د. ريهام شُعير تعود بـ “العيّلة الرخمة” لحفلة الصوت والضوء !
-
مريم المرشدي
كاتب برونزي له اكثر من 100+ مقال
كنت في طفولتي مثالًا صارخًا “للعيّلة الرخمة”، وربما تظن يا صديق أن كلمة “صارخًا” قد جائت في سياقها الطبيعي والعادي، بمعنى هائل أو واضح أو مكشوف، ولكنني أعني أنني وأنا طفلة كنت أصرخ وأبكي لأجل أي سبب تافه، فعلى سبيل المثال كنت أصرخ وتنسال دموعي أنهارًا وأدبدب بقدمي على الأرض بسبب وجود تلك الفتلة (جزء صغير من الخيط) في جوارب القدم أو الكولونات (جمع كولون-جورب طويل) التي عادة ما يرتديها الأطفال، أو بسبب هذه الماركة في ياقة القميص المدرسي، والتي كانت أمي رحمها الله تجلس لتقصها من جذورها حتى تتفادى وصلة الصراخ المتواصلة، وذلك لأنها كانت تضايقني في قفايا (الماركة وليست أمي بالطبع).
كان النكد الأورجانيك من سماتي حتى في أكثر اللحظات سعادة وبهجة وفرحة، وحين سافرنا أنا وأسرتي لرحلة الأقصر وأسوان في أوائل الثمنينات (لم أكد أتم السادسة من عمري حينها) كنت اتلذذ في الترخيم على والديّ رحمهما الله وغفر لهما، وتمر على عقلي بعض ذكريات مشوشة عن وصلة البُكاء العاتية التي انتابتني لأن المشرفين قد قاموا بنقل غرفتنا من غرفة واسعة إلى غرفة أضيق في فندق وينتر بالاس حيث كانت إقامتنا، وكذلك غلاستي في الزن الطفولي السخيف، وذلك لأنني كنت أريد أن اجلس في مقعد بمفردي في الأوتوبيس المخصص لرحلات الإنتقالات الداخلية، ولكن ما لا يمكنني نسيانه حقًا سيمفونية الصراخ والجاعورة التي فُتحت من أعماق حلقي في حفلة الصوت والضوء بمعابد الكرنك، الأمر الذي اضطر معه والداي أن يرحلا بي، حاملين إياي أنا وإسراء شقيقتي، وقد أُجبرا على ألا يحضرا العرض، وسط صريخي وبكائي اللذان انتقلا بالعدوى إليها، واليوم جئت أعتذر لهما، وجئت أعترف بأنني كنت اتحجج بالخوف من الأصوات المهيبة العالية، ولكنني في أعماقي أقر بأن النعاس كان يغلبني وبأنني كنت اريد النوم !
ظلت ذكرى الصوت والضوء عالقة في ذهني، وظلت أصوات الفنانين في مخيلتي، فقد كان واحد من أحلامي البعيدة ان أعود لزيارة معابد الأقصر، وأن أتذوق الأسماك في أسوان مرة أخرى، وبقيت الأمنية عسيرة المنال والأهم هي أن أحضر عرض الصوت والضوء بمعابد الكرنك. وبعد ما يزيد عن 38 عامًا تحققت أحلامي وأمنياتي على يد الجميلة جدًا د. ريهام شُعير الأمين العام لنقابة الطب البيطري بالبحيرة وصديقة شقيقتي د. إسراء المرشدي.
ندخل جموعًا جموعًا في طريق الكِباش، جلال وهيبة، رهبة ومجد، فخر وخشوع، دهشة وسعادة، مشاعر مختلطة تختلج بداخلك وأنت تشاهد الأضواء تسطع على وجوه تماثيل من وقفوا فوق هذه الأرض يومًا، ملوك وملكات شاخصون أمامك، يروك وتراهم بوضوح كضوء ذلك القمر المنبعثة أشعته في ظلمة االليل الذي يغشى تلك الأجساد الماثلة أمام حكام هذه الأرض، يتحدثون إليك بأصواتهم الواثقة بشموخ بأنهم يبنون حضارة لا مثيل لها في العالم، ولن يأتي أبدًا من يُنشأ شبيهًا لها، لا تدرك شيئًا غير أنك تلهث مدهوشًا، تحملق في الأطلال المجيدة المضاءة، تنصت للموسيقى المنبعثة حولك من بين السماء والأرض، تركض، تهرول، أو تسير على قدمين بخفة الريشة، حتى تدخل في قلب صرحهم، تقدم قربانًا ساعة من وقتك لآلهتهم، وتود لو تخر ساجدًا طالبًا مغفرة الأرباب والربات لانك أضعت كل هذا الوقت بعيدا عن هذه العظمة التي تشهدها بين جدران الكرنك.
“التحيات لكم يا من حججتم للصعيد وتطلعتم إلى الأمجاد في الوادي السعيد.” هكذا تبدأ الكلمات بصوت العظيمة سميحة أيوب في عرض الصوت والضوء، يليها أصوات العباقرة عبدالله غيث وحمدي غيث ومحمود ياسين ويوسف وهبي وزكي طليمات وعبد الرحيم الزرقاني وعبد المنعم إبراهيم وأشرف عبد الغفور وزوزو نبيل وهم يقصون علينا سير اولئك العظماء.
“هاهنا ييتدأ التاريخ والكون وليد”…”هاهنا تجلت القدرة المقدسة التي فرقت بين الماء واليابسة، وأبدعت الكون في بضعة أيام، فاستشعروا الرهبة في الواجهة، فذاك مثوى سيد الآلهة”….”وإلى هنا حج كل فرعون شاء ان يسجل اثرًا له في هذا البيت” ثم تستمع لصوت بوابات تُفتح، ويتحرك الجمع في وجل ليدخل مجمع معابد الكرنك، نقف دقائق لا يمكن أن نحصيها، نستمع لقصص وحكايات عن إنجازات الحكام، ونستمتع بسرد لقصص حياتهم المتخمة بالأمجاد، ليبقى الأحفاد شاهدون على عظمةِ أولئك الأجداد.
إلى د. ريهام شعير التي أعادتني وأعادت تلك “العيّلة الرخمة” لعرض الصوت والضوء، لروحك كل تحيات الأرض، إذ قمتِ بتنظيم تلك الرحلة الغاية في الروعة، وسلامًا لقلبك الجميل لما بذلتيه من مجهود جبار وهائل لا يخفى عمن كان برفقتك، فقد قامت دكتورة ريهام بكل الترتيبات اللازمة لراحة الفوج السياحي الذي كان يرافقها، لتحقق أمنيات وأحلامًا كانت مؤجلة، أو بالأحرى باتت مستحيلة، فتركت أثرًا جميلًا وعظيمًا في عقولنا ونفوسنا، وسعادة بالغة لم يسبق لها مثيل، فأسعدتنا أسعدها الله دومًا في الدنيا والآخرة وجبر بخاطرها وأرضاها ووفقها لما يحب ويرضى أبد الدهر.
الكاتب
-
مريم المرشدي
كاتب برونزي له اكثر من 100+ مقال