همتك نعدل الكفة
903   مشاهدة  

سمير غانم .. الفيلسوف الذي أضحك طوب الأرض

سمير غانم


هو القشاش، عملاق كوميديا الارتجال، وملك خشبة المسرح بلا منازع، الوحيد القادر على إضحاك أي ممثل أمامه على خشبة المسرح، فما بالك بالجمهور، رغم اتهامه كثيرا بالإسفاف إلا ان قدرته على انتزاع الضحكات تجبّ كل تلك الاتهامات، سمير غانم، إمبراطور المسرح الكوميدي بلا منازع رغم الاختلاف على ما يقدمه.

إذا كنت من هواة معرفة بدايات الفنان يمكنني إيجاز بدايات سمير غانم في الآتي: ولد في 15 يناير عام 1937، والده هو لواء شرطة يوسف غانم، تنقل مع والده في محافظات مصر المختلفة قبل أن يستقر في الإسكندرية، التحق بكلية الشرطة، ولكنه رسب لمدة عامين متتالين في مواد القانون خاصة الشريعة و القانون الدستوري، ترك الشرطة والتحق بكلية الزراعة جامعة الإسكندرية، بدأ عمله بالتمثيل من مسرح الجامعة، كان رئيس فريق التمثيل، وهناك تقابل مع جورج سيدهم رئيس فريق التمثيل في جامعة عين شمس والضيف أحمد رئيس فريق التمثيل في جامعة القاهرة والتقطتهم عين المخرج التلفزيوني محمد سالم ليكوّن معهم فرقة ثلاثي أضواء المسرح، وقدم سمير ما يقرب من 300 عمل فني بين مسرح وتلفزيون وإذاعة وسينما.

الجامح

المعلومات السابقة يمكن أن يحصل عليها أي أحد من المواقع المختلفة، ولكن المهم هنا هو لماذا سمير غانم، من أين أتت كل تلك القدرة على الإضحاك والارتجال، لماذا سمير غانم هو إمبراطور المسرح الكوميدي بلا منازع، المدقق في موهبة سمير غانم الفنية يجد أن سمير امتلك في جعبته الكثير من الأشياء، سمير يمثل بالطبع ويغني ويرقص، كل تلك المواهب كانت كفيلة أن تضمن لسمير غانم مع بعض الاجتهاد وحسن الاختيار مكانا ضمن قبيلة “المضحكون” التي امتلئ بها المسرح المصري، ولكن ما جعل سمير غانم مميزا، ما جعله امبراطورا هو موهبته في الإضحاك.

ربما أبلغ توصيف يمكن أن توصف به موهبة سمير غانم هي تلك التي أطلقها بلال فضل في برنامجه “الموهوبون في الأرض” أنها موهبة متوحشة وجامحة ولا تخضع لأي قيد أو ضوابط سوى الضوابط التي يضعها سمير غانم لنفسه فقط، سمير، في كوميدياه يأتي إلى المشاهد من حيث لا يدري ولا يحتسب، ليست فقط القدرة على إطلاق النكتة أو الإفيه والطريقة، بل أيضا الإفيه نفسه، ومثال على ذلك في مشهده الوحيد في فيلم “عالم عيال عيال”، يقول سمير غانم ببساطة وتلقائية “أنا سمير!”، ليصبح إفيه، إذا أين النكتة هنا؟

النكتة هنا هي كسر سمير غانم لحاجز الإيهام، أو التمثيل أنه خرج عن النص، تلك الجملة لو كان قالها أبكر ثانية أو متأخرا ثانية لفاتت دون أن يلتفت لها أحد، ولكن سمير بميزانه الحساس جدا، يدرك جيدا متى يلقي الإفيه، وفي نفس المشهد دليل أخر على هذا حينما ينطق أول جملة: “إيه دول الهكسوس؟!” ذلك الإفيه الذي لم يضحكنا نحن فقط، بل جعل رشدي أباظة يقع على الأرض من الضحك، وأعيد المشهد ما يزيد عن 10 مرات، لأن الدنجوان لم يتمالك نفسه من الضحك.

موهبة سمير الجامحة كادت أن تجعله يخسر صديقه جورج سيدهم، منذ وفاة الضيف أحمد أصبحت فرقة الثلاثي لجورج سيدهم يديرها شقيقه “أمير” فكان جورج هو المنتج، بينما كان سمير يتفرغ لبناء إمبراطورتيه مترامية الأطراف، تفرغ سمير للضحك، فخرج عن النص كما لم يخرج أحد من قبله، ولم يستطيع أحد أن يجاريه على الإطلاق، حتى صديق عمره جورج سيدهم، الذي تحول في أغلب الأعمال على مجرد دور ثان، يأخذ بقعة بسيطة من الضوء بينما التركيز كله يذهب لذلك الجواد الجامح “سمير غانم”.

سمير انفرد بجورج سيدهم على المسرح في مسرحية “أهلا يا دكتور”، كرأس حربة “حريف” انفرد بحارس مرمى فظل يحاوره يمينا ويسارا حتى توقف حارس المرمى عن اللعب وظل واقفا يشاهد هذا “الحريف” وهو يستعرض، مشهد “باريس” في المسرحية، لا يدل إطلاقا على ضعف موهبة جورج سيدهم، فجورج كوميديان من الطراز الأول، ولكنه ببساطة لا يجاري سمير غانم في قدرته على الارتجال، ولا يجاريه في إحساسه بالجمهور، جورج كما أسميه كوميديان الزي الرسمي، لا يضحك كثيرا إذا اعتمد على الارتجال، بينما سمير المنطلق هو كوميديان الهواء.

تلك المنافسة ليست وليدة المسرحية أو ما سبقها من أعمال، ولكنها كانت موجودة منذ البداية، ولكنها كانت مختفية تحت ستار من التوازن والسيطرة اسمه “الضيف أحمد”، الذي كان يوازن بين انطلاق سمير دون أن يقيده فيفقد أفضل ما فيه، وبين التزام جورج بالنص أو حتى الخروج المتفق عليه، ولكن برحيل الضيف– اسما وصفة- اختل التوازن، وأصبحت استجابة الجمهور هي المعيار الوحيد الذي يرجح كفة الفائز في هذا الصراع، ومن يستطيع أن يجذب الجمهور مثل سمير.

الرجل الثاني.. الأول دائما

في المسرح لا أحد يقف أمام سمير، قاعدة عامة محفوظة، ولكن حظ سمير في السينما كان أقل من حظه في المسرح، فأغلب أفلامه التي كان فيها البطل الأول لم تنجح لا تجاريا ولا جماهيريا، فكيف صنع سمير نجوميته السينمائية؟ ببساطة سمير يتألق في أي مكان يقف فيه، حينما جاء ضيفا خفيفا على فيلم “عالم عيال عيال” كان هو أبرز الوجوه التي نتذكرها رغم أن وجوده على الشاشة لم يتعدَ المشهد الواحد، حينما وقف أمام فؤاد المهندس في فيلم “فيفا زلاطا” كان وجوده طاغيا ومؤثرا رغم الأسماء الرنانة التي شاركت في الفيلم.

سمير يعرف جيدا من أين تؤكل كتف الكوميديا، أسطورة سمير في السينما جاءت من حضوره الطاغي وقدرته اللامتناهية على الإضحاك، بالإضافة لمخرج جيد يستطيع السيطرة على تلك الموهبة دون تقييدها، حينما كانت مديحة كامل وفاروق الفيشاوي يتنازعان على بطولة فيلم “تجيبها كدة تجيلها كدة هي كدة” كان سمير غانم ينفرد بالجمهور كبطل أوحد للعمل، بل تحولا البطل والبطلة بجواره لممثلين مساعدين على الشاشة، أيضا في فيلم “يا رب ولد”، استطاع سمير أن يزرع نفسه بطلا للعمل رغم وجود فريد شوقي، على الرغم أن مساحة الدور تساوي نفس مساحة الدور الذي لعبه “أحمد راتب” إلا أن سمير بقدرته فقط استطاع أن يصبح بطلا ثانيا بجوار ملك الترسو.

الأمثلة على قدرة سمير غانم على الالتفاف حول فكرة البطولة السينمائية كثيرة، ربما أبرزها وأهمها فيلم “4-2-4” والذي أخرجه أحمد فؤاد، أولا الاستعانة بسمير غانم تمت بحيلة، فقد أوهم صناع العمل سمير أن العمل من بطولته، وكتبت نسخة من السيناريو بالفعل بطولة “الحلواني” أو سمير غانم، فقط لدفع سمير غانم لينضم للفيلم، ليكتشف سمير أن البطولة الحقيقة ليونس شلبي، هنا أخرج سمير كل ما امتلكه من موهبة وخبرة، ليحول دفة العمل بالكامل له، فيصبح الجميع بجواره ممثلين مساعدين لا أكثر ولا أقل، ويثبت أن البطولة ليست بعدد المشاهد بل بالتأثير في المتفرج والقدرة على جذب الأنظار.

سمير في السينما لم يكن محظوظا مثل حظه في التلفزيون، رغم كل مميزات سمير الفنية إلا أنه كان يفتقد ميزة هامة للغاية وهي القدرة على الاختيار، سمير اختار العديد من الأعمال السيئة ودون المستوى، اختارها لأسباب مادية بحتة وفق قوله، وأيضا العمل مع مخرجين أبعد ما يكونوا عن الفن، فقد سمير أفلاما معلبة، أفلاما كانت تصنع خصيصا من أجل الفيديو لا من أجل العرض في السينما، ولكن لم تكن كل اختياراته السينما سيئة بطبيعة الحال، فهناك أفلام جيدة مثل “الرجل الذي عطس” و”حسن بيه الغلبان” ولكن المحصلة النهائية سمير لم يصبح نجما سينمائيا بقدر ما هو إمبراطور المسرح.

اقرأ أيضا

بعد مشهد كريم عبدالعزيز وأحمد داش “ما هي عقوبة المتورطين الحقيقيين في قضية أجناد مصر ؟”

الفيلسوف

ربما كانت كوميديا سمير غانم خالية من ذلك العمق الذي يحبه العديد من المشاهدين، كوميديا بعيدة عن السياسة أو القضايا الهامة، كوميديا للكوميديا فقط، ولكن من قال إن كوميديا الإمبراطور لا تحمل فلسفة، فلسفة سمير ليست فيما يقول ولكن في كيف يقول، سمير مثلما قال بلال فضل أحد أبناء الطبقة الوسطى ويعرف كيف يدخل لها، فيلعب عن المسكوت عنه، وهو رأي اتفق معه تمام الاتفاق.

إقرأ أيضا
وليد

سمير لا يبوح بما هو إباحي ولكنه يترك مساحة كبيرة للتخيل عند المتلقي ليتفاعل معه، جزء كبير من نجومية سمير المسرحية، قدرته على جعل المشاهد جزء من الإفيه، فهو يجعل المشاهد يكمل الإفيه في عقله فيضحك أكثر، فمثلا في مشهد الصرصار الشهير في مسرحية “المتزوجون” الحركات التي أداها سمير غانم بعدما فر الصرصار إلى البنطلون هي نصف الإفيه، بينما البقية الباقية منه دارت في عقولنا نحن المشاهدين، سمير يدخلنا المسرح وجعلنا نقف معه على الخشبة وهو أمر نادرا ما يفعله كوميديان بمثل هذه الاحترافية.

فلسفة سمير البسيطة المعقدة في نفس الوقت كان جزء كبير منها هو الشكل الخارجي، هو يخترع “لزمة” للمثل معه 9 على خشبة المسرح كي تكون مفتاحا للضحك، كما فعل مع طلعت زكريا في “دوري مي فاصوليا” أو مع الراحل مصطفى رزق في “فارس وبني خيبان”، أو مع غريب محمود “رحمة الله عليه” في “أنا ومراتي ومونيكا”، سمير يترك لك البراح لتضحك الجمهور ولكن إياك أن تظن أنه لن يشارك في اللعبة.

سمير حينما يقرر أن يشارك في الكوميديا على المسرح اعلم أنك مقضي عليك لا محالة، أنت لن تستطيع مجاراته بأي شكل أو وسيلة، هو يستطيع أن يجعلك إفيه، ويجعل ما تلقيه من نكات “فرشة” لإفيه يلقيه هو بعدك، وكل هذه أمور مشروعة في الكوميديا وكم من الفنانين استخدموها، وقاعدة أخرى لا تخطئ أمام سمير غانم فلا تنطق كلمة بشكل غريب فهو يمتلك القدرة على جعل نفس الكلمة إفيه ثابت قد يلتصق بك ما بقي من حياتك مثل “الصرصار” التي قالتها شيرين في المتزوجون.

يروي أدم مكيوي في مقاله الرائع ” سمير غانم أو كيف تباغت الجمهور” أنه في مسرحية “محروس صائد الرؤوس” كان يشاركه البطولة الراحل علاء ولي الدين، ولم يقم أفراد المسرحية بالبروفات الكافية لحفظ حوارها، فدخل عليه علاء وهو متوتر من أن ينسى هو وزملاؤه الكلام على المسرح|، فأشار له سمير غانم إلى حقيبة وقال له: “الشنطة دي فيها كور بينج وكور تنس وحبل وها نحط فيها أرنب وفرخة، وكل ما نعطل في الكلام حط إيديك في الشنطة وطلع حاجة ها نشتغل عليها”، بمنتهى البساطة سمير يجد الكوميديا في الهواء، مجرد قطعة إكسسوار يمكن لسمير أن يجعلها إفيه أو ما يطلع عليه ” كوميديا الإكسسوار”.

الإكسسوار عند سمير ليست أشياء فقط، بل ممثلين أيضا، هو الذي ترى في مسرحياته العجائز والأقزام، وغيرهم، بل أيضا الممثلين المحترفين قد يحولهم سمير لإكسسوار، ربما ترى أن الأمر خارج إطار المقبول، ولكن في حقيقة الأمر هذه ألعاب مشروعة في الكوميديا، سمير فقط يعرف كيف يستغلها جيدا، في مضماره البعيد عن السياسة والقضايا الهامة وكل ما كان غيره من الكوميدينات يقدمونه.

الحديث عن سمير غانم يطول ويطول، وربما كل يوم سنجد الجديد في كوميديا هذا الرجل، الذي استطاع ببراعة شديدة أن يضع نفسه في مصاف المضحكين المتميزين، بل يمكن القول إنه أحد أكثر الكوميديانات تميزا في تاريخ الفن في مصر، بمدرسته الخاصة جدا والمختلفة جدا والبسيطة لدرجة الاستحالة، فلا أحد يمكن أن يكون سمير غانم إلا سمير غانم.

ملحوظة: المقال معاد نشره بعد تغيير العنوان نشر يوم 15 يناير 2017 على موقع دوت مصر بعنوان مختلف.

الكاتب






ما هو انطباعك؟
أحببته
15
أحزنني
0
أعجبني
6
أغضبني
0
هاهاها
0
واااو
2


Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
‫إظهار التعليقات (2)

أكتب تعليقك

Your email address will not be published.







حقوق الملكية والتشغيل © 2022   كافه الحقوق محفوظة
موقع إلكتروني متخصص .. يلقي حجرا في مياه راكدة

error: © غير مسموح , حقوق النشر محفوظة لـ الميزان