رجاء عليش .. أديب مصري قتله التنمر
-
مريم المرشدي
كاتب برونزي له اكثر من 100+ مقال
“عشت هذه السنين الطويلة وأنا أحلم بالانتقام من أفراد المجتمع الذين أفلحوا في أن يجعلونني أكفر بكل شئ”
هكذا كتب رجاء عليش في رسالته عام 1979 قبل أن يصوب فوهة مسدس إلى جبهته ويطلق زناده في سيارته، وقبل أن يترك جوابًا للنائب العام يعترف فيه بانتحاره حتى لا يُحقق في مقتله.
“لا تولد قبيحًا .. كلهم أعدائي”
مجموعة قصصية ورواية للكاتب والأديب العذْب رجاء عليش الذي عانى من العذاب، وقد طبعهما على نفقته، وأنا أقرأهما تخيلت كما لو أن الألم في هذا العالم متجسدًا في شخصه، كما لو كنت أراه في غرفته الرطبة معزولًا عن كل ضوء وصوت، يجلس على مكتبه، يستجمع تاريخ قبحه ودمامته، فيذرف الكلمات بسخاء، لا شيء يعجبه، يمزق الأوراق يشتم، يمشي، ثم يبكي ويعود لطاولته ثانية، لكنه يتناول مسدسًا بدلًا من القلم.
هكذا افتتح رجاء عليش كتابه “لا تولد قبيحًا” والذي انتحر نتيجة لمعاناته مع قبح وجهه وقسوة الناس ونبذهم له، فقد كانت فكرة الدمامة مسيطرة عليه، وكذلك فكرة أن المجتمع كان يكرهه بسبب قبحه، وكان لا يستطيع الدخول في علاقات عاطفية ناجحة، ولم يتزوج لأنه لم يجد من تقبل به، ولأنه لم يرد تكرار مأساته مع أبناء من صلبه كما تخيل في حواره مع أبيه حيث كتب قائلًا: “خلقتني غريبًا يا أبي في هذا العالم المليئ بالفوضى، إن مجتمعنا بهذه الدرجة من البؤس الحياة حرام عليه”.
فقد تحدث في الكتاب عن ذاته المجروحة، وكيف أنه يري نفسه أغرب رجل في العالم، وأقبح وجه يمكن أن تصادفه في أي مكان علي الأرض، وكيف أن لا أحد يحبه، ولا أحد يشفق عليه أو يثق فيه، وكيف إنه المرفوض الأول، المكروه الأول، المُعذب الأول، وكيف عاقبه الناس على شئ لم يفعله.
في مجتمع سطحي قبيح الخلق لا الخلقة، مجتمع يستهين بكلماته وبمدى تأثيرها النفسي بشكل سلبي على الآخرين، غير مدرك كمية الألم التي تتولد بداخل الآخر وكيف تجعل منه شخصًا سلبيًا يحاول الانتقام من نفسه ومن العالم، نجد كيف أن إحصائيات الانتحار سنويًا أصبحت مفزعة، إذ يتعرض ما لا يقل عن 5 أشخاص من أصل 10 إلى التنمر بسبب أشكالهم، فيعتبرون أنفسهم من أصحاب العاهات، ويدفع بهم المجتمع لمزيد من الاكتئاب والخلل النفسي والعنف مع الذات وقد يودي بهم للانتحار، فانهزامية الشخص تبدأ بالتقليل من شأنه وتحطيم ثقته بنفسه، فتغترب روحه داخل جسده ويصبح موته وحياته بالنسبة له سيان، برغم قدرته على وضع بصمة في هذا العالم.
اقرأ أيضًا
التنمر على الصعايدة في الصحافة .. بدأ من 116 عام والمساء تعيد التاريخ
هكذا حدث مع عليش الذي كان قلمه رشيقًا رقيقًا عذبًا، فكتب واصفًا نفسه : “أنا الذي تمضغه وتبصقه العيون بسرعة المدفع الرشاش، انا الذي يضطر للإعتذار عن شكله في كل مرة يرى فيها عينًا آدمية.” كما كتب : “مأساتي الحقيقية في التناقض الصارخ بين شكلي و حقيقتي، ولو أنهم وزعوا الجمال ليتلائم مع إحساس الانسان الداخلي لكنت أستحق شكلاً أفضل بالتأكيد , لكن المأساة حدثت إلى درجة أنني أتمنى أحيانًا لو لم يكن هذا التناقض موجودًا حتى لو كان على حساب إحساسي الداخلي”
كتب أيضا : “يقولون عن العالم رغم ذلك إنه عادل ورحيم وإن الناس بسطاء متسامحون، هؤلاء الناس الطيبون لديهم القدرة الفائقة على تبرير كل جرائم العالم الوحشية، بالذات جريمة قتل معنويات إنسان من حقه أن يعيش كالآخرين”
وكتب كذلك : “عندما يعجزون عن إقناعك بمنطقهم المتخاذل الشرير يقولون لك ببساطة شديدة مقززة: نصيبك ستناله في العالم الآخرحيث كل أنهار العسل واللبن وحيث تستلقي هناك حول شطآنها الدافئة كل حثالة الأرض المنكوبة التي لم تنل حقها في الحياة.”
لم يترك رجاء عليش أية صورة لنفسه، ولكنه ترك لنا رسالة خاتمًا حياته بقوله : “إلهي لا تغفر لهم فإنهم يعرفون ما يفعلون”.
الكاتب
-
مريم المرشدي
كاتب برونزي له اكثر من 100+ مقال