ينعكس على النيل فيخلق في الصورة خط حركة موازي غاية في الروعة كتكوين بصري و قوي من حيث تأثيره على المشاهد لتوضيح ما يدور في نفس راوي التعليق الصوتي ، و على سبيل المثال لقطات المسيرة الغاضبة لأهل القرية في الليل و هم يحملون المشاعل ، كما نجح مدير التصوير في تحقيق رؤية المخرج الدرامية في تصوير اللقطات ذات الأحجام الكبيرة للوشوش ( الكلوزات ) و كذلك في صنع مود عام للفيلم .
أما فيما يخص أماكن التصوير فقد كانت الإختيارات رائعة إستغلت الطبيعة الجغرافية للجنوب الساحر ، النيل الذي يقسم الحقول إلى شطرين أو داخل مقبرة فرعونية بألوان حوائطها الزاهية و وسط معبد الأقصر بأعمدته و طريق الكباش الذي يوصل إليه و رأينا في لقطة خالدة بالسينما المصرية ذلك الكادر العظيم عندما كان فريد شوقي يهبط من أعلى سلم المقبرة و في الخلفية ضوء النهار يتسلل خلفه إلى داخل المكان في توظيف رائع من مدير التصوير للإضاءة الطبيعة مع إضاءته المصنوعة من لمبات .
كذلك في أماكن السكن ، بيت أحمد المقسم في بساطة إلى دورين علوي و سفلي غير منفصلين بشرفته المطلة على النيل من جهة و من الخلف يحاوطه الخلاء و هو إختيار يُدعم ما يريده السيناريو لتنفيذ سرقة البندقية و كذلك حتى لا تكون عملية مراقبة سليم لأحمد سهلة فيتمكن من الهرب عند اللزوم ، أيضاً الصالة الريفية الواسعة ببيت سليم التي تكفي لتجمع الأقرباء في حفل عرسه أو لمساندتهم له بعد مقتل أبيه ، كذلك سرايا الباشا بما تشمله من سلالم واسعة و حوائط مزينة باللوحات و غرفة المكتب الفاخرة و التراس و الحديقة و صالة الإستقبال و غرفة نوم آمال بطلة الفيلم ، جميعها إختيارات من المخرج حقق بها تكوينات بصرية بديعة و خلقت تأثير مقصود ليستمتع المشاهد و هو يقترب من الشخصيات و يستوعبها و يتفاعل مع الدراما .
الموسيقى التصويرية لفيلم صراع في الوادي
الموسيقى التصويرية التي ألفها فؤاد الظاهري لم تكن مجرد خلفية بالفيلم لكنها مع مؤثرات الصوت كانت مكملة للصورة في أوقات السعادة بالنجاح و المرح مع الحبيبين و الفرح في ليلة العرس الي راعت فيه طبيعة البيئة كفلكلور و عند الإنكسار وقت غرق المحصول و كتعبير عن الغضب في المواجهات و لتشويق المشاهد في مشاهد الترتيب للجريمة ثم لحظات قيام رياض بالقتل و خلقت توتراً هائلاً داخل المحكمة و في السجن عند تنفيذ حكم الإعدام و عبرت عن الحالة النفسية للبطل الذي إنهزم و لم يستطع إنقاذ أبيه و صنعت القلق في مشاهد المطاردة و المواجهة الأخيرة و في لحظة التنوير الأخيرة جعلتنا نشعر إننا كنا نعيش ملحمة عن الـ صراع بين الخير و الشر .
شريط الصوت كان مشتركاً بين كريكور تشاكماكجيان و نيفيو أورفانللي فسمعناً حواراً نقياً خالي من العيوب ممزوجاً مع الأصوات الطبيعية للأماكن مثل تهليلات الفلاحيين تعبيراً عن فرحتهم بإختيار شركة السكر لمحصولهم أو أصوات مياه الوضوء الجماعي للفلاحين و أصوات الغاضبين في مسيرتهم للإمساك بالمتهم البريئ و أصوات العواء و صفير الصراصير بالليل حالك السواد و ضجيج الحضور وقت جلسة المحاكمة و صوت طبيلة الإعدام وقت تنفيذ الحكم و خطوات الهرولة ممزوجاً مع زصوات الشهيق و الزفير في المطاردات و أصوات الرصاص التي تنوعت بين تصويبه داخل القرية و بين تصويبه في حرم المعبد و صدى صوت الحوار داخل المقبرة الفرعونية ، كل هذا الإتقان خلق تأثيرات مباشرة على المشاهد وفرت مزيداً من الواقعية و الصدق و دعمت أجواء التوتر التي نسجتها الدراما .
المونتير كمال أبو العلا شارك في تعميق إحساسنا بإنفعالات الشخصيات لأننا كنا نرى تعبيرات الوشوش قبل أن ينتقل في التوقيت المناسب تماماً إلى لقطة أخرى في جميع المواجهات بين الشخصيات المختلفة طوال الأحداث و في مشاهد الترقب قبل تنفيذ الجريمة ساهم تقطيعه للقطات في جعلنا نستوعب جغرافيا المكان و توقيت وصول كل من القتيل و صابر المتهم البريئ و كذلك في مشاهد المطاردات لنصدق كمشاهدين تمكن الشاهد الزور الهرب من أحمد أو عدم إستطاعة سليم اللحاق بأحمد فجميع تلك اللقطات تُصنف كتركيب متميز من المونتير لإستكمال مهمة المخرج في التصوير ، لكن ما يعيب المونتاج هو الإستخدام المفرط الإنتقال بين بعض المشاهد عن طريق الإظلام ( فيد تو بلاك ) و ليس بالقطع الصريح و هو ما يُسبب إرتباكاً بصرياً للمشاهد كما أنه لم يكن مطلوباً في أحداث الفيلم على الإطلاق لأن السناريو لم يكن به مشاهد تحتاج لذلك الإستخدام لتمرير زمن على سبيل المثال ، غير أن إستخدام المونتير للإظلام في تركيب بعض المشاهد كان شائعاً في صناعة الأفلام خلال عقدي الخمسينات و الستينات و هو الإختيار الوحيد التقليدي بالفيلم .
المنتج جبرائيل تلحمي يستحق أن نذكر جرأته في توفير ميزانية تسمح للمخرج و لصناع الفيلم بالخروج من الأستوديو و السفر بالمعدات و الأفراد من ممثلين و طاقم الفيلم للتصوير في الأماكن الطبيعية ، و أيضاً في موافقته على مغامرة المخرج بإختيار وجه جديد لأداء دور البطولة في الفيلم خاصة و إنه لم يكن يعلم بكل تأكيد أن عمر الشريف سيكون ممثلاً لامعاً في السينما العالمية فيما بعد .
تصوير صراع في الوادي
كذلك ينبغي علينا عند الكتابة عن الفيلم الإشادة بالدور الخفي الذي أداه ببراعة مدير إنتاج الفيلم السعيد صادق في تسهيل عملية التصوير الصعبة بكافة تفاصيلها من تجهيز معدات و أماكن تصوير و تنظيم مجاميع و إعاشة ، كذلك ببراعة مساعدين الإخراج في الفيلم و هما محمد أبو يوسف و حسن إبراهيم لأن دوريهما في الفيلم أولاً تنفيذي لتنظيم التصوير و كذلك لتسهيل عمليات التركيب في المونتاج بمراعاة أوضاع أجسام الممثلين عند نهاية كل لقطة و كذلك الإكسسوارت حتى لا تتعارض مع أوضاعهم في بداية اللقطات التالية أو تكون الإكسسوارات في غير أماكنها و كذلك دورهم في السيطرة على أداء المجاميع و كذلك الإشارة لعمل مهندس الديكور ماهر عبدالنور لتنفيذ ديكور يحاكي البيئة الحقيقية للقرية فلم نشعر بإختلاف المناظر الحقيقية عن الأخرى المصنوعة في البلاتوه و أكمل عمله كل من دنجل و عباس بتوفير جميع الإكسسوارات التي أضفت مزيداً من الواقعية .
ختاماً لا أعتبر التذكير بأن الفيلم صنع في عام ١٩٥٤ تكراراً مني لكن تأكيداً على عظمة السينما المصرية التي ينتسب لها هذا الفيلم المغرق في واقعيته و الذي صنع بمثل هذا التطور التقني و الفني في كافة العناصر في ذلك التوقيت المبكر .
الكاتب
-
عبد الجواد
كاتب نجم جديد