فضيلة وشرف.. أم هلس في هلس؟
-
أحمد مدحت
كاتب نجم جديد
عام 1983 قدَّم المخرج “حسام الدين مصطفى” فيلمه المثير للجدل ” درب الهوى “.. تدور معظم أحداث الفيلم داخل أحد بيوت الدعارة، خلال ثلاثينيات القرن الماضي، عندما كان البغاء مُرخَّصًا قانونًا.. محور الفيلم الأساسي هما الصديقان: “مراد” و”عبد العزيز”، “مراد” شاب شهواني بشكل شبه مطلق، يعشق السُلطة والمال والجنس، ولا يتحرج في إشباع رغباته والوصول لأهدافه بكل الأشكال الممكنة، و”عبد العزيز” يُدرِّس الفلسفة والمنطق في الجامعة، وله سمات حالمة مثالية، تغلفها شخصية مهذبة خجول تتحلى بقدر عال من المبادئ الخُلقية.. لدى”عبد العزيز” عم، أحد باشوات عصره ومن أهم السياسيين في مصر حينها، وشعاره في مؤتمراته السياسية الشعبية هو: “ف- ش: فضيلة وشرف”، ترددها جموع الحاضرين، الذين يُلهِب قلوبهم وأسماعهم بخُطبه العظيمة عن ضرورة التمسُّك بالقيم والأخلاق.. يجلس الصديقان في مؤتمرات الباشا السياسية، بينما يردد “مراد” بصوت خفيض بينما الجموع تهتف: “ه- ه: هلس في هلس”؛ ومع سير الأحداث يكشف “مراد” ما خفى من شخصية الباشا لصديقه “عبد العزيز”، وفي أحد زياراتهما لبيت الدعارة إياه، يشاهد “عبد العزيز” عمه الباشا وهو يرقص في سعادة وخضوع لإحدى العاهرات، وهي تُمعِن في تحقيره والتقليل منه.. يتلقى “عبد العزيز” صدمة عمره في عمه، يبتلع ريقه مذهولًا وهو يشاهده يتمايل بملابس الداخلية أمام إحدى البغايا، وهو السياسي المُنادي بالأخلاق والقيم في العلن، بل الذي ظهر في أحد المشاهد وهو يتعهد للناخبين بأن يتقدم بمشروع قانون يُحرِّم البغاء إذا أصبح عضوَا بمجلس النواب، في الخفاء هو أحد زبائن دور البغاء التي يعاديها علنًا، ليتلقى جرعة من العنف تُرضي عقدة المازوخية التي تسيطر عليه.
حكاية عن الازدواجية لدى البشر، ربما قد تظنّها مبالغًا فيها بعض الشيء و”شغل سيما”.. ولكن هل هي بعيدة عن الواقع إلى هذه الدرجة بالفعل؟
دع هذا السؤال جانبًا وما يتعلق بالفيلم؛ سنعود لهما لاحقًا، ولنتأمل سويًا قليلًا في “التريند” الأكثر انتشارًا خلال هذا الأسبوع.. الفيديو إياه! أيوه، فيديو الراقصة البرازيلية الذي تعرفه بالتأكيد، لن أُكِّذبك لو أخبَرتني أنك لم تشاهده وسمعت عنه فقط، مع صعوبة هذا الاحتمال يعني، لكنه ليس موضوعنا، الفكرة في كمّ التصالح والرضا الذي جعل الجميع (تقريبًا) يتداولونه في غبطة، رجالًا ونساء على السواء، وهم يتحدثون عن مفاتن الراقصة وتفاصيل جسدها، وملابسها، ويسألون عن اسم وطبيعة المكان الذي رقصت فيه، ليتطوَّر الموضوع لمشاهدات بالملايين للمقطع القصير خلال ساعات من طرحه، ثم أخبار في المواقع الصحفية الكُبرى تتضمن معلومات عن الراقصة وحساباتها على مواقع التواصل الاجتماعي، وأحاديث صحفية مع مدير أعمالها، الذي قال أن الراقصة تلقت الكثير من عروض الزواج منذ انتشار الفيديو على هذا النطاق الواسع، قد تميل لتكذيب حديثه وتعتبره نوعًا من المبالغة الدعائية لصالح ربة عمله، لكنّي أُخبرك صدقًا أني أميل لتصديقه؛ كل هذا اللُعاب السائل من التعليقات الطافحة بهرمونات الذكورة التي تابعتها خلال الأيام الماضية تدفعني للتصديق.
المثير للتأمل أننا نتحدث عن ذات المجتمع الذي طالب- بشكل شبه جماعي- بحبس أكثر من فتاة مصرية، من اللائي يُقدمِن فيديوهات عبر موقع “تيك توك” الشهير، وحُكم على بعضهن بالسجن بالفعل، بعد أن تم اتهامهن بأنهن يساعدن على هدم قيم الأسرة المصرية.. هل فيديو الراقصة الشهير لا يندرج تحت ذات البنود والقيم؟ ألا يستحق نصيبه من الهجوم والرفض؟ وكيف تم تداوله بهذا الرضا على هذا النطاق الواسع؟
أم لأنها أجنبية، والفتيات مصريات، فحلال لها وحرام عليهن؟
رب المصرية هو رب الأجنبية، فلو كان التديُّن الصادق دافعًا للهجوم، تمسكًا بالقيم الخُلقية الحميدة، فكيف تداول نفس الأشخاص فيديو الراقصة إياه، بمنتهى الاحتفاء والإعجاب، بينما هم يثورون غيرة على الدين في مواضع أُخرى؟ هؤلاء ذات الشباب الذي يُبدون إعجابًا بالفتيات الأجنبيات في أي مناسبة، وهن يرتدين ما يكشف أكثر مما يستر، ويُكيلون الهجوم لبنات بلدهم بكل عنف، في كل مناسبة تسمح بهذا، ويتهمونهم بقلة الحياء ومسئوليتهن عن تعرضهن للتحرُّش بمناسبة ودون مناسبة، في ظل سيطرة حالة عامة من الشغف بالحديث عن ملابس المرأة، واحتشام المرأة، وعمل المرأة، وأي شيء يخص المرأة.. ازدواجية المعايير هذه قد تدفعك للجنون لو تتبعتها لنهايتها؛ معضلة المهووسين إياها بأي شيء؛ يهاجمونه بحدَّة إبرازًا لجوهر متديّن زائف غير موجود داخل معظمهم، وفي داخلهم قلوبهم وجوارحهم مُعلَّقة بالخطيئة التي يذمونها علنًا.. عندما سُرب للمخرج الشهير المقطع الجنسي إياه، كان الشباب في التعليقات على الخبر، في كل مكان، يُكيلون الشتائم لمَن أصابتهم الفضيحة، ثم يسألون بعضهم البعض في فضول أين يمكنهم العثور على المقطع الجنسي كاملًا.. أي ازدواجية!
بمناسبة الحديث عن قيم الأسرة المصرية التي يثور البعض دفاعًا عنها، ومن خلال جولة قصيرة في باب “الحوادث” في المواقع الإخبارية، يمكنك أن تجد بسهولة أخبار وقائع “زنا المحارم” لا تنقطع، بشكل يثير الغثيان.. أب يعاشر ابنته رُغمًا عنها، لمدة عام، قبل أن تهرب من قبضته وتستغيث بالشرطة.. أب يعاشر ابنته بالاشتراك مع ابنه، قبل أن تحمل الابنة، ويُقبَض على الأب وهو يحاول التخلُّص من الرضيع الذي وضعته الابنة، ويُكشَف الأمر للجميع.
الحادثان المُروّعان نُشرا خلال الأسبوع الماضي فقط، سأكتفي بهما، وأدع لكَ مهمة البحث عن المزيد لو كانت أعصابك تحتمل، ستجد الكثير خلال الشهر الماضي فقط على غرار هاتين الواقعتين.
فهل نحن مجتمع الثورة غيرة على الدين والقيم الخُلقية، أم مجتمع متسامح مع الرقص ويحتفي به؟ مجتمع متدين ورع، أم مجتمع يغرق معظمه في الوحل كل يوم أكثر؟ ما الدلالة النفسية على انتشار ظاهرة مثل زنا المحارم بهذا الشكل الواضح؟
أسئلة لا أملك لها إجابة واضحة، إلا ظن واعتقاد شخصي، له جذور مما أراه حولي، أن المجتمع قد يُصاب بـ “ازدواج الشخصية” المَرضي، بشكل جماعي، ازدواج كامل في المعايير، حيث يقف معظم أفراده حائرين في المنتصف، بين عشق الخطيئة وتقبيحها، بين السعي لها بكل الطُرق المُتاحة حينًا، والتطهُّر بالهجوم الشديد عليها في مواضع أخرى.
دَعنا من هذه الأسئلة التأملية الكئيبة، ولنعد سويًا لسيرة فيلم “درب الهوى”، لأخبرك شيئًا أخيرًا عنه: لقد تم سحب تراخيص الفيلم ومنعه من العرض في دور السينما، بعد طرحه بشهر ونصف، لأنه “يُشوِّه سمعة مصر، وحفاظًا على القيم الخُلقية”.
فضيلة وشرف طبعًا!
الكاتب
-
أحمد مدحت
كاتب نجم جديد