همتك نعدل الكفة
436   مشاهدة  

رسالة إلي ولدي .. عن الغش والموت

ولدي
  • كاتب صحفي وروائي مصري، كتب ٧ روايات وشارك في تأسيس عدة مواقع متخصصة معنية بالفن والمنوعات منها السينما وكسرة والمولد والميزان

    كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال



إلى ولدي علي..

أتذكر يوم اختفاء سلحفتك الأولى والوحيدة، حيوانك الأليف الأول الذي ارتبطت به كثيراً قبل أن يختفي، وأخبرتك أنه صعد إلى السماء وصار نجماً يمكنك أن تراه كل ليلة.

لقد خدعتك يا صغيري حتى لا تعرف معنى الموت في تلك السن المبكرة، في مثل سنك عرفت الموت للمرة الأولى عندما توفي خالي، أمي التي كنت أحتمي بها وبأحضانها عند الخوف كانت تبكي للمرة الأولى، كانت خائفة وفي مثل عمري وعمرك لا يسمح حجمنا باحتضان من نحب حتى نخفيهم من مخالب الخوف القبيحة، بل إننا حتى لا نستوعب أن من يحموننا من الخوف خائفون.

رفضت أن أرى الجثمان رغم أنهم طلبوا مني أن أدخل غرفته في بيته في شبرا حيت ترعرع عمك وعماتك، لكنني فضلت قضاء الوقت في الشارع مع بعض الجنود البلاستيكية التي ربحتها في أكياس “البوزو” حتى تحرّكت الجنازة نحو القرية، وهناك حيث تعودت أن أقضي الصيف مع رفاقي كان المجال متاحاً للهروب من كل تلك الثياب السوداء والوجوه الحزينة الباكية اللاطمة التي لم أحبها ولن أحبها بعد ذلك للأبد.

أبوك مخلوق من بهجة يخشاه الحزن ويخشى الحزن، وسلحفتك مع خالي في السماء.

هذه المرة أحكي لك عن والدك بعدما كبر قليلاً وصار بين الخامسة والسابعة، مثلك تماماً، آخر العنقود، المعلق قلبه بوالده الذي يسافر للعمل في الخليج حيث لا يستوعب الأطفال معنى غياب الكبار حتى لو من أجل العمل.

في مثل سنك تماماً يا ولدي غادرني أبي للخليج من أجل العمل، وقضيت أنا أعوام دراستي الأولى أحلم بالإجازة ككل الصغار لا من أجل اللعب والسهر بل من أجل السفر لرؤية والدي.

لم أرتبط بإنسان في حياتي كما ارتبطت بوالدي، كنت أراه قديساً ومثلاً أعلى، كان يملك رصيداً من الحنان قادر على صباغة القسوة ذاتها، ولديه حضن حين اللقاء قادر على قهر أعتى أحزانك.

كنت أستمتع بكل هذا خلال ثلاثة شهور هي كل عمر الإجازة، وفي المدينة المنورة تعلمت ما لم أنسه طيلة حياتي، قيادة الدراجات وكيف يمكنك أن تصرخ بكل نشوة على دراجتك بسرعتها القصوى، وتعلمت أنني لا أحتاج في حياتي للغش.

نهار صيفي طالبني فيه الوالد العائد من التدريس في الجامعة بحفظ جدول الضرب، وأباك الطالب في الصف الثاني الابتدائي لن يعادي مادة في حياته كما كره الرياضايات والأرقام لدرجة أنه فشل أن يعرف يوماً عدد الجنيهات التي في جيبه.

ومن خلال ورقة صغيرة على منضدة قريبة اختلس والدك الصغير الإجابات قبل أن يكتشفه الوالد وتغيب ابتسامته السعيدة بإجابات ولده الصحيحة.

كان الدرس الأول أنني فعلت شيئاً ما تسبب في غياب ابتسامة أبي التي أتمنى حالياً لو عادت لحظة، والسبب الثاني أنه اصطحبني من يدي بعيداً عن الجميع ليقول لي بهدوء شديد:

“كل نجاح لك لم تبذل فيه مجهوداً سيعود عليك بالألم، النجاح الحقيقي قد يكون فشلك بعد أن تفعل كل ما بوسعك”.

عذراً يا صغيري أطلت عليك مرة أخرى ولكنك تعرف أني لن أمل الكلام معك أبداً ياحبيبي.

إقرأ أيضا
ولاد رزق وأهل الكهف

إلى اللقاء في الرسالة المقبلة.

والدك

إقرأ أيضاً

كمال الدين عبدالعزيز محمود .. سيرة عالم مجهول أحب عمله لدرجة الموت

الكاتب

  • ولدي أسامة الشاذلي

    كاتب صحفي وروائي مصري، كتب ٧ روايات وشارك في تأسيس عدة مواقع متخصصة معنية بالفن والمنوعات منها السينما وكسرة والمولد والميزان

    كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال






ما هو انطباعك؟
أحببته
0
أحزنني
0
أعجبني
1
أغضبني
0
هاهاها
0
واااو
0


Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
‫إظهار التعليقات (2)

أكتب تعليقك

Your email address will not be published.







حقوق الملكية والتشغيل © 2022   كافه الحقوق محفوظة
موقع إلكتروني متخصص .. يلقي حجرا في مياه راكدة

error: © غير مسموح , حقوق النشر محفوظة لـ الميزان