سوق الشهادات عبر الإنترنت.. اطلب رسالتك الآن
-
إسراء أبوبكر
صحفية استقصائية وباحثة في شؤون الشرق الأوسط، نشأت تحت مظلة "روزاليوسف" وعملت في مجلة "صباح الخير" لسنوات.
كاتب برونزي له اكثر من 100+ مقال
أتذكر مشهد من المسلسل الكوميدي “الكبير أوي” حيث يحكي “حزلقوم” كيف اشترى رسالة دكتوراة بينما يجلس على المقهى من بائع جائل، بعد الفصال وتمام عملية الشراء أصبح صاحب الشخصية محدودة الذكاء دكتور متخصص في الحفر على مادة جديدة لم يدرسها باحث سواه، مما جعله الوحيد المؤهل لإنقاذ الكوكب من نيزك مكون من تلك المادة، يستمر الخداع بشكل كوميدي حتى تتضح الحقيقة ثم ينقذه الحظ. المشهد ساخر بشكل كنت أراه بعيدًا عن الواقع، لكن الواقع أثبت أنه لا يمكن توقعه بل يمكن أن يصبح أكثر سخرية من المسلسل.
يجتمع الآلاف من الباحثين على موقع فيسبوك في جروبات عامة للاستفسار وتبادل الخبرات؛ لكن في الآونة الأخيرة أصبحت ساحة لنشاط آخر، حيث ضمت العديد من الصفحات التي تبيع الشهادات ورسائل ماجستير ودكتوراة جاهزة، بل وتعلن تلك الجهات عن أنشطتها في مواقع متاحة للجميع على جوجل، خرجت السوق السوداء لبيع العلم من أزقة بين السرايات- التي اشتهرت بوجود ذلك النشاط – ووجدت فرصة أسرع للتسويق؛ فإذا وُجِدَ السعر المناسب يمكن لأيٍ كان أن يشتري لقب دكتور وإن كان لا يفرق بين الألف وكوز الذرة.
عثرنا على أكثر من 10 مراكز تزاول نشاطها على جروب يضم 50 ألف عضو بين طالب وباحث، ثم دفعنا الفضول للخوض في عالم الشهادات الفالصو.
دكتورة م عضو هيئة تدريس بإحدى كليات الطب، وتدير صفحة تختص ببيع رسائل لـ “التخصصات الطبية”؛ تواصلنا معها كزبون يرغب في شراء رسالة ماجستير في مجال “الفيزياء”، وبالطبع كان أول سؤال عن الأسعار، أجابت “الماجستير 8 آلاف جنيه، والبروتوكول 500 تدفعهم على دفعتين؛ نبدأ الكتابة بمجرد تَسلُّم أول دفعة، ثم نحصل على كامل المبلغ بعد أن يتسلم الباحث رسالته كاملة”.
بعد الاتفاق على الماديات نأتي للضمانات، وهنا سارعت م تؤكد أنها تكتب الرسائل بنفسها مع دكاترة آخرين حسب التخصص المطلوب، وحداثة المراجع المستخدمة هي ما تثبت أن البحث غير مسروق أو معاد تدويره.
لن يتكشف المشرف “ولو اتشقلب” والعقوبة كلمتين توبيخ
تجيب م بكل بساطة لن يكتشف إلا إذا سأل الباحث في جزئية من الرسالة واكتشف أنه لا يدري عنها شيء؛ “نكتب ونعدل الرسالة كما يريد المشرف وعلى الباحث الاطلاع واستيعاب الرسالة المنسوبة إليه؛ ولا داعٍ للقلق لم تكتشف أي لجنة من قبل أن الرسالة التي يناقشوها لم تكتب بيد الباحث”. نبرة الثقة في صوت م ستجعلك تتأكد أن الرسالة أسهل من حفظ جدول الضرب، لكن الحماقة توقع بصاحبها، وهو ما حدث مع إحدى زميلاتها حين قدمت رسالة مسروقة للمشرف دون أن تكلِّف خاطرها وتزيل أسماء المشرفين الأصليين، الغريب أن العقوبة التي أقرتها لجنة المناقشة اقتصرت على التوبيخ.
م خريج كلية الألسن، صاحب مركز ترجمة الصبح وبعد الظهر يبيع أبحاث الدكتوراة للراغبين -والشغل شد بعضه -، تواصلنا معه لشراء رسالة دكتوراة في اللغات، بدون مقدمات بادرنا بسؤاله “عايز رسالة دكتوراة نمطية تؤدي الغرض ولا شغل جديد محدش عمله قبل كده؟” صنايعي الرسائل له تصنيفة خاصة لبضاعته، الشغل النظيف يحتاج للبحث والمراجع خاصة الأجنبية غير المجانية، وهنا تلميح من البائع الشاطر ليجهز الزبون لسعر أعلى. عرضنا أن نختار موضوع سهل للرسالة ليكون السعر مهاود، ومن منطلق مصلحة العميل يوجهنا محمد لاختيار موضوع مفتوح “قماشته كبيرة” على حد تعبيره.
يعتقد الباحث أن المكتب يكتب رسالة جديدة، لكن أحيانًا يلجأ للطريق الأسهل، حيث يبحث عن رسالة في المجال نفسه من جامعة أجنبية ويترجمها؛ وهنا أشار م إلى أن الدكتور لن يعلم بسرقتها “ولو اتشقلب”.
يتعامل م مع دكاترة في جميع التخصصات، يقومون بكتابة الرسائل دون كشف هويتهم للطلاب؛ نشاط سهل وخفي، الرسالة الواحدة يتراوح سعرها من 30 لـ 40 ألف جنيه، نوايا تسند راتب الدكتور، الذي يكون متوسط راتب نظيره في دول العالم الأول ثمانية أضعاف، مع عمله في ظروف أصعب وإمكانيات أضعف.
النصب على نصاب
“مفيش حد سالك” هكذا أعرب م عن ضيقه بالنصب الذي يتعرض له مع الدكاترة الذين يتعامل معهم فريلانس، فالدكاترة يغشونه في أسعار المراجع ليزيد أجرهم؛ والزبون نَفسه يمكن أن يستلم البحث ويرفض الدفع، وهو ما حدث أثناء تعامله مع باحثين من دول عربية، لكن في النهاية النشاط غير قانوني وفقا لكلامه، ولا يمكن أن تشكو سرقة من ساعدته على التزوير.
ارتاح م للحديث وبدأ يسرد ما يقصه عليه زبائنه في رحلة الوصول إلى الشهادات مثل الدكتوراة أو الماجستير، “الرشاوى حسب دماغ الدكتور، البعض تصل إليه عن طريق معدته، هدايا السمن البلدي والعسل والفطير وتمر رسالتك، آخرون يميلون للباحثات اللاتي يتحملن فجاجة الأسلوب وربما نزوات خارجة عن التعامل المهني بين الباحث ومشرفه”.
مثل هذا النشاط من شأنه أن يُفقِد الجمهور الثقة في تلك الشهادات، المحامي الذي يملأ لافتة مكتبه بألقاب حاصل على ماجستير كذا ودكتوراة كذا، ومثله الطبيب والصيدلي وغيره. هل يمكن أن يكون قد اشتراها؟ هكذا يحق لنا أن نتسائل في ظل الغش العلمي الذي أصبح يعلن عن نشاطه على صفحات التواصل، ويضرب منظومة البحث العلمي في مقتل.
الكاتب
-
إسراء أبوبكر
صحفية استقصائية وباحثة في شؤون الشرق الأوسط، نشأت تحت مظلة "روزاليوسف" وعملت في مجلة "صباح الخير" لسنوات.
كاتب برونزي له اكثر من 100+ مقال