همتك نعدل الكفة
5٬975   مشاهدة  

رحلة الروح تبدأ من أبيدوس.. عندما أديت فرائض حج الديانة المصرية القديمة

أبيدوس


وقتها؛ لم يكن لدي ما أفعله سوى الجلوس في غرفتي، بمنزل والدتي بفيصل، لا أشعر أني انسانة ولكن أشعر أنني نقطة معدومة الملامح وسط نقاط خريطة فيصل، أنحت في كل الصخور من حولي باحثة عن شيء يميزني حتى تنير تلك النقطة وأقول للعالم : « أنا هنا.. ألا تروني بالمرة!».

أضع الألوان على حائط غرفتي بالكامل، اسأل أصدقائي وانا شاردة العين : «هل الـ LSD فعلًا يفصلك عن الواقع؟»، والأهم أسال نفسي: «هل تهورت حينما استقلت من وظيفة أحبها لأنني لا أقبل الإهانة؟»، ثم اسأل الله: «لماذا انا تائهة طوال الوقت ولماذا تبحث روحي عن شيء ما لا أعرفه بالمرة؟»، التقط كتاب اليوجا المصرية لمواتا أشبي، والذي يتحدث فيه عن مصر القديمة؛ لأجد شغفًا صغيرًا يخرج من تحت فراشي يداعب أصابع قدمي؛ وأشعر ان روحي تهفو إلى شيء ما لهذا العالم؛ مصر القديمة، فأقول: ولما لا؟!.

عام 2014 أسميته عام التساؤلات، ولذلك العام الذي تلاه كان عام الإجابات والسكون.

بدأ الأمر حينما سافرت في رحلة مع ستة أشخاص إلى مدينة أبيدوس بمحافظة سوهاج بمصر، تلك المنطقة التي بدأت فيها الحضارة المصرية القديمة، وحيث يقف معبد سيتي الأول شامخًا، وهو المعبد الذي كان مكانًا للحج في مصر القديمة، كان من المفترض أن تكون رحلة أربعة أيام فقط، ولكنها تحولت إلى تجربة دامت أربعة شهور.

من وجهة نظر «حورس» الرجل الصعيدي الذي يعالج بالطاقة ويملك منتجع«هاوس أوف لايف» في سوهاج؛ هذه فتاة غريبة تأتي رحلة في الصعيد مع ستة أشخاص أصغرهم عمرًا لا يقل عن 50 عامًا، ثم بحثت عنه  -حورس- وقالت له سأعمل لديك في أي وظيفة في الفندق ولكن لا تتركني أعود للقاهرة.

هروب أم عودة؟.. وقتها ظننت أنه هروب، وفيما بعد أدركت أن روحي وجسدي لابد وأنهم ينتمون إلى هذا المكان، لو كنت أمريكية لقولت لك وعيني مليئة بالدموع : « It feels like HOME»، وهذا الإحساس لم ينتهي ولم ينقص ولم يقتصر على أبيدوس فقط، بل هو احساس يلازمني كلما وضعت قدمي في أرض داسها وعمّرها رجال ونساء مصر القديمة.

وأنا صغيرة أسعدني الحظ، لطبيعة عمل أبي في السعودية؛ أن ازور الكعبة أكثر من مرة، وقد كانت تجربة رائعة ومميزة بكل المقاييس ولكني كنت أصغر من أن يكون إدراكي على حجم الموقف، ومرة آخرى كنت محظوظة؛ هكذا قالها لي حورس: «ربنا بيحبك أنك في أبيدوس دلوقتي»، لماذا؟

YouTube player

لأن وللمرة الأولى وقد تكون الأخيرة يُفتح معبد أبيدوس ليلًا لتلك المجموعة الأمريكية، والتي تتدين بالديانة المصرية القديمة؛ حتى يقيموا شعائر الحج المصري القديم مرة آخرى كما كان يحدث منذ آلاف السنين، ولأني كنت موظفة استقبال في المنتجع، كان علي الاستعداد لاستقبال تلك المجموعة، لأتفاجأ الشخص القائم على إدارة هذا الفوج وإتمام شعائر الحج في معبد أبيدوس؛ هو مواتا أشبي صاحب كتاب اليوجا المصرية.. صدفة؟.

حديثي مع آشبي عن مؤلفاته كان بوابة الدخول السريعة لي بين صفوف تلك المجموعة، والحق يقال أن بقية المجموعة والذين لم أمدح كتاباتهم كانوا أكثر ترحيبًا من آشبي نفسه. جلسنا ليال طويلة نردد أناشيد باللغة المصرية القديمة تناجي الآلهة المصرية القديمة، أنشودة عن الحب تناجي حتحور، وآخرى عن الشوق للعالم الآخر تناجي اوزوريس وأنوبيس، وأنشودة دائمة تنادي أيزيس وتمدح في خصائل الملك سيتي الأول.

ندق على الدفوف وينفخ بعض أعضاء المجموعة في نايات تذيب الروح،  ثم جاءت الليلة المهمة حينما أخبروني أنه علي حضور التدريب الخاص بشعائر الحج المصري القديم، ولأن المعبد سيفتح لنا ليلًا لساعة واحدة، كان يجب علينا أن نتدرب أكثر من مرة على إتمام تلك الفرائض بدقة حتى لا ندع مجالًا للخطأ داخل المعبد.

أبيدوس

«رحلة الروح تبدأ من أبيدوس»؛ ولم يعد لدي شك أن رحلة روحي بدأت في هذا اليوم. هذا المعبد الذي دخلته نهارًا عشرات المرات أثناء فترة اقامتي في أبيدوس، كان له وقعًا جديدًا على النفس حينما دخلته ليلًا مع تلك المجموعة التي سافرت كل تلك المسافة، ودفعوا كل تلك الأموال حتى يفعلوا ما يؤمنون به حتى وإن كان جنونًا في أعين الآخرين، رفعتني طاقتهم الإيمانية شبرين فوق الأرض وأنا أسير بجوارهم في هذا الصف المكون من شخصين، وراء آشبي ومساعده، بينما تحرسنا الشرطة أثناء مسيرتنا على الأقدام للمعبد.

 

كان آشبي يقوم بدور الكاهن الذي يرأس مراسم الحج ولذلك كان يرتدي فوق جلبابه الابيض، شالًا من جلد النمر زيّن خصره أكتافه، بينما أرتدينا نحن الحجاج الأبيض فقط.

إقرأ أيضا
المقاومة الفلسطينية

في النهار تكون الخفافيش الساكنة بالمعبد نائمة، ولكنها الآن تطير فوق رؤوسنا بل وترحب بنا دون أن تزعجنا، وعلى الرغم من أني كنت أخاف منها صباحًا وهي معلقة على الحائط وساكنة، لم أشعر بأي خوف وقتها، والدموع التي رأيتها في أعين بعض أفراد المجموعة حينما بدأت شعائر الحج؛ مدتني بالقوة والشجاعة، تلك الدقائق القليلة كانت حلم هؤلاء منذ أعوام طويلة، تلك المجموعة فتحت بابًا لروحي مُطلًا على ما أظنه السر الذي جعل من مصر القديمة محط الأنظار حتى الآن.

الدين في مصر القديمة – من وجهة نظري – كان مزيج بين فهم الواقع ومناجاة ما لا يمكن لعقلنا إدراكه وراء هذا الواقع، وهو أيضًا الدين الذي طالبنا بالتوحد مع قوى الطبيعة والتي هي تجليات للخالق الواحد، وفهمهم لتلك الطبيعة واقترابهم منها وتقديسها، أظنه كان المفتاح الرئيسي الذي منحهم القدرة على تطويع الطبيعة لما يخدم مصالحهم التي تخص الدنيا والآخرة.

الكثير من النظريات التي بُنيت عن كيفية بناء تلك الآثار الضخمة بأدوات بدائية، ولكن ما تأكدت منه أنه ليس هناك نظريات غامضة، هؤلاء قوم توحدوا مع الطبيعة واحترموها فقدمت لهم أسرارها ولم تبخل عليهم بالمجد، وحتى الآن لا تبخل على أي تائه يبحث عن بيتًا جديد يحتويه، طوال الوقت الأرواح في تلك المعابد تفتح ذراعيها إليك وتستقبلك بالحب وتقول لك : «لماذا تأخرت كل هذا الوقت؟!»، يهمسون في أذنك بأسرار لا يعرفها أحد ولا يجب أن ترددها.

والأهم يمنحوا جسدك وروحك نشوى لم تجربها من قبل. في كل مرة أقف أمام معبد أبو سمبل اسأل نفسي : « كيف يا الله منحت تلك القدرة لهؤلاء البشر؟»، فتأتيني الإجابة: «لأنهم اقتربوا».. من وجهة نظري قوة الإيمان – أي كان ما تؤمن به- هي ما تمنحك الطاقة لتكون أي شيء سوى نقطة صغيرة في خريطة فيصل لا يلحظها أحد، والناس في مصر القديمة قد آمنوا بأنفسهم وآمنوا بقدرة الله على التجلي لهم من بين كل مخلوقاته، وهو الأمر الذي لم يدركه الكثير بعد عن مصر القديمة ودينها.

«رحلة الروح تبدأ من أبيدوس»؛ هكذا قالوا لي، ولكن لم يخبروني أين تنتهي، وأنا عن نفسي لا أريدها أن تنتهي أبدًا.






ما هو انطباعك؟
أحببته
30
أحزنني
1
أعجبني
6
أغضبني
6
هاهاها
0
واااو
2


Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
‫إظهار التعليقات (2)

أكتب تعليقك

Your email address will not be published.







حقوق الملكية والتشغيل © 2022   كافه الحقوق محفوظة
موقع إلكتروني متخصص .. يلقي حجرا في مياه راكدة

error: © غير مسموح , حقوق النشر محفوظة لـ الميزان