رواية بريد الليل .. رسائل المهجّرون قهرًا
-
مي محمد المرسي
مي محمد المرسي صحافية مهتمة بالتحقيقات الإنسانية، عملت بالعديد من المؤسسات الصحافية، من بينهم المصري اليوم، وإعلام دوت أورج ، وموقع المواطن ، وجريدة بلدنا اليوم ، وغيرهم .
كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال
حمل الليل في طياته أنين الذكريات وحنين لكل ماهو مفقود، فجاءت الروائية اللبنانية “هدى بركات” في روايتها” بريد الليل” وحملته على نفس المعنى فكان ثيمة حزينة تعبر عن الألم الذي يخرج من تجاويف الإنسان اللامرئية عبر رسائل جسدت معاناة العربي بوصفه إنسانًا يعاني مرار الفقد دائمًا.
بريد الليل .. رمزيتنا تحمل معنى الاعتراف
اختارت الروائية عنونًا مركبًا يحمل دلالتين متناغمتين” البريد” والليل” وهما عنصرين كثيرًا ما جاؤوا في الأدب فليست المرة الأولى أن نرى مثلا رمزية” البريد” تلك الرمزية التي استخدمها الأدباء في الشعر والرواية والمسرح، تعبيرًا عن البوح والاعتراف في الرسائل المتبادلة بين شخصين أو عدة أشخاص أو اعتراف من شخصِِ لنفسه، إلا أن الرواية هنا صدّرت فكرة الغير متبادل ويشعر القارئ في السردية أنها لن تصل إلى أصحابها.
وعن رمزية الليل في العتبة الأولى من النص فيرمز إلى كل ما هو حزين وخفي فهو ملجأ المهمومين العاشقين المفكرين في الحياة، فأرات الكاتبة أن تدمج تيمة الرسائل بما تحمله من شجن في النفس وربطها مع الظلام وشجن الليل، لتكون هناك صورة كلية شعورية مملوءة بالشجن والحنين داخليا عن طريق الرسائل وخارجيا عن طريق جو الليل.
بحثًا عن الحرية
أما عن مضمون الرواية المتمثل في 126 صفحة لا بد من اتباع تقنية التبئير التي تعمل على توضيح الثيمات والأفكار الرئيسة التي تحملها الرواية وتربطها بالشخوص والرمزيات داخل بنية سرد العمل، والرواية تتمثل في خمس رسائل من مهجّرون عرب تركوا أوطانهم لأسباب متباينة بين الفقر وفساد النظام السياسي والاجتماعي والاقتصادي أو من اضطر أن يهجّر من أوطانه بحثا عن الحرية واتقاء شر الحروب الأهلية، ولهذا أُجبر العربي في رسائل” هدى بركات” أن يتخلى عن رَفَاهيَة اختيار أحد البلدان العربية لما تفقده من قهر للحريات، و أجبر على الأمركتين أو أوربا
وبلغة مختصرة ومكثفة نجحت” هدى بركات” أن توحد القارئ مع شخوص الرواية المجهّلة ليكون السرد مباشر في الرسائل الخمسة ليشعر القارئ وكأن المتحدث جزء من نفسه، ففي الرسالة الأولى تداخل تقني مبدع حيث أن الرجل الذي يكتب الرسالة الأولى في حياته هي الأخيرة، الرجل الذي أراد أن يكتب لحبيبته يحكي عن اشتياقه حكى عن مرار الفقد من أقرب امرأة له هي أمه.
في الرسالة الأولى والوحيدة لصاحبها سرد فيها كيف تخلت أمه عنه وتركته وحيدًا وهو ابن الثامنة أو التاسعة حينما تركته في القطار وحيدًا وأخبرته أن عمه سينتظره في العاصمة، وينغمس الكاتب في رسالته ويعارض كل من أخبره يومًا أنه مشبوهًا رجل أن أراد أن يحمل جنسية ما ليكون في مأمن إلا أن الرفض هو دائما ما يقابله.
الرسالة الثانية والمرأة العاشقة
الرسالة الثانية من امرأة عاشقة ترسلها إلى حبيبها الذي باعدت بينهما السنين، وفي الرسالة الثانية كان هناك رابط نفسي قوي بينها وبين الرسالة الأولى، فحينما عثرت هذه المرأة العاشقة على نص الرسالة في أحد غرف الفندق وبها اعترافات تحمل بين حروفها قساوة العالم تشعر حينها المرأة العاشقة أنه يومًا كان صديقًا لها لتبدأ رحلة البحث عنه في مقاهي العرب في بلاد الغربة، بالإضافة إلى الشخصيات الفرعية بالرسالة الثانية مثل الجار الذي ألقى بنفسه من الطابق الخامس بعد أن ذبحوا ابنه أمام عينيه، وفكرة الضابط النازي الذي يخترق الجمال قلبه فيترك “عازف البيانو” حيًا.
الرسالة الثالثة : إلى أمي
وفي الرسالة الثالثة برسل الابن إلى أمه يحكي فيها تغيرات حياته وكيف كانت الحياة قاسية عليه بما يكفي ليكون مجرمًا، فلم يكن ذاك التحول في الشخصية سلسًا فهم من عذبوه واغتصبوه ليتعاون معهم، ثم اعترف لأمه لذلك وأراد العودة، لكن ما إن يلتقي بالمرأة الكبيرة سنًا، ويشتبك معها في علاقة حميمة لا سبيل للفكاك منها يتورط بقتلها، وتقطيع أوصالها بطريقة بشعة.
وتتشابك الرسالة الثالثة مع الرابعة بين الابن المجرم الذي يخاطب أمه وبين الأخت التي تراسل شقيقها لتخبره كيف تحولت إلى بائعة هوى، تنظّف المراحيض، تخبره عن تلك الحياة التي أجبرتها على هذا بعد أن تركها زوجها، كما تقوم أمها بتزويج ابنتها إلى شخص متحول جنسيًا يسيء معاملتها ولا تنقذ ابنتها الوحيدة إلا بشق الأنفس.
الرسالة الخامسة وعقدة أديب
تظهر الرسالة الخامسة تيمة مهمة وهي” عقدة أديب” كما حملت الرسالة من الابن إلى الأب صوتًا بالنهاية وفضحت الثيمات المجملة لجميع الرسائل وهي التشرد والمرض وحلم العودة إلى الوطن الحاضن، وفي كل رسالة تختلف لغة الكاتبة نفسها لتتوافق مع طبيعة صاحب الرسالة وجنسه، حتى ليصعب على القارئ أن يصدّق أن شخصًا واحدًا نجح بالفعل في كتابة الرسائل الخمس!.
اللامكان في بريد الليل
بعد عرض مضمون الرواية ولغتها يمكننا أن نقول أن رواية بريد الليل رواية سيريالية لا تعتمد على شخصيات معينة لا تعتمد على مكان محدد ورغم تلك متشابكة ومتماسكة وهذا يضفي صعوبة قاسية في البنية السردية للرواية، كما لا يمكننا قراءة الرواية بمعزل عن الرمزية، فالرواية مجموعة من الرموز التي تدل على حال العربي عمومًا.
الكاتب
-
مي محمد المرسي
مي محمد المرسي صحافية مهتمة بالتحقيقات الإنسانية، عملت بالعديد من المؤسسات الصحافية، من بينهم المصري اليوم، وإعلام دوت أورج ، وموقع المواطن ، وجريدة بلدنا اليوم ، وغيرهم .
كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال