حكاية آية (5).. سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا
-
عمرو عاشور
روائي وكاتب مقال مصري.. صدر له اربع روايات بالإضافة لمسلسل إذاعي.. عاشور نشر مقالاته بعدة جرائد ومواقع عربية منها الحياة اللندنية ورصيف٢٢.. كما حصل على عدة جوائز عربية ومنها جائزة ساويرس عن رواية كيس اسود ثقيل...
كاتب نجم جديد
في منتصف الدعوة السرية، وتقريباً في العام الخامس قبل الهجرة، وقيل في عام الحزن وبعد وفاة السيدة خديجة، وقيل في السنة الحادية عشر من البعثة، وقيل في الثانية عشر من البعثة ..
كان الضغط قد تزايد على أهل الكتاب، وخاصة اليهود، فـ أهل قريش – رغم عدم تصديقهم لرسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم إلا أن الفضول كان يجذبهم نحو حكاية من حكاياته عن أمم مضت وحضارات هلكت وأنبياء لم يكن يعرفوا عنهم شيئاً.. ثم جاء النبي محمد وأتباعه ليكشفوا الغطاء عن تاريخ مخفي.. مخفي بالنسبة للعربي القرشي أما أهل الكتاب فقد كان لديهم علم بتلك القصص وبالأنبياء ومعجزاتهم ونشأتهم ورسالتهم كذلك.. وهو ما دفعهم للتساؤل والاندهاش: أين هي معجزات محمد؟ ثم.. هذه الأرض لم يخرج منها نبي من قبل! فـ لماذا هو؟ وما دليله؟
في وسط هذا التشكيك العنيف جاءت ليلة الإسراء والمعراج. ليس لتضع حد لهذا الشك المبين ولكن لتزيد الأمور تعقيداً.. وهي الواقعة التي لا تزال حتى اليوم منبع الاختلاف بين الفقهاء، كما كانت محور اختلاف بين الصحابة أنفسهم..
يحدثنا أبي سعيد الخدري عن هذا الواقعة قائلا: “حدثنا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عن ليلة أسري به.
قال النبي – صلى الله عليه وسلم – : “أتيت بدابة هي أشبه الدواب بالبغل له أذنان يضطربان وهو البراق الذي كانت الأنبياء تركبه قبل فركبته فانطلق..
تقع يداه عند منتهى بصره، فسمعت نداء عن يميني “يا محمد على رسلك حتى أسألك”.
فمضيت ولم أعرج عليه ثم سمعت نداء عن “يساري يا محمد على رسلك”.
فمضيت ولم أعرج عليه ثم استقبلتني امرأة عليها من كل زينة الدنيا رافعة يديها تقول: “على رسلك حتى أسألك”.
فمضيت، ولم أعرج ثم أتيت بيت المقدس الأقصى، فنزلت عن الدابة فأوثقته في الحلقة التي كانت الأنبياء توثق بها ثم دخلت المسجد وصليت فيه، فقال لي جبريل – عليه السلام – “ما سمعت يا محمد”.
فقلت: “نداء عن يميني يا محمد على رسلك حتى أسألك فمضيت ولم أعرج”.
فقال: “ذلك داعي اليهود ولو وقفت لتهودت أمتك”.
قال: “ثم سمعت نداء عن يساري على رسلك حتى أسألك فمضيت ولم أعرج عليه”.
فقال: “ذلك داعي النصارى أما إنك لو وقفت لتنصرت أمتك”
قال: “ثم استقبلتني امرأة عليها من كل زينة الدنيا رافعة يديها تقول على رسلك فمضيت ولم أعرج عليها”.
فقال: “تلك الدنيا.. لو وقفت لاخترت الدنيا على الآخرة”.
قال: “ثم أتيت بإناءين أحدهما فيه لبن والآخر فيه خمر، فقيل لي: خذ فاشرب أيهما شئت فأخذت اللبن فشربته”.
فقال لي جبريل: “أصبت الفطرة، ولو أنك أخذت الخمر غوت أمتك”.
ثم جاء بالمعراج الذي تعرج فيه أرواح بني آدم فإذا هو أحسن ما رأيت أولم تروا إلى الميت كيف يحد بصره إليه فعرج بنا حتى أتينا باب السماء الدنيا فاستفتح جبريل فقيل: “من هذا؟”
قال: “جبريل”.
قالوا: “ومن معك؟”.
قال: “محمد”.
قالوا: “وقد أرسل إليه؟”.
قال: “نعم”.
فـفتحوا لي وسلموا علي وإذا ملك يحرس السماء، يُقال له إسماعيل معه سبعون ألف ملك مع كل ملك مائة ألف، قال: “وما يعلم جنود ربك إلا هو”.
ثم مضينا إلى السماء الخامسة وإذا أنا بهارون بن عمران المحب في قومه وحوله تبع كثير من أمته. فـوصفه النبي – صلى الله عليه وسلم – وقال: “طويل اللحية تكاد لحيته تضرب في سرته”.
ثم مضينا إلى السماء السادسة فإذا أنا بموسى فسلم علي ورحب بي – فوصفه النبي – صلى الله عليه وسلم – فقال: “رجل كثير الشعر ولو كان عليه قميصان خرج شعره منهما”.
أما ابن عباس فـ لديه رواية مشابهة حيث يقول” قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – : بينما أنا نائم في الحجر إذ أتاني آت فحركني برجله، فاتبعت الشخص فإذا هو جبريل – عليه السلام – قائم على باب المسجد معه دابة دون البغل وفوق الحمار وجهها وجه إنسان وخفها خف حافر وذنبها ذنب ثور وعرفها عرف الفرس.
فلما أدناها مني جبريل – عليه السلام – نفرت ونفشت عرفها فمسحها جبريل – عليه السلام – وقال:
“يا برقة لا تنفري من محمد فوالله ما ركبك ملك مقرب ولا نبي مرسل أفضل من محمد – صلى الله عليه وسلم – ولا أكرم على الله منه”.
قالت: “قد علمت أنه كذلك وأنه صاحب الشفاعة وإني أحب أن أكون في شفاعته”.
فقلت: “أنت في شفاعتي إن شاء الله”.
في الحقيقية الواقعة تكتظ بوقائع عديدة ومثيرة منتشرة في صحيحي البخاري ومسلم.. ففي رحلة الصعود تلك يقابل النبي محمد صلى الله عليه وسلم الأنبياء إلى أن يصل إلى سدرة المنتهي، وهناك يأتي فرض الصلاة.. بعدها ينزل إلى بيت المقدس ويربط البراق ويصلي إماماً بجميع الأنبياء ثم يعود إلى فراشه قبل الفجر..
تلك الحكاية استقبلها العرب باستهجان واستهزاء عظيم، بالطبع العقول وقتها لم تستوعب تلك الرحلة.. كيف صعد إلى السماء ثم عرج إلى بيت المقدس وعاد إلى مكة قبل شروق الشمس؟ تلك التساؤلات دفعت الكثير منهم، حتى المؤمنين للتشكك فيما يقوله النبي.. حتى أن بعض الكفار اختبروه: “إن كنت صادقا فخبرنا عن عيرنا أين لقيتها؟”. كانت وعيرهم ببيت المقدس وفي طريقها بمكة.
قال النبي: “بمكان كذا وكذا مررت عليها ففزع فلان”.
فقيل لهذا الفلان: “ما رأيت يا فلان؟”
قال: “ما رأيت شيئا ! غير أن الإبل قد نفرت”.
قالوا: “فأخبرنا متى تأتينا العير؟”
قال: “تأتيكم يوم كذا وكذا”.
قالوا: “أية ساعة؟”
قال: “ما أدري، طلوع الشمس من ها هنا أسرع أم طلوع العير من ها هنا”.
فقال رجل: “ذلك اليوم؟ هذه الشمس قد طلعت”.
وقال رجل: “هذه عيركم قد طلعت”.
واستخبروا النبي – صلى الله عليه وسلم – عن صفة بيت المقدس فوصفه لهم ولم يكن رآه قبل ذلك.
ورغم ذلك ظل التشكيك هو السائد بين الناس المؤمن والقرشي وحتى أهل الكتاب.. فـ أهل الكتاب لم يتوقفوا عند كيفية حدوث الرحلة إنما فيما جري في الرحلة نفسها التي توضح بلا شك قدسية النبي محمد صلى الله عليه وسلم في السماء، وكيفية تقدير كافة المخلوقات له سواء دابة كـ البراق أو ملاك، حتى الأنبياء أصبح هو أمامه، وقد ميزه الله وكرمه بالوقوف أمامه بسدرة المنتهى.. تلك الحكاية بالتأكيد لم تنال إقبال أهل الكتاب، خاصة أنها أغرب معجزة حدثت على الإطلاق.. فـ من عادة المعجزات أن تحدث أمام من كفر بالنبي، وفي الغالب يكون التحدي فيما يعجز هؤلاء القوم. فـ نوح له طوفانه الذي شاهده أهل عصره، وموسي بعصاته يقهر سحرة فرعون أمام الجميع، وصالح وناقته، وسليمان وعفاريته.. أما تلك المعجزة فـلم تقنع عقول أهل الكتاب أبداً.. خاصة أن المراد من المعجزات أن يحل اليقين محل الشك.. وهو ما لم يحدث مطلقاً.
ولهم الحق، فـ المؤمنين أنفسهم انتابهم شك عظيم حول تلك الواقعة التي لا نعرف متى وقعت تحديداً..
ولكن، هذا الشك لم ينتاب أبو بكر للحظة كان يدافع عن صاحبه قائلاً: “إني أصدقه في أعظم من ذلك، أصدق أن هناك ملاك يتنزل عليه من السماء”..
وبذلك لُقب بـ الصدّيق.. الصديق/ الصداقة/ الصدق.. كلها كلمات مشتقة من الصفة ذاتها.. الصديق/ الصاحب المُصاحب لصديقه والمؤمن به وبرسالته.. إنه الصاحب الذي ذُكر في القرآن بصفته كصاحب.. ولكن، تلك حكاية أخرى.
الكاتب
-
عمرو عاشور
روائي وكاتب مقال مصري.. صدر له اربع روايات بالإضافة لمسلسل إذاعي.. عاشور نشر مقالاته بعدة جرائد ومواقع عربية منها الحياة اللندنية ورصيف٢٢.. كما حصل على عدة جوائز عربية ومنها جائزة ساويرس عن رواية كيس اسود ثقيل...
كاتب نجم جديد