حجاب المرأة ليس فرضًا من فروض الإسلام
-
جوني ويليام آرثر
كاتب وروائي مصري من مواليد مدينة المحلة الكُبرى، صدر لهُ رواية داليدا عام 2020 ورواية المجدلية عام 2022 عن دار الفؤاد للنشر والتوزيع، كتب في عدة مواقع، كساسة بوست، وعربي بوست.
جاء التمييز بين الرجل والمرأة في الحقوق والواجبات مع بدء إنقسام المجتمع إلى طبقات وإلى قبائل، فمع نشأة نظام الملكية الخاصة، سواء في الأرض أو الحيوان أو النفوذ أو غير ذلك، بدأ الحرص من جانب صاحب الثروة على تنميتها وعلى التأكد من أنه سيورثها لأولاده هو، ومع ظهور نظام القبائل بزغ الإعتقاد لدى كُل قبيلة قوية بأن قوتها مُرتبطة بنقاء سُلالتها، وهُما سببان أديا إلى الرغبة في التأكد من نسبة الأولاد إلى آبائهم، وبالتالي إلى ظهور مفاهيم عن السلوك المطلوب من الأنثى قبل الزوج وبعده، وتأكيد أهمية البكارة وقت الزفاف، وتفضيل الإسراع بتزويج الفتاة بعد بلوغها مُباشرةً، أو حتى قبل بلوغها، وإخضاع تحرُكاتها ونشاطها منذ وقت مُبكر لرقابة الأم والأخوة أو الأعمام، إلى حين انتقالها إلى سُلطة الزوج ورقابته، وكان فرض الحجاب أحد الأنظمة المُرتبطة بهذه المفاهيم، قد ساعدت على انتشاره بعد ذلك اعتبارات أخرى، من بينها سعى أفراد الطبقتين الوسطى والدُنيا إلى التشبه بأفراد الطبقة العُليا، وفرض الحجاب للتدليل على أن الرجال هُم من سعة الحيلة والمهارة أو القوة بحيث بات دخلهم يُغنيهم عن خروج نسائهم للعمل، وعن تعريضهن لظروف قد تُهدد شرفهن، فإن كان أفراد الطبقة العُليا في العالم الإسلامي قد تخلوا في قرننا هذا عن الحجاب بتأثير اتصالهم بالحضارة الغربية (وهو مسلك قلدهم فيه أفراد الحجاب بين أفراد هاتين الطبقتين الآخريتين) رغم حجر هذه الطبقة الأولى إياه لهُ أسباب خاصة، ألا وهو إحساس الطبقتين الأخريتين بالخطر الذي يتهددهما من جزاء إنتشار أساليب العيش والإنتاج الغريبة، ومن جانب النشاط التجاري والصناعي الذي يُمارسه أفراد الطبقة العُليا من مواطنيهم والذي يحتذون فيه أساليب الغرب، ذلك أن هذا الإحساس بالخطر أدى إلى ثورة على المفاهيم المُقترنة بحضارة أعدائهم ومُنافسيهم من الغربيين وأشياع الغرب في موطنهم وأدت هذه الثورة إلى الإصرار على التمسك بتقاليد وقيم ربطوا بينها وبين الدين الإسلامي، وذلك من قبيل التحدي وحماية الذات، وإن خالوا أن الأمر ليس لهُ صلة بالمصالح الطبقية.
ربط المفاهيم الاجتماعية بالدين.
وكما هو الحال مع كافة القيم التي نرى طبقة أو عدة طبقات من صالحها أن تسود المجتمع الذي تعيش فيه، ارتبطت بفرض الحجاب مفاهيم تضمنتها العقائد السائدة، أو أمثال العامة، أو الأحاديث المنسوبة إلى النبي، كمفهوم العيب، وإتهام المرأة بالغلمة وبأنها فتنة على الرجال ومن حبائل الشيطان، واعتبار صوتها وغير صوتها عورة، والقول باستحالة أن يخلو رجل وأمرأة إلا كان الجنس شاغلهما، والشيطان ثالثهما، وبأن غالبية أهل جهنم ستكون من النساء، فإن كانت القيم والمفاهيم عرضه للتغير على مر السنين بتغير الظروف الاجتماعية والاقتصادية، فإنه لما يعرقل هذا التطور الاعتقاد بأن هذا الحُكم أو ذاك (منا كان يستند في وقت ما إلى قيم وظروف مُعينة) هو من أحكام الدين، ولا سبيل إلى تغييره أبدًا، لذلك فقد كان من السهل نسبيًا على اليابانيات مثلًا أن يتخلين عن عادة لبس الأحذية الحديدية الضيقة من أجل تصغير حجم القدم، بسبب عدم ارتباط هذا التقليد بالدين، في حين كان من الصعب نسبيًا على المُسلمات أن يتخلين عن الحجاب الذي يرين أن القُرآن قد أمرهُن والزمهن به إلى يوم الحساب، وقد أدى شيوخ الاعتقاد بارتباط أوضاع مُعينة بالدين (كالحق المُطلق للرجل المُسلم في الطلاق، أو في الزواج من أكثر من واحدة، أو في حضانة أطفاله بعد بلوغهم سنًا مُعينة)، مع الشعور بضرورة تطوير هذه الأوضاع حتى تُساير احتياجات العصر وظروفه، إلى اتجاه السُلطات في بعض الدول الإسلامية إلى انتهاج أحد الطرفين: الأول -وهو ما لجأ إليه أتاتورك- هو الإعلان والتصريح بهجر التقيد بأحكام الدين، والثاني -وهو ما لجأت إليه حكومتا تونس والسمن الجنوبي- هو إقحام تفسيرات على الآيات القُرآنية والأحاديث النبوية تتفق تمامًا مع نوايا السُلطة، حتى تطمئن ضمائر المؤمنين على إستمرار الإلتزام بالدين، فإن رأى أتاتورك مثلًا أن حق الرجل في الزواج من أكثر من واحدة شر اجتماعي، إلغاء بجرة قلم، دون أي وازع ديني، أما إن رأت السُلطات في تونس أو اليمن الجنوبي نفس الرأي، وأستقر عزمها على إلغائه، ذهبت إلى أن القُرآن بنصه على شرط العدل بين الزوجات ثُم التصريح بأن هذا الشرط لن يتحقق، إنما يقصد إلى حرمان الرجل من حق الزوج من أكثر من واحدة، وبالتالي فإن القانون الذي تسنه بمنعه مُلتزم بأحكام القُرآن، والموقفان في رأينا غير سليمين، إذ ينطوي الأول على تحد وتنكر للدين، وينطوي الثاني على تحايل ماكر على أحكامه والسبيل القويم في رأيي للتصدي لمشاكل من هذا النوع، هوتفهم الظروف التاريخية والاجتماعية والاقتصادية التي أحاطت بهذا الحُكم أو ذاك، وبيان ضرورة تغير الحكم لسقوط علته بتغير الظروف، وفق الخاعدة الفقهية القائلة بأن الحُكم يدور مع العلة وجودًا وعدمًا مع النقيد بروح الدين، والأغراض البعيدة للمشروع الإلهي، وهو السبيل الذي تنوي انتهاجه هُنا بصدد حجاب المرأة.
الحجاب قبل الإسلام.
إن الكثير من السمات التي يتميز بها وضع المرأة المُسلمة التي يحسب البعض أنها لصيقة بالدين الإسلامي، عرفتها ولا تزال تعرفها مُجتمعات كثيرة، مثل أوروبا الجنوبية وأنحاء من أوروبا الشرقية والصين والهند وغيرها، من أمثلة ذلك: تفضيل المولود الذكر على الأنثى، والتقصير في تعليم الفتاة وقصر تدريبها على الأعمال المنزلية والقيام بدور الأم، والحد من اختلاطها بالذكور متى بلغت سنًا مُعينًا، وتقييد حُريتها في الحركة، والتلهف على تزويجها بسُرعة، وحق الزواج في تأديبها بالضرب، وإعتبار زناها جريمة تفوق بكثير زنا الرجل، ومنحها قدرًا أكبر من الحُرية بعد بلوغها سن اليأس حين ينقضي إحتمال انجابها لأطفال من غير زوجها، ومنحها أجرًا هو دون أجر الرجل على عمل مساو لعمله، وكراهة نهوضها بدور سياسي أو اجتماعي بارز، واعتبارها لُعبة لا تصلُح إلا أداة لخدمة الرجل أو مُتعته وإشباع شهوته، كذلك فقد كان نظاما الحريم والحجاب معروفين سائدين في مُجتمعات آخرى سابقة على ظهور الإسلام، واستغلهما رجال الطبقة الثرية كوسيلة لإبراز مدى ثرائهم وجاههم وللاكثار من فُرص الاستمتاع الجنسي، والترفيه ومن النسل، وقد ورد في العهد القديم من الكتاب المُقدس ما يُشير إلى لبس النساء للنقاب حتى في حوالي القرن التاسع عشر قبل الميلاد: «ورفعت رفقة (ريبيكا) عينيها قرأت إسحاق، فأخذت البرقع وتغطت» (سفر التكوين ٢٤ : ٦٥)، وفي سفر اشيعا ٣ : ١٦ – ٢٣: «وقضى الله على بنات صهيون إذ يتشامخن ويمشين ممدودات الأعناق غامزات بعيونهن وخاطرات في سيرهن يخشخشن بأرجلهن، أن يعري عورتهن وينزع في ذلك اليوم زينة الخلاخيل والأساور والبراقع»، وفي العهد الجديد (الرسالة الأولى إلى أهل كورنتوس ١١ : ٧ – ١٠): «لا حاجة بالرجل إلى تغطية رأسه، فهو صورة الله ومرآة مجده، أما المرأة فمرآة لمجد الرجل، فالرجل ليس من المرأة، بل المرأة من الرجل، ولم يخلق الرجل من أجل المرأة، بل المرأة خُلقت من أجل الرجل، لهذا وجب على المرأة أن تلبس نقابًا على رأسها إحترمًا منها للملائكة»، ويتحدث بيرسي مولسوورث سايكس،صاحب كتاب “تاريخ فارس”،عن الفُرس وقت داريوس -أي قبل الفتح الإسلامي بحوالي ألف عام- فيقول: «كان تعداذ الزوجات مُشجعًا عليه، وكانت الطبقات العُليا تُحجب نسائها، فلا يظهرن للناس ولا يتنقلن أبدًا إلا في محفات ذات ستائر مُحكمة الإغلاق، ولم يكُن تعمل لهُن التماثيل أو الصور كما لم ترد أسماؤهن في النقوش الباقية لدينا من ذلك العهد أو بعده، أما نساء البدو فالغالب أنهُن لم يعرفن الحجاب، وأن حالهُن كان أفضل بكثير من حال النساء المُحجبات اللاتي لم يكُن يُسمح لهن حتى بإستقبال آبائهن وأخواتهن، فإن كانت هذه هي القاعدة العامة في الشرق ، فقد كان وضع المرأة في فارس أسوأ بكثير منه في الدول المحاورة، ولعل هذا من أسباب تدهور الإمبراطورية مؤامرات الخصيان ونساء الحريم المُسمى بالفارسية “أنديرون”، وكانت الفارسيات يترفعن عن القيام بأي عمل من الأعمال، وبالتالي فقد كُن أدنى شأنًا في هذا المقام من الاغريقيات اللواتي كُن رغم حجابهن يقضين يومهن في الغزل وغيره من الأعمال المنزلية، ويُلاحظ بوجه عام أن نسل البدويات الفارسيات كان أقوى من نسل المُحجبات»، أما في أوروبا فقد لبست نساء الإغريق والرومان النقاب للزينة، والتزمت عذاري معابدهم بلبسه خلال الإحتفالا الدينية، وقد ظلت البراقع الحمراء حتى عصر النهضة جُزءًا من زينة الرأس، تختار النساء لهُ أغلى الأقمشة الشفافة أو المُذهبة، ويتفنن في رصعه بالجواهر أو الأصداف أو الخرز حسب مكانة المرأة وحالتها الاجتماعية، وقد فرضت بعض نظم الرهبنة المسيحية لبس النقاب على الراهبات في مُناسبات مُعينة، كما كانت الفتيات يلبسنه في حفلات زفافهن حماية لجمالهن من الحسد، ولا يزال غطاء الوجه معروفًا إلى اليوم في أسبانيا في صورة المانتيلا، وفي المكسيك في صورة الروبوزو، والمؤكد على ضوء الشعر الجاهلي العربي، وما أوردته كُتب الأدب ككتاب «الأغاني» لأبي الفرج من قصص عن حياة العرب في الجاهلية، أن الحجاب كان سُنة مُرعية عند نساء الطبقة الغنية من سُكان المُدن، يتخذنه للزينة وللدلالة على الوضع الاجتماعي، وكان يُشار إليه بأسماء مثل «النصيف» و «الستر» و «السجف» وغير ذلك، أما نساء البدو فكن كنساء البدو في فارس يختلطن غير مُحجبات بالرجال في حُرية تامة، غير أن درجة إلتزام المُدن بالحجاب كانت تتفاوت من قبيلة إلى آخرى، وييدو أن قُريشًا (وهي قبيلة النبي، ومن أكثر قبائل العرب ثراء بفضل احترافها التجارة على نطاق واسع)، كانت من أكثر القبائل إلتزامًا به في الجاهلية، ويرى الفاكهي أن رجالها كانوا يُزينون بناتهم وإماءهم ويعرضونهن غير مُنقبات عند الكعبة لاجتذاب الأزواج أو المُشترين، حتى إذا ما أفلحن في مُهمتهن لم يُفارقن الحجاب بعدها قط.
القُرآن والحجاب.
في لسان العرب: الحجاب: الستر، وحجب الشيء: ستره، وقد أحتجب وتحجب إذا أكتن من وراء حجاب، وامرأة محجوبة: قد سترت بستر، والحجاب: اسم ما احتجب به، وكُل ما حال بين شيئين، وقد ورد لفظ «حجاب» في القُرآن سبع مرات بمعناه الأصلي والمجازي مما يُلقي ضوءًا على تطور استخدامه، كما ورد لفظ «محجوبون» مرة واحدة:
«كلا إنهم عند ربهم لمحجوبون».
(المُطففين ١٥).
أي لا يرونه ولا يرون شيئًا من كرامته، ومن أول إستخدام للمعنى في القُرآن (الفترة الملكية الأولى من ٦١٠ إلى ٦١٤م)، وجميع الآيات التي أستخدمت لفظ حجاب عدا واحدة وردت في السورة الملكية (أي قبل ما يُسمى بفرض الحجاب على النساء في العام الخامس الهجري)، وفيما يلي نصها على حسب ترتيب النزول:
«واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكانًا شرقيا، فاتخذتمن دونهم حجابًا.. »
(مريم ١٦ – ١٧).
نزلت في مُنتصف الفترة الملكية الثانية (٦١٤ – ٦١٥ م)، وهي هُنا تعني الاعتزال أو الستارة التي اعتزلت وراءها مريم أسرتها.
«إذ عرض عليه بالعشي الصافنات الجياد، فقال إني أحببتُ حب الخير عن ذكر ربي حتى توارت بالحجاب».
(ص ٣١ – ٣٢).
قيل في المعنى أن سُليمان كان يملك ألف حصان أسرها في حربة ضد دمشق وغيرها، وإذ استعرضها يومًا ألهاه إعجابه بها عن صلاة المغرب، فضحى بها جميعًا عدا مائة تكفيرًا عن ذنبه، نزلت في مُنتصف الفترة الملكية الثانية، والستر هنا هو بمعناه الصوفي: الناس والأشياء.
«وإذا قرأت القُرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابًا مستورا»
(الإسراء : ٤٥).
نزلت في آواخر الفترة الملكية الثانية، والمعنى عند البيضاوي حجاب يطمس على الكفرة فيعجزون عن فهم ما تتلوه عليهم من الآيات.
«وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب فأعمل إننا عاملون».
(فصلت : ٥).
نزلت في أوائل الفترة الملكية الثالثة (٦١٦ – ٦٢٢م)، والمعنى لا نفهمك ولا تفهمنا، فليعمل كُل منا وفق ما يعتقد أنه الحق.
«وما كان لبشرا أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب».
(الشورى ٥١).
نزلت في نحو مُنتصف الفترة الملكية الثالثة، والمقصود سماع الكلام دون مُشاهدة شيء، وحجب المُصطفين عن النور المنبعث من وجه الله.
«وبينهما حجاب، وعلى الأعراف رجال يعرفون كُل بسيماهم».
(الأعراف ٤٦).
نزلت في أواخر الفترة الملكية الثالثة، وتتحدث عن أصحاب الجنة وأصحاب النار يوم القيامة، إذ يُفرق بينهما سور أو حاجز، أما الآية المدنية الوحيدة التي ورد بها لفظ الحجاب فهي الآية ٥٣ من سورة الأحزاب التي نزلت في العام الخامس الهجري (تقريبًا إبريل عام ٦٢٧ م)، وهي:
« يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يأذن إلى طعام غير ناظرين إناه، ولكن إذا دعيتم فادخلوا، فإذا طعمتم فانتشروا ولا مستأنسين لحديث إن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحي منكم، والله لا يستحي من الحق، وإذا سألتموهن متاعًا فاسألوهن من وراء حجاب، ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن، وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا، إن ذلكم كان عند الله عظيما».
وحيثُ أن تلك الآية -كما هو واضح- خاصك بزوحات النبي وحدهن، فلا يُمكن من الآيات التي ذكرت لفظ الحجاب أن يُستدل على حجاب المُسلمات بصفة عامة، أما الآيات الآخرى وجميعها مدنية، التي تتناول مسلك النساء وهيئتهن، وهي:
«والقواعد من النساء التي لا يرجون نكاحًا فليس عليهن جناحًا أن يضعن ثيابهن غير متبرجات بزينة وأن يستعففن خير لهن»
(النور ٦٠).
فهنا أمر بالعفة ونهى عن التبرج لا غير.
ثُم آيتان أخريان هُما محور كُل حديث وكُل نقاش حول ما إذا كان القُرآن قد فرض الحجاب على المُسلمات عامةً، الأولى:
«يا أيها النبي قُل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن، ذلك أدنى أن يُعرفن فلا يؤذين».
(الأحزاب ٥٩).
والثانية: «وقُل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن، ويحفظن فروجهن ولا يُبدين زينتهن إلا ماظهر منها وليضربن بخُمرهن على جيوبهن،ولا يُبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بني اخواتهن أو نسائهن أو ما ملكت أيمانهن أو التابعين غير أولي الإربه من الرجال أو الطفل الذي لم يظهروا على عورات النساء ولا يضربن بارجلهن ليعلم ما يُخفين من زينتهن»
(النور ٣١).
نزلت في رمضان سنة ٥ هجريًا، فبراير ٦٢٧ م بمُناسبة حديث الافك، فهُنا أضيفت «نساء المؤمنين» و «المؤمنات» إلى أزواج النبي وبناته، ويقتصر الخلاف بين مؤيدي الحجاب ومُعارضيه على تحديد المقصود بعبارة «يدنين عليهن من جلابيبهن»، وعبارة (وليضربن بخمرهن على جيوبهن)، وتعريف الزينة التي أمر الله رسوله بأن يشير على المؤمنات بألا يُدنيها إلا لمحارمهن الذين لا يجوز لهن الزواج من أحدهم وللرقيق والأطفال.
وأيضًا آية: «يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن فلا تخضعن بالقول فيطمع الذيفي قلبه مرض وقلن قولًا معروفا، وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى، وأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله، إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس ويطهركم تطهيرا،واذكرن مايتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة إن الله كان لطيفًا خبيرا».
(الأحزاب ٣٢ – ٣٤).
ف هي خاصة بنساء النبي.
التفسير، وأسباب النزول.
وأبدأ فأنبه إلى أن الأمر في هذه الآيات لا يتجاوز حد النُصح إلى التحريم، ولا هي بالتي تنُص على عقوبة لمن خالف، لا في الدُنيا ولا في الآخرة، فالأمر هُنا كالأمر في آية:
«ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو».
(البقرة ٢١٩).
وآية: «قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله».
(الجاثية ١٤).
وآية: «وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن».
(الإسراء ٥٣).
وغيرها، وقد ورد في الآيتين ١٥١ و ١٥٢ من سورك الأنعام بيان بما حرمه الله: «قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم.. ».
ولم يُشر فيهما إلى تحريم لإبداء الزينة، يقول الجاحظ في كتاب «القيان»: «كُل شيء لم يوجد مُحرمًا في كتاب الله وسنك رسوله فمُباح مُطلق، ولم نعلم للغيرة في غير الحرام وجهًا، ولم يكُن بين رجال العرب ونسائها حجاب، كانوا يجتمعون على الحديث والمسامرة بأعين الأولياء وحضور الأزواج، لا ينكرون ما ليس بمنكر إذا آمنوا المنكر، حتى لقد حسك (الحسك: الحقد) في صدر أخي بثينة من جميل ما حسك من استعظام المؤانسة، وشكا ذلك إلى زوجها، فكمنا لجميل عند اتيانه بثينة، فلما دنا لحديثه وحديثها سمعاه يقول مُمتحنًا لها: هل لك فيما يكون بين الرجال والنساء فيما يشفي غليل العشق ويُطفيء ثائرة الشوق؟ قالت: لا، فالحُب إذا نكح فسد، فأخرج سيفًا قد كان أخفاه تحت ثوبه وقال: أما والله لو أنعمت لي لملأته منكِ، فلما سمع زوج بثينة وأخوها ذلك وثقا بغيب جميل، وركنا عفافه، وأباحاه النظر والمُحادثة»، «فلم يزال الرجال يتحدثون مع النساء في الجاهلية والإسلام، حتى ضرب الحجاب على أزواج النبي خاصةً، ثُم كانت الشرائف يقعدن للرجال للحديث، ولم يكُن النظر من بعضهم إلى بعض عارا في الجاهلية، ولا حرامًا في الإسلام، ثُم لم يزل للملوك والأشراف إماء يختلفن في الحوائج، ويدخلن في الدواوين، ونساء يجلسن للناس، فما أنكر ذلك مُنكر ولا عابه عائب، والدليل على أن النظر إلى النساء كُلهن ليس بحرام، أن المرأة المنعسة تبرز للرجال فلا تحتشم من ذلك، فلو كان حرامًا وهي شابة لم يحل إذا عنست، ولكنه أمر أفرط فيه المعتدون حد الغيرة إلى سوء الخلق، وضيق العطن، فصار عندهم كالحق الواجب»، فأما آية:
«يا آيها النبي قُل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن، ذلك أدنى ألا يُعرفن فلا يؤذين».
فقد فسرها الواحدي صاحب أفضل كتاب في أسباب نزول القُرآن، بقوله: «نزلت في الزناة الذين كانوا يمشون في طرق المدينة يتبعون النساء إذا برزن بالليل لقضاء حوائجهن، فيرون المرأة فيدنون منها فيغمزونها، فإن سكتت اتبعوها، وإن زجرتهم إنتهوا عنها، ولم يكونوا يطلبون إلا الإماء، ولكن لم يكُن يومئذ تعرف الحُرة من الأمة، إنما يخرجن في درع وخمار، فشكون ذلك إلى أزواجهن، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى هذه الآية.. فكان فساق المدينة يخرجون، فإذا رآوا المرأة عليها قناع قالوا: هذه حُرة فتركوها، وإذا رآوا المرأة بغير قناع قالوا: هذه أمك، فكانوا يراودونها»، فحكمة الأمر هُنا هي التمكين من التفرقة بين الحرائر والإماء، وحماية الحرائر من عبث العابثين ليلًا في طُرقات المدينة، ويؤيد هذا التفسير ما يحكى عن عمر بن الخطاب من أنه ضرب أمة بسوطه إذ رآها تتشبه في لباسها بالحرائر، وغنى عن القول أن العلة قد زالت في عصرنا هذا بتحرير الرقيق، وأما عبارة:
«وليضربن بخمرهن على جيوبهن».
فإن الجيب هو موضع الصدر، أو موضع الفتحة من القميص عند الصدر، يقول الزخمشري في «الكشاف»: «كانت جيوب النساء واسعة تبدو منها نحورهن وصدورهن وما حواليها، وكن يسدلن الخمر من ورائهن فتبقى مكشوفة، فآمرن بأن يسدلنها من قدامهن حتى يغطينها»، فالمقصود إذن هو تغطية الصدر، وأما عن تعريف الزينة فقد قال القرطبي: «أختلف الناس في قدر ذلك، فقال ابن مسعود ظاهر الزينة هو الثياب، وزاد ابن جبير الوجه، وقال الأوزاعي الثياب والوجه والكفان، وقال ابن عباس بل إلى نصف الذراع.. »، فالواضح أن الأمر كان بين الأقدمين موضع خلاف، وما كان موضع خلاف بين الأقدمين فمن حقنا أن نخالفهم بصصده، وأن تأتي بتعريف للزينة الباطنة التي يمكن أن يؤدي ابدؤها بأبناء عصرنا هذا إلى الافتنان الذي قصد القرآن إلى الحيلولة دونه، أما القول بأن الخمار هو غطاء الرأس، وبالتالي فإن الضرب به على الجيوب يعني بالضرورة ستر الوجه كله، فقول مردود فالخمار لغة هو كل ما ستر، وإنما سمي الخمر خمرا لأنه يحجب العقل، ولو كان القصد من الآية هو إسدال غطاء الرأس بحيث يخفي الوجه والنحر والصدر جميعًا، لما ذهبت غالبية المفسرين إلى جواز إظهار الوجه، كذلك فإن التشدد في تعريف باطن الزينة هو كما وصفه الجاحظ، من قبيل التعدي وسوء الخلق، وضيق العطن، وقد ذهب البعض إلى أن المقصود بالإخفاء هو الجبين وحده كعلامة على أن المرأة من المُحصنات فيحجم الرجال عن مضايقتهن، وعلى أي الأحوال فقد كانت كُل من سكينة بنت الحسين بن علي، وعائشة بنت طلحة بن عبيد الله رضي الله عنهما من السافرات، ولم يطعن أحد في دينهما، وكان للنساء حتى القرن الثالث الهجري -وربما بعد ذلك أيضًا- حق الصلاة في المساجد مع الرجال، غير أن المُفسرين الأولين للقرآن، -وجلهم من فارس التي عرفت الحجاب الكثيف للمرأة قبل الإسلام بأكثر من ألف عام- طالبوا المرأة بأكثر مما طالبهن به القرآن (أنظر كتاب «حوادث الدهور» لابن تغري الذي ينسب إلى المفسرين الفرس نشأة نظام الحريم في الإسلام)، وفرضوا على كُل نساء المُسلمين ما فرضه القرآن على نساء النبي وبناته على أساس أنه من المرغوب فيه إتباع سنته، وإتباع المُسلمات لسُنة أزواجه، لقد أستقر لدى المُسلمين مُنذ بداية مبدأ جواز العمل بالعرف في الأمور التي لم يرد فيها نص من القرآن أو السُنة، فما بات للفُرس السيادة في ظل الدولة العباسية، وأقبل عُلماؤهم على الاشتغال بعلوم التفسير، والحديث والفقة، حتى بدأ يشبع بين المُسلمين المفهوم الفارسي القديم عن وضع المرأة وعن الحجاب وعن نظام الحريم، إلى أن أستقر في أذهانهم أنها نظم وثيقة الصلة بالدين، وأن الإسلام قد قضى بها أوقرها، وقد ساعد على شيوع هدا المفهوم بعد ذلك رضا المفسرين العرب للقرآن عن التفسير الفارسي الصميم للآيات التي سبق ذكرها لما فيه من تعزيز لسُلطان الذكر على الأنثى، ولما يتيحه للرجال المعانين من عواقب الاستبداد السياسي السائد في دولتهم من فرص التنفيس عن هذه المُعاناة بفرضهم استبدادا صائلًا في مُحيط الأسرة، ولا أدل على رسوخ هذا المفهوم بضي الوقت في أذهان المُسلمين، من تلك الصدمة التي كانوا يُصابون بها متى دخلوا في أسفارهم أقطارا تتمتع نساؤهم بالحُرية التي أشاد الجاحظ بها، ولا يعرفن نظام حجاب أو نظام حريم، يقول أبن بطوطة في وصف رحلة إلى مدينة ايوالاتن في صحراء المغرب:
«وشأن هؤلاء القوم عجيب، فأما رجالهم فلا غيرك لديهم، وأما نساؤهم فلا يحتشمن من الرجال، ولا يحتجبن مع مواظبتهن على الصلوات، وقد يكون لهن أصدقاء والأصحاب من الرجال الأجانب، وكذلك للرجال صواحب من النساء الأجنبيات، ويدخل أحدهم داره فيجد أمرأته ومعها صاحبها فلا ينكر ذلك.. دخلت يومًا على القاضي بعد إذنه في الدخول، فوجدت عنده امرأة صغيرة السن، بديعة الحسن، فلما رأيتُها أردت الرجوع، فضحكت صاحبتي، فعجبتُ من شأنهما، فإنه من الفُقهاء الحجاج وقد أخبرتُ المرأة مني ولم يُدركها خجل، وقال لي القاضي: لم نرجع؟ أنها أنه استأذن السُلطان في الحج في ذلك العام مع صاحبته، لا أدري أهي هذه أم لا.. ودخلتُ يومًا على أبي محمد المسوفي، فوجدته قاعدًا على بساط، وفي وسط داره أريكة مُظللة عليها امرأة معها رجل قاعد، وهُما يتحدثان، فقلت لهُ: من هذه المرأة؟ قال: هي زوجتي، قلت: وما الرجل الذي معها؟ قال: هو صاحبها، فقلت لهُ: أترضى بهذا وأنت قد سكنت بلادنا وعرفت أمور الشرع؟ قال: مُصاحبة النساء للرجال عندنا على خير طريقة، لا تُهمة فيها، ولست نساؤنا كنساء بلادكم، فعجبت من رعونته وانصرفت عنه، فلم أعد إليه بعدها، وأستدعاني مرات فلم أجبه.. وهم مع ذلك مُسلمون مُحافظون على الصلوات وتعلم الفقة، وحفظ القُرآن».
النهاية.
وهكذا نجح فُقهاء الفُرس ثُم الأتراك من بعدهم ومن تابعهم من المُفسرين العرب، في إيهام عامة المُسلمين بأن تفسيرهم المنبثق عن التقاليد الفارسية أو التركية القديمة، أو عن مصلحة رجال العرب جُزء لا يتجزأ من الإسلام، ومنبثق عن القرآن، وقد لجأوا جميعًا من أجل تعزيز تفسيرهم إلى اختراع الأحاديث التي نسبوها إلى النبي، والقصص التي أقحموها في سيرته، مما يقضي بحجاب المرأة مثل: «دخلت أسماء بنت أبي بكر على رسول الله وعليها ثياب رقاق، فأعرض عنها النبي وقال لها: يا أسماء، إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يُرى منها إلى هذا وهذا، وأشار إلى وجهه وكفيه»، ولمن الشيق حقًا أن نُلاحظ أنه في حين تمكنت الحكومات والمجالس التشريعية في الدول الإسلامية بسهولك بالغة، ودون أدنى حاجة إلى تبرير وإيضاح من سن التشريعات والقوانين المدنية والتجارية والجنائية التي لا صلة لها بما نص القرآن عليه في هذه المجالات، كان كُل تعديل مهما هان شأنه في قانون الأحوال الشخصية، مما يستوجبه تطور الظروف وأحوال العصر، يلقى مُعارضة ضارية وغضبًا عارمًا كثيرًا ما أفلحا في تعطيله أو إلغائه، والسبب في ذلك، في رأينا.. هو أن مُعظم الطبقات وجدت في تطوير التشريعات المدنية والتجارية ما يخدم مصالحها، وفي تطوير الأحكام الجنائية ما لا يمُس مصالحها من بعيد أو قريب، فدفعها ذلك إلى تجاهل مناقضتهما للأحكام القرآنية، أما التخلي عن المفاهيم الفارسية أو التُركية التي تجعل من المرأة أسيرة في قبضة الرجل وفي حُكم الأمة لهُ، وهو ما يعني -كما سبق القول- تخلي الرجل في مُجتمعنا عن المجال الوحيد المُتبقي لهُ لممارسة سُلطانه واستبداده، والتنفيس عما يشعُر به من قهر سياسي واجتماعي واقتصادي، فقد رآه الرجال وثيق الصلة بالإسلام واعتبروا مقاومته واجبًا مُقدسًا يحتمه الدين، لذلك «الحجاب ليس فرض».
الكاتب
-
جوني ويليام آرثر
كاتب وروائي مصري من مواليد مدينة المحلة الكُبرى، صدر لهُ رواية داليدا عام 2020 ورواية المجدلية عام 2022 عن دار الفؤاد للنشر والتوزيع، كتب في عدة مواقع، كساسة بوست، وعربي بوست.