همتك نعدل الكفة
204   مشاهدة  

حفلات التخرج ومقام العلم.. هل يتضادان؟

حفلات التخرج


توقفت مُتفكرةً لبعض الوقت عند العديد من مقاطع الفيديو وأنا أتصفح مواقع التواصل الاجتماعي المغزوة بفيديوهات حفلات التخرج، في العادة تأسرني هذه المشاهد وتعيد إلى الحنين لهذه الذكريات التي لا مثيل حيث يشعر الإنسان بالفخر بنفسه كونه استطاع إكمال مسيرة تعليمية ليست بالهينة بل واجه فيها الكثير من الصعاب والسهر من أجل الوصول إلى الغاية وها هو تمكن من إنجاز ذلك، علاوة على أنه تمكن من مكافأة والديه وإدخال السرور على قلبيهما بعد أن بذلا الغالي والثمين في سبيل توفير كافة السبل لتمر هذه المراحل التعليمية بسلاسة بعض الشيء، وكانا طوال هذه المدة هما كالسند الذي يدفعك للأمام لكي تقوى على الاستمرارية دون الاكتراث ببعض الإخفاقات المُقدرة.

 

لكن ما استوقفني في هذه الفيديوهات هو رقص الفتيات وتمايلهن كنوع من أنواع التعبير عن الفرحة في هذه المناسبة، وارتدائهن ملابس متكشفةً بعض الشيء، موقفي هنا ليس من باب التنظير أو الحجر على تصرفاتهن التي قد تكون عفوية بطبع سعادتهن، ودعونا نجعل للحرية مكان في الأمر فكل راشدٍ له مطلق الحرية في أفعاله واختياراته طالما لا يسبب بضررٍ لأي أحد، بل إن تفكُري نابع من إيماني بأن مقام العلم من الواجب توقيره دائمًا وأبدًا في أي حال يكون الإنسان عليها سواء فرحٍ أو حزن، غير أنه من المفترض احترام أساتذتنا والقائمين على تعليمنا كالدكاترة الجامعيين الذين هم في مقدمة الحضور بحفلات التخرج من أجل تكريم تلاميذهم.

ولا أقصد ألبتة إخفاء مظاهر البهجة والسرور بل بالعكس فمن حق الخريجين أن يفرحوا ويشاركوا أهليهم وأصدقائهم وأساتذتهم الفرحة ويقولوا للعالم أجمع “ها نحن ذا ” لإتمامهم مرحلة كانت هي الأهم والأثمن في حياتهم فقد أبحروا خلالها في علوم شتى ومروا بتجارب اجتماعية وعلمية كثيرة جعلت منهم أناسًا في كامل الاتزان، يمكنهم الفصل بين الأمور والتفكير في كل ما يقدمون على فعله فيسأل كل واحد منهم نفسه “هل يصح، ما الفائدة، أين المكان المناسب لفعله، ماذا يحدث لو لم أقم به، كيف يمكنني فعله حتى يكون لائقًا بي وبمن حولي وبالمكان الذي أتواجد به!!!!

 

وأسمح لي عزيزي القارئ في هذا المقال أن أضرب العديد من الأمثلة لتُقرب المشهد واستحضر خيالك معي فيما سأطرحه من نماذج مشابهة لكن في مجال العمل، تخيل معي أن يكون هناك اجتماع هام مع مديرك في العمل من أجل ترقية بعض الموظفين لإنجازٍ قدموه أو لأي سببٍ كان، وفور إعلان المدير عن اسم إحدى زميلاتك لحصولها على الترقية قامت من فرط سرورها بالرقص أو إظهار فرحها بشكل ملفت للأنظار سواء بالزغردة أو الضحك عاليًا، هذا الموقف لن يمر على أحد مرور الكرام ولن يتم تبريره بأنه كان عفويًا، فحسب الأصول هناك “أتيكيت” للتعامل في محيط بيئة العمل يجب أخذه في الاعتبار احترامًا لهذا المقام، فما بالك بمقام العلم والعلماء.

 

ليس هناك داعي أن اذكرك بالبيت الشهير “قُم لِلمُعَلِّمِ وَفِّهِ التَبجيلا.. كادَ المُعَلِّمُ أَن يَكونَ رَسولا”، ولنا في الصحابة والتابعين أسوة فقد قال الإمام علي بن أبي طالب – رضي الله عنه -: (إن من حق العالم عليك: أن تسلِّم على القوم عامة وتخصه بالتحية، وأن تجلس أمامه، ولا تعينه في الجواب، ولا تطلبن عثرته، وإن زل قبلت معذرته، ولا تقول له سمعت فلاناً يقول كذا ولا أن فلاناً يقول بخلافك، ولا تضعن عنده عالماً، فإنما هو بمنزلة النخلة تنتظر متى يسقط عليك منها شيئاً).(1)

ويُذكر عن عبد الله بن عباس – رضي الله عنه – أنه كان يأخذ بركاب زيد بن ثابت – رضي الله عنه -، ويقول: (هكذا أُمرنا أن نفعل بعلمائنا)، لا أن نتمايل أمامهم كما يحدث بحفلات التخرج تلك، كما ذُكر أن الإمام الشافعي – رضي الله عنه – كان يقول: (كنت أُصفح الورق بين يدي الإمام مالك صفحاً رقيقاً هيبة لئلا يسمع وقعها)، أيُ توقيرٍ هذا!
وللإيضاح لفظ العالِم ليس معنيًا به العالِم بعلوم الشرع والدين بل أي امرئٍ لديه مخزون علمي في أي منهل من مناهل العلوم سواء الدنيوية أو الآخروية، وتعمق فيه حتى أصبح يفوق فئة كبيرة ممن حوله في هذا المجال.

ولقد ربطنا دائمًا بين العلم والتأدب، حتى أننا من صغرنا نشأنا على أن الوزارة المختصة بمقام العلم تدعى التربية والتعليم، وكلنا لاحظنا بالتأكيد أن التربية أي تعليم الآداب ومبادئ الاحترام وما يصح وما لا يصح سبقت التعليم وهذا ليس عبثًا، بل إننا كثيرًا ما سمعنا هذا القول “العلم يهذب صاحبه”، أي يُقوم النفوس ويهذبها ويجعل المرء أكثر وعيًا وإدراكًا بما يقول و يفعل، حتى يكون من السهل التفريق بين صاحب العلم ومن هو في ظلمات الجهل بسَمْته وخُلقه.

 

وفي سبيل توقير محل العلم اعتادت الجامعات وضع لوائح وضوابط معينة للملابس التي يرتديها الطلاب والطالبات داخل الحرم الجامعي، ليس هذا من التشدد الديني أو وجود فجوة فكرية بين الطلاب والواضعين لهذه القواعد، بل هو يرجع أيضًا إلى ضرورة الفصل بين ما يليق بمقام العلم وما لا يليق، وهنا سأضرب مثالًا آخر لكن بالرجال فالأمر لا يقتصر على الفتيات فقط بل القاعدة تعم الجميع، تخيل معي أن تكون جالسًا في شركتك التي تعمل بها أو مكان عملك أيً كانت وظيفتك، ولمحت أحد زملائك يتمختر في مشيته مرتديًا ملابس رياضية “تيشرت رياضي وشورت” ولا يأبه بنظرات الناس من حوله، حتمًا ستتعجب وتستنكر هذا الفعل ولو كان هذا الشخص مُقربٌ إليك ستوبخه على فعلته، رغم أنك مقتنع تمامًا بحرية كل شخص في أفعاله، كما أنك قد تكون من المحبين لارتداء الملابس الرياضية لكنك تقوم بذلك حينما تكون ذاهبًا في نزهة أو إلى الصالة الرياضية “الچيم” أو النادي، وهذا يرجع لسبب أساسي وهو أنه “لكل مقام مقال”.

 

إقرأ أيضا
الدكتور شريف فاروق وزيرا للتموين

وصل بنا الحال إلى أننا “نتفنن في ركوب الترند” في حفلات التخرج، فبعد تفاعل الكثير من رواد السوشيال ميديا على فيديو الفتاة النوبية التي رقصت على أغنية تعود لثقافتهم بين مؤيد ومعارض ثم تحدثت عن السبب الذي دفعها لفعل ذلك وهو ترك ذكرى جميلة من تراث بلدها لأصدقائها، انهالت علينا فيديوهات مطابقة دون أي ابتكار غير أن فتاة أخرى ترقص على أغنية تعود لثقافة أخرى فتلك صعيدية وتلك أسوانية وهكذا.

وبحُكم عمري الذي يقرب من هذه الفئة العمرية فإني مطلعة بشكل أكبر على كل ما هو جديد في عالم الخريجين، لذا أحب أن أُطلعك قارئي العزيز على أن هناك يوم يُقام قبل حفلات التخرج نطلق عليه “الفان داي” وهو يوم يجتمع فيه أصحاب “الدفعة” الواحدة في مكان خارج الحرم الجامعي بغرض التنزه والترفيه وقضاء أوقات ممتعة مع أصدقاء الدراسة لتكون ذكرى من أروع ما يكون، حيث لا قيود فأنت بين أصدقائك وليس هناك من هُم أكبر عمرًا أو علمًا للتكلف أو وجوب التوقير لمقامه، وهنا أتساءل “لما لا تصنعون كل هذه الذكريات كما تشاءون في يوم كهذا دون أي انتقاص من مقام العلم وأهله!

(1) كتاب مختصر منهاج القاصدين ، ص25.

 

الكاتب






ما هو انطباعك؟
أحببته
4
أحزنني
0
أعجبني
2
أغضبني
0
هاهاها
0
واااو
5


Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
‫إظهار التعليقات (2)

أكتب تعليقك

Your email address will not be published.







حقوق الملكية والتشغيل © 2022   كافه الحقوق محفوظة
موقع إلكتروني متخصص .. يلقي حجرا في مياه راكدة

error: © غير مسموح , حقوق النشر محفوظة لـ الميزان