همتك نعدل الكفة
760   مشاهدة  

سيرة الزجل السياسي من الاسترزاق إلى النشيد الوطني (2-3) أبو بثينة المصري

أبو بثينة


ساعد توافد شعراء وأدباء الأندلس إلى مصر في القرنين الرابع والخامس الهجري هرباً من بطش الخليفة الأموى، في نقل الكثير من فنون الشعر الأندلسي وخاصة الزجل إلى مصر، وتلقف المصريين هذا الفن بالذات نظراً لتماشيه مع فطرتهم في مواجهة الأزمات بالتهكم والسخرية كما جاء في كتاب الرافعي تاريخ آداب العرب المجلد الثالث، “وللمصريين تاريخ خاص في الزجل؛ لأن هذه الطريقة توافق ما في طباعهم من اللين ومشايعة الكلام بشيء من التهكم الذي تبعث عليه صفة الفتور الطبيعية فيهم، وهي التي يقال فيها إنها ذَوق حلاوة النيل. وقد اخترع المصريون في الزجل نوعين سموهما البليقة والقرقية”.

اقرأ أيضًا 
سيرة الزجل السياسي من الاسترزاق إلى النشيد الوطني (1-3) مرحلة الأندلس

عرف المصريين فن الزجل على يد المماليك بعدما تلقفه الشعراء وأضافوا إليه مفردات جديدة تناسب لهجتهم، أولى  سلاطين مصر في العهد المملوكي الذي استمر منذ عام 648 هجرياً- ميلاديا 1250 حتى عام 923 هجرياً – 1517 ميلادياً، اهتمام كبير بفن الزجل وظهر في هذا الوقت زجالون كبار مثل الغباري وعلاء الدين بن مقاتل وابن سودون.

أبو بثينة أمير الزجالين المصريين

أبو بثينة

استمر الزجل ملازما للتراث الأدبي والشعري في مصر منذ عهد المماليك حتى العصر الحديث، ولكن تغيرت أغراضه من المديح إلى السخرية  والتهكم من الأوضاع الاجتماعية والسياسية، وهو ما ساعد في انتشاره كونه كان يلامس أوجاع المصريين ومعانتهم اليومية، ومع بداية القرن العشرين نبغ الكثير من الشعراء والكتاب المصريين  في هذا اللون من الشعر، وكان في مقدمتهم محمد عبد المنعم الملقب بأبو ثينة، وهو شاعر مصري ولد عام 1905 وعلى الرغم من أنه تلقى قسطاً ضئيلا من التعليم إلا أن موهبته في الشعر والزجل قد بدأت مبكر، وكان ينشر أزجاله في مجلة كل الدنيا تحت أسم أبو بثينة، كانت أزجاله دائما ما تنتقد بحس فكهاي سياسات الحكم في هذه الفترة، وكذا الأوضاع الاجتماعية المتردية  للمصريين  في هذا الوقت .

في عام 1926 قررت دار الهلال إصدار مجلة خاصة بالسخرية والفكاهة أطلقوا عليها مجلة الفكاهة، وعُين “حسين شفيق المصري” رئيساً للتحرير وبدأ يجمع أصحاب المواهب في الكتابة الساخرة، وكان في مقدمتهم أبو بثينة الذي أبدع على مدار ثمانية سنوات في كتابة أزجاله التي لاقت اهتمام الجميع، وخاصة أن صاحبها يكتب تحت أسم مستعاره، وكان حسين شفيق المصري يعتبر أبو بثينة أحد أبنائه وظل يراعي موهبته ويدفعه دفعا نحو الاستمرار في كتاباته، لدرجة أنه وافق على زواجه من أبنته الوحيدة.

وعن سر  لقب أبو بثينة يقول الكاتب عبد الرحمن بكر في كتابه “الزجل والزجالون والصحافة الساخرة “أما عن كنيته بأبي بثينة فلها أسباب طال البحث فيها وكان سببها الأساسي في البداية هو عدم الجمع بين وظيفتين حيث كان يعمل موظفاً في الحكومة ويعمل في الصحافة في دار الهلال موقعاً بكنيته ” أبو بثينة”

ويذكر الكتاب أن أبو بثينة  ورد إليه أسئلة كثيره من قرائه عن سبب إخفائه لاسمه الحقيقي ورد عليهم بمقطع زجلي  ذكر فيه أن أسمه الحقيقي منتشر ولكن لقبه نادراً ما تجده
اسمي الصريح فيه زيه كتير    وأبو يثينة مفيش منه
أخوك غلب من معر الناس     مضى كده غصبن عنه

الشعر الملحون يمهد لثورة 1952

أشتهر أبو بثينة بنقده اللاذع للقائمين على الحياة السياسية في عهد فاروق الأول حتى أنه كتب ذات مرة مهاجما حكومة الوفد التي عينها  الملك في الفترة ما بين عامي  1950 حتى عام 1952، متهماً إياها بالغرق في الترف وتناسي هموم المصريين ، حيث كانت البلاد في تلك الفترة تعاني من فوضى شاملة ومع هذا سافرت الحكومة لتصطاف في الإسكندرية، فهاجم  أبو بثينة هذا الفعل على طريقته في قصيدة زجلية بعنوان الشعب يحترق قائلاً”

يا  شاكي الحر في أسيوط وفي المنيا

بتشكي ليه وليه تسخط على الدنيا

بتكشي ليه يا شيخ أتلم وأتنيل

يا ناكر النعمة هو كل ده قليل

ما دام سافرت وزاة الشعب بتصيف

خلاص يا شعب هيص في الحر وأتكيف

سابوا لنا الشمس نتمتع بأنوارها

ونتدفى في عز النار على نارها

ما دام “الباشا” بيصيف ومتهني

ضروري- حتى لو مات لك ولد – غني

حكومة الوفد في المصيف تنوب عنا

حا نزعل ليه ما دام لنا الجنة ؟

أبو بثينة

وظل ينظم أشعاره التي تصف أحوال المصريين ، وكتب مقطوعة زجلية أخرى بعنوان “حالنا ” اشتكى فيها الذل الذي يعانيه المصريين تحت وطأة الاحتلال  وتعيين المحتل  الخبراء الأجانب داخل كل مرافق الدولة بهدف السيطرة عليها فكتب هذه الكلمات مخاطباً المصريين “

حال البلد دي انقلب والعقل فيها احتار    راكبنا جن انجليزي مايزيلوش الزار
يا زارع الصبر زود زرعه كام قنطار              يمكن اذا دقت طعمه جسمي يتخدر
وأشوف هوان البلد وأسكت وأطيق النار

بلد مفيش حد  فيه  باكي على حاله           ولا جدع خدمته بتخطر على باله
والفقر من كل ناحية والقرف جاله           مليون خبير أجنبي كابسين على دماغنا
واتغرب السعد فات من خرم غرباله

جزارين الشعب مالكم يا ناس بينا   ساحبين علينا كدة ليه الف سكينة
اللحم كلتوه ما عاد غير عضمنا فينا       والعضم بتمرمشوه مافلش شئ فوقه

ودمنا مصيتوه يارب نجينا

أبو بثينة

عبرت أزجال أبو بثينة عن سوء الأوضاع الاقتصادية في فترة الاحتلال البريطاني وفضحت تواطأ الملك والحكومات المتعاقبة مع المحتل، وظلت أزجاله تحارب سوء الإدارة والفشل في هذه الفترة حيث كتب ذات مرة عن انشغال الوزراء بمعاركهم الخاصة ووصف حكومة الوفد بحكومة “الخناق” ، واعتبرها سبب نكبة مصر، فكتب معلقًا على أزمة حدثت لتعيين وزير جديد داخل الحكومة بين مؤيد ومعارض .
ميت اجتماع؟ على ايه كده يا حكومة ؟      علشان وزير العركة  منصوبة
ده  بده  يخدم  م  المحاسيب    طايفه         وده له دلايل والخلافات هايفه
والدنيا  دي  بتضحك   علينا وشايفة          حالنا  المنيل   والبلد مخروبه
والله  رخصنا   في  سعرنا    ونزلنا          وجار علينا  الوقت  و اتبهدلنا
كبشة وظايف في”الضمان” تشغلنا       ومصر بوزارة ” الخناق” منكوبه

أبو بثينة

ولم تسلم الأحزاب السياسية في تلك الفترة من كلمات أبو بثينة ووصفهم بالكذابين في قصيدة زجلية بعنوان كذبة أبريل “

لكل شيء موسمه و لكل حاجة أوان

و الشيء إذا جه أوانه .. في أوانه يبان

البشملة و الجزر و البامية و الرمان

حتى المرض له أوان يعبي فيه و يشيل

الحب له موسمه الله عليك يا ربيع

و الانتخاب له أوان بينغنغ الجرابيع

و كل شيء في أوانه ينتشر و يشيع

و الطرشي في موسمه يطلع من البراميل

و الكذب جه موسمه .. و الكذب ما هو جميل

زي الزجل و الغنا و النحت و التمثيل

و أحزابنا في الكذب فيها نبوغ و باعها طويل

إقرأ أيضا
المغامر محمد وجيه

ياما حا تسمع أونطة يا شباب الجيل

تسمع وعود كاذبة بالجملة م الأحزاب

من العظيم للحقير تلقى الجميع كذاب

و الكذب في الدنيا مرة في السنة بحساب

و أحزابنا دي عندها .. كل الشهور أبريل

أبو بثينة

عبرت أزجال أبو بثينة عن كل مساوئ عهد ما قبل ثورة يوليو ، حيث كانت سيطرة الإقطاعيين والأغنياء على خيرات البلاد، واحدة من ملامح الظلم وغياب العدل في تلك المرحلة وهو ما دفعه لمهاجمتهم في مقطوعة زجلية كتبها بمناسبة تبرع الطلبة بوجبة كل أسبوع من وجباتهم المدرسية لبناء أسطول بحري لمصر، وسخر وقتها أبو بثينة من عدم تبرع الأغنياء والاقطاعيين الذين وصفهم بالغيلان.

يا    حارمين  البلد   لذة      زغاليلو      يالي  لكم  كل طقة  خمسميت  كيلو
والشخص منكم ياكل كل    ما  يجيلو     في كل جمعة التلامذة اتبرعوا بطقة
مساعدة لجل الوطن يبني اساطيله

اجعص جعيص لو  تقول   دا  اكول      كأنه  فار جنبكم أو نملة جنب الغول
واتخن تخين جنبكم يتقال عليه مسلول     كفاية في العمر طقة تضربوا عنها
دي طقة واحدة تأسس للبلد اسطول

وفي 23 يوليو/تموز 1953 وبالتزامن مع العيد الأول للثورة كتب أمير الزجالين محتفيا بتلك المناسبة وبمكتسيات الثورة والتي في مقدمتها التخلص من الملكية والقضاء على الأقطاع:

ادي أول عيد بيجينا نشعر فيه ان أحنا في عيد

والدنيا أهى بتهنينا بعصر سعادة وعهد جديد

ولا كرباج يهوى علينا بشد ولا أحنا الوقتي عبيد

ولا فيش محطوط في ايدينا ولا في رجلينا كلبش حديد

اهي مصر في تتنفس فيه وتهيص وتفوق وتروق

ونعيش في الجو الحلو وأحس بس مانيش مخنوق

لا في رشوة ولا استكراد وفساد ولا هم يا عم فاروق

أبو بثينة

لم تتوقف اسهامات أبو بثينة في الحياة الثقافية  طيلة حياته حيث أسس أول رابطة للزجالين  عام 1931  وعين أول رئيساً لها ، وساهم في السبعينيات في تأسيس أتحاد كتاب مصر ، واستمرت كتاباته حتى توفي في محافظة السويس عام 1979 تاركا خلفه مؤلفات أدبية و شعرية  متنوعة وأبرزها أزجال أبو بثينة   8 أجزاء، تتخللها قصائد بالفصحى، والمختار من أزجال أبو بثينة، وقصائد في كتاب حياة وأعمال شعراء الأدب الساخر.

الكاتب






ما هو انطباعك؟
أحببته
6
أحزنني
0
أعجبني
1
أغضبني
0
هاهاها
0
واااو
0


Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
‫إظهار التعليقات (2)

أكتب تعليقك

Your email address will not be published.







حقوق الملكية والتشغيل © 2022   كافه الحقوق محفوظة
موقع إلكتروني متخصص .. يلقي حجرا في مياه راكدة

error: © غير مسموح , حقوق النشر محفوظة لـ الميزان