عبدالفتاح ضرغام الرجل الذي مات مرتين وعاش للأبد
-
عمرو شاهين
كاتب برونزي له اكثر من 100+ مقال
الغريب أنه حينما أشاهد شخصية عبدالفتاح ضرغام التي صاغها من ذهب وماء أسامة أنور عكاشة في مسلسل زيزينيا أتذكر بشكل تلقائي شخصية طبل تلك الشخصية التي قدمها السيناريست مصطفى ذكري والمخرج أسامة فوزي في فيلم جنة الشياطين، فكلاهما مات مرتين وعاشا للأبد.
الموت الأول
يختلف زيزينيا عن كل مسلسلات عكاشة في بناء الشخصيات، في هذا المسلسل تخلى أسامة أنور عكاشة عن عشقه للشخصيات المثالية، فلكل شخصية نواقصها وعيوبها، ولكن الشخصيات كوم وشخصية عبدالفتاح ضرغام كوم آخر، تلك الشخصية المتأرجحة داخل ذاتها أغلب أوقات ظهوره على الشاشة في الجزء الأول، الشخصية التي كان ظهورها ينبئ بشخصية قوية ومؤثرة في الأحداث، شخصية ذات بعد قوي، فقط لأننا سمعنا صوته قبل أن نراه.
التمهيد لشخصية الولي عبدالفتاح ضرغام بدأ هادئًا بسيطًا وغير متكلف، تمهيد يليق بمدرس إلزامي هجرته زوجته، ولكن أثناء التمهيد يلقي أسامة أنور عكاشة إشارة بسيطة لما سيكون عليه الضرغامي، حينما يقول إنه لم يذهب أو لم يسعى بجديه في البحث عن زوجته وإن ظل طوال الفترة التي قضاها غائبًا عن حواري كرموز والمنشية في رحاب الشيخ إبراهيم الدسوقي يجاوره قرابة الشهر قبل أن يعود للإسكندرية.
وحينما تضع تلك الإشارة بجوار ما ستراه بعد ذلك من تقلبات الشيخ الضرغامي داخل الدراما، تدرك حجم التقوى والصلاح الحقيقي المتأصل داخل الشخصية، فهو يهرب إلى الله من معاناة حبه، وهنا يظهر وجهه الآخر، وهو وجه أكثر طهارة إن شئنا الدقة، فحب عبدالفتاح لعايدة هو الأطهر في كل صراعات الرجال من حولها، هو الركن الأكثر أمنا في حياة عايدة رغم رعبها الشديد منه في البداية والذي غلب فضولها للعبث به ولم يغلب رغبتها في معرفة سره.
كان لابد لعبدالفتاح من صفة بشرية، نقيصة من نواقص النفس البشرية العامرة بالنواقص، تلك النقيصة كان الهدف منها إظهار طهارة وقدسية الضرغامي لا التقليل منها أو نفيها، فاختيار الحب أو الهُيام كنقيصة بشرية اختيار عبقري فحب عبدالفتاح ضرغام منذ البداية حبًا بلا شهوة وهذا هو مربط الفرس في شخصية عبدالفتاح ضرغام أو في تحولاتها، فهو قبل رؤيته لعايدة كان رجلا عاديًا يحب ويشتهي، ولكن عايدة أو حبه لعايدة قاده لتلك النقطة الخفية عنه في نفسه، فأهلكه، وكأن بموته الأول تخلص عبد الفتاح من الجزء الأعظم في أدميته، وبدأ رحلته كولي.
الموت الثاني
الموت الأول كان موتًا بالفعل، فعبدالفتاح بعث من قبره، لو كان المؤلف والمشاهد غير شرق أوسطي، لما تردد المؤلف – في رأيي – في أن يميت الشيخ ثم يحيه، ولكن أسامة أنور عكاشة أوضح الفعل بدلالته لا بصفته كدخول الضرغامي القبر بعد تغسيله وتكفينه، وتطهيره من كل دنس بشري ليبدأ رحلة الدوران في فلك الحيرة التي يدور فيها كافة شخصيات المسلسل بلا استثناء.
فبنظرة متأنية لشخصيات المسلسل كلها ستجدها تقع في فخ الحيرة، وعدم القدرة على الاختيار، يحتار بشر في هويته، وتحتار عايدة فيما تريده، تحتار نعيمة في الوفاء لزوجها البطل وسيرتها ورغبتها كأنثى ومشاعرها ناحية الطوبجي، يحتار عزوز بين حبه للوطن وبين متطلبات الحياة، يحتار خميس في ملكوته، يحتار رفاعي في رغبته في الوصول وحبه، حتى مرشدي يحتار بين الانصياع لزوجته لشغفه بها أو الخلاص منها من أجل مولود ذكر، الكل في فلك الحيرة يسبحون، بما فيهم الضرغامي، ولكن حيرة الضرغامي مختلفة.
الضرغامي هو الدليل، هو ما أطلق عليه أسامه أنور عكاشة لقب الفنار في عنوان الفصل الثاني من زيزينيا، فكما جاء عنوان الفصل الأول يشير بوضوح له “الولي والخواجة” كانت الإشارة في الفصل الثاني واضحة “الليل والفنار” ومعه ستدرك أن الحيرة حملت الجميع لمنطقة كاحلة، بينما الوحيد العائد من حيرته ليهدي الجميع إلى سبيلهم الصحيح هو عبدالفتاح ضرغام، ولكنه مثل الفصل الأول كان لابد له أن يموت ليتحرر الولي في رحلة الحيرة، والفصل الثاني كان لابد له أن يموت مرة أخرى ليتحرر من الحيرة ويبقى الولي الحقيقي.
موت عبدالفتاح ضرغام الثاني لو يكن بنفس دلالة الموت الأول فلم نرى الفعل نفسه على الشاشة ولكنه موت داخلي، يتخلص به عبدالفتاح ضرغام مما تبقى فيه من أدمية، موت يمهد له أسامة أنور عكاشة بظهور عبدالفتاح ضرغام بشكل غامض في الحلم لطفلته ويهديها الخرزة الزرقاء في الحلم لننتقل مباشرة لمشهده وهو يغسل نفسه بماء البحر ويناجي ربه “مستني نورك يا فارق المصباح” ليتحول بعدها عبدالفتاح ضرغام لولي صاحب كرامات، كرامات نراها بالعين على الشاشة، يظهر ويختفي يضيء للأخرين الطريق، بل هو نفسه يكتسب هالة من الضوء نراها، هنا اكتمل التحول الأخير للضرغامي من مدرس الإلزامي إلى الولي الهادي.
الساحر والبهي
بالحديث عن عبدالفتاح ضرغام لا يمكن إغفال شخصين غاية في الأهمية، لتقديم تلك الشخصية بهذه الطريقة المبهرة، الأول بالطبع هو أحمد بدير، بعيدًا كل البعد عن اختيارات أحمد بدير التجارية في المسرح أو السينما، ولكن بدير يمتلك بداخله ممثل نادرًا ما يجود الزمان به، ممثل لم يستخدمه سوى في أدوار معدودة مثل الزيني بركات وعبدالفتاح ضرغام، لذلك فاختيار بدير من قبل أسامة أنور عكاشة وجمال عبدالحميد يضاف إلى رصيدهم من الاختيارات الممتازة للممثلين بل ربما هو اختيارهم الأعظم.
بدير القادر على فهم واستيعاب وتطويع شخصية عبدالفتاح ضرغام بل وإخراج الكوميديا من داخل تلك الشخصية، والبساطة والوضوح والغموض دون أن تفلت منه الشخصية طرفة عين، لدرجة أنه يكون وحده الأفضل بين طاقم ممثلي الجزء الثاني -الأقل فنيًا في رأيي – وأن يعي ما تحول إليه عبدالفتاح، ويقدر على تقديم هذا التحول بنبرات صوته وتعبيرات وجهه وحركه جسده دون أي مبالغة، لدرجة أنك قد لا تدرك ما هي التغيرات التي يحدثها بدير في جسده صوته للتحول بين مراحل الضرغامي ولكنك تدرك تحوله.
تحول بسيط في الصوت ليصبح أعمق، يتوقف بدير عن انحناءه ضهره في المدرس الإلزامي ليفرد قامته في الولي، تختفي لمعة عينيه في الولي بينما تشتغل اللمعة في المدرس، يتفوق بدير على نفسه بالفعل في مشاهد الحيرة، بل إن بدير يتفوق على نفسه في هذه الشخصية، ذلك التفوق الذي يجعلني كلما أتذكره في عقلي أصب عليه غضبي الشديد لأن موهبه بمثل هذه العظمة ليس لأحد الحق في إهدارها حتى وإن كان صاحبها.
الشخص الثاني الذي ساهم وكان له نصيب من أنصبة الأسود في جمال وألق الضرغامي هو عمار الشريعي، بالطبع ومن سواه، دعنا نتخيل أن مشاهد الولي المؤثرة بدون تلك التيمة الموسيقية الفذة التي وضعها الشريعي خصيصا للشخصية، وهنا نحن أمام حدث استثنائي في مسيرة الشريعي كمؤلف موسيقى درامية.
وصفة الاستثنائية ليست بسبب جمال المقطوعة الموسيقية كموسيقى، هي مذهلة بالطبع، ولكن الاستثنائية هنا أن الشريعي تقريبا لم يكرر هذا التكنيك إطلاقًا، مؤلفو الموسيقى الدرامية نوعان، الأول نوع يخلق تيمة واحدة فقط للعمل الفني ككل ويقدم عليها تنويعات بالتوزيعات المختلفة، والثاني لا يخلق تيمة للعمل ويتعامل مع كل مشهد أو كل شخصية على حدة أو يتفاعل مع الأحداث، والشريعي من النوع الأول، ولكنه يتخلى عن هذا التكنيك من أجل عيون الضرغامي
يقرر الشريعي أن يأتي بمقطوعه خارج تيمة موسيقى المسلسل بالكامل، فهي ليست توزيع أو تنويعة على أي جزء من موسيقى المسلسل، الموسيقى جاءت من خارج عالم المسلسل كدليل على أن الولي من خارج هذا العالم ولا ينتمي له، كإشارة مسبقة على ولاية الولي الحقيقية، مستخدما آلات الحضرة والموالد كالصاجات والدفوف والنايات يخلق الشريعي هالة من القدسية والصوفية حول الضرغامي، هالة من دونها لخسرت الشخصية الكثير من بهائها ورونقها.
عبدالفتاح ضرغام أو الشيخ الضرغامي، شخصية من شخصيات قليلة ولدت في تاريخ الدراما المصرية لتظل حية للأبد شخصية كتبت بسحر ومثلت بألق وغلفت ببهاء فكان طبيعي أن تتحول لهوس لدى المتلقي، أن تصبح من شخصياته التي لن ينساها على الإطلاق، فحينما تتذكر زيزينيا ستتذكر الخواجة “بوتشي وبشر عامر” في البداية ولكنك ستتوقف وتشرد كثيرًا بعد ذلك لأن الضرغامي سيحضر إليك بموسيقاه وموكبه ليحتل ما تبقى من تفكيرك.
إقرأ أيضاً
رسالة إلي ولدي .. عن الغش والموت
الكاتب
-
عمرو شاهين
كاتب برونزي له اكثر من 100+ مقال