همتك نعدل الكفة
295   مشاهدة  

عن “أحمد” الذي لم يثر أبدًا مثل جودزيلا

جودزيلا
  • ناقد موسيقي مختص بالموسيقي الشرقية. كتب في العديد من المواقع مثل كسرة والمولد والمنصة وإضاءات

    كاتب فضي له اكثر من 250+ مقال



(1)

أرض رملية رغم وعورتها إلا أنها كانت مسرحًا مباراة كرة قدم بين مجموعة من الجنود، المرمى عبارة عن قالبين من الطوب، شمس يوليو الحارقة تكاد تلامس الرؤوس، كرة أنهكتها الآلاف الركلات من الأرجل حتى صارت مهترئة تطلب العفو والسماح، أربعة عشر شابًا يجرون خلفها دون خطة لعب واضحة هم فقط يبغون اقتناص لحظة بهجة تعينهم على تحمل مشقة الانتقال من الحياة المدنية إلى الحياة العسكرية، المكان : أحد مراكز تدريب الجيش النائية.

عند أحد الهجمات المرتدة يصرخ أحد اللاعبين بكل ما أوتي من قوة أقفل الزاوية يا جودزيلا ينفجر الجميع في الضحك ويصبح “جودزيلا” هو الأسم الحركي لهذا الشاب الذي اضطرته مهارته القليلة أن يقف حارسًا للمرمى.

(2)

أحمد شاب ضخم الجثة عريض المنكبين وبرغم ذلك كان ملامحه هادئة بعض الشئ، عندما يتحدث تبدو عليه علامات التربية الصالحة “إبن ناس كويسين”، يقطن في أحد أحياء الجيزة الراقية، كان يعمل محاسبًا تحت التدريب في أحد الشركات التي يملكها صديق والده حتى يحين موعد تجنيده.

أحمد شخصية مستقيمة انطوائية لا يجيد التعبير عن مشاعره طول الوقت، رغم الضخامة التي يبدو عليها جسده إلا أنه يحمل قلب طفل، لا يهوى المشاكل ولم يدخل في عراك طيلة حياته، عندما صاح فيه أحد المجندين “أقفل الزاوية يا جودزيلا” توقع الجميع أنه سوف يغضب ويثور وينعته باسمه الحركي “سامبو” الذي لقبه به رقيب السرية، لقرب الشبه بينه وبين الممثل “على عبد الرحيم” أحد أفراد عصابة “شمس الزناتي” لكن يبدو أن خوفه من “سامبو” الذي كانت ملامحه تقطر شرًا، جعله يتقبل الأمر بصدر  رحب ويتعامل بشكل هزلي مع الأسم، وفي حلقة مرارة شديدة لأنه يدرك أن الأسم سيظل لعنة تطارده طيلة فترة تجنيده.   

(3)

عندما انقضت فترة مركز التدريب انتقلنا إلي المركز الرئيسي الذي سوف ينقلنا إلى وحداتنا الفرعية، تصادف أن يكون أحمد أو “جودزيلا” ينتمي إلي نفس كتيبتي، كنا نسمع بعض الآراء المتناقضة عن الحياة داخل الكتيبة مابين وردي وسوداوي، لكن ظل الرأي الأكثر شعبية هو أن الالتحاق بأي مكتب أو فرع داخل القيادة أفضل من الذهاب إلى الكتيبة، لذا قررنا أن نبحث عن أي شخص يتوسط لنا لإلحاقنا في قيادة الفرقة بدلًا من الذهاب إليها.

تصادف أن مكاتب الفرقة كانت تعاني من نقص شديد في الجنود، لذا توزعت أغلب الدفعة عليها ما بين مكاتب الشئون المعنوية والأفراد والعمليات، التحقت أنا في مكتب الأمن بناء على توصية من جندي قديم من نفس مدينتي الذي قال لي انت أول مجند يحمل شهادة عليا يلتحق بأمن الفرقة، والتحق “أحمد جودزيلا” في مطبخ ميز الضباط بناء على توصية من أقدم مجند في المطبخ.

(4)

كنت أشاهد “جودزيلا” أسبوعيًا يمر عبر مكتب الأمن وهو يحمل على كتفه أجولة التعيين الجاف “أرز ومكرونة وفول وعدس” وينتقل من المخزن الرئيسي الذي يبعد مسافة كبيرة عن مخزن ميس الضباط، كان يفعل ذلك بصبر وتحمل وأنا أعرف أنه اعتاد العيش في رفاهية، لكن كان لسان حاله “نار ميس الضباط ولا جنة الخدمة الليلية في الكتيبة”

للأسف شاع أسم “جودزيلا” بين كل مجندي الفرقة، كنت أشفق على “أحمد” لأني أعرف أنه لا يطيق أن يناديه أحد بهذا الأسم، لكن الأمور خرجت عن السيطرة ولم يعد بمقدوره منع أحد من ذلك، كنت أصر على مناداته باسمه الحقيقي، وهذا جعلني مقرب منه بعض الشئ، و تدخلت لمنع بعض الجنود من ممارسة بعض السخافات ضده، كنت أصرخ فيه “فكر تغضب ولو لمرة واحدة مثل جودزيلا الحقيقي” تلك المرة كفيلة بأن يهابك الجميع للأبد، كان يتعلل بأنه يبحث عن الخلاص من فترة التجنيد دون إثارة أي مشكلة حتى يعود لعمله مرة أخرى، ويتقدم لخطبة إحدى فتيات العائلة التي منعه خجله من أن يصارحها بحبه. 

(5)

في أواخر أيام التجنيد كان جنود الدفعة يتبادلون العناوين وأرقام الهواتف للتواصل بعد ذلك، كان حظى سيئ أن متأخر عن الدفعة فتم  إضافة شهرين على مدة خدمتي العسكرية، وحتى لا تكون الأمور صعبة على الجندي المتخلف عن الخروج مع دفعته، كان القادة يمنحهم إجازة وقت خروج الدفعة، لذا لم يكن بمقدوري وداع بعض الأصدقاء في تلك المرة التي من الممكن أن تكون الأخيرة.

عندما عدنا إلى الحياة المدنية انشغل الجميع بالتركيز على حياته المستقبلية، صارت فترة التجنيد مجرد ذكريات لا نستدعيها  إلا للضرورة فقط، لكن ظل في الذاكرة بعض الشخصيات ومنهم جودزيلا الذي كنت اتذكره عندما نلعب مباراة كرة قدم أو عندما اشاهد فيلم “أمير الظلام” الفيلم الذي اقتبس منه “سامبو” الإيفيه “أقفل الزاوية يا جودزيلا”.

عن جيلي الذي عشق دي دي ولم يعرف معناها

(6)

إقرأ أيضا
بهاء سلطان

يلعب القدر لعبته ونجتمع مرة أخرى بعد عام عندما تم استدعائنا مرة أخرى، في تلك المرة لم نجتمع في القيادة ولكن داخل الكتيبة التي كنا نخشى الذهاب إليها،قبل أن أذهب حاولت استحضار بعض الأسماء التى أتمنى أن أراها مجددًا ومنهم بالطبع “أحمد جودزيلا”.

شاهدت أحمد مرة أخرى مستندًا على عامود احدى الخيام، بدا لي أنحف قليلًا ولازالت علامات الثراء بادية عليه، سلمت عليه بحرارة شديدة رأيت في يده اليمنى ما يشير إلي أن هناك مشروع زواج قادم، قلت له “هي” لمعت عيناه بشدة وقال “أيوه هي .. تصور وافقت عليا من أول قعدة معاها”، فرحت كثيرًا أنه خطب الفتاة التي أحبها في صمت.

في فترة التجنيد كانت الأغلبية مشغولة حتى الثمالة، أما في فترة الاستدعاء بدت الأمور ألطف كثيرًا، امتلكنا وقتًا أطول للتسامر والحديث عن أحلامنا وطموحاتنا وما ننوي فعله، بدا لي أحمد واثقًا من نفسه أكثر عندما يتحدث، كنت أستمع إليه باهتمام شديد وكأني أتعرف عليه لأول مرة، لمح انه يفكر في أن يستقيل من عمله كي يفتتح مشروعه الخاص، لكنه اتفق مع خطيبته على تأجيل تلك الخطوة إلي ما بعد الزواج، فرحت أن هناك تفاهم وانسجام بينهما وأنها تثق فيه وفي قدراته ولم تتعامل مع رقة قلبه على أنها ضعف وخنوع.

(7)

بدأ يتلاشى أسم جودزيلا من على لسان زملاء الدفعة، اكتسب احمد احترام الجميع وعد أحد الأصدقاء بأن يتوسط له كي يلتحق بعمل في أحد الشركات وطلب منه أن يرسل إليه سيرته الذاتية، بدأ يشرح طبيعة عمله وطبيعة مشروعه القادم ثم طلب من الجميع الدعاء بالتوفيق له، ودعى الجميع على فرحه الذي تأجل بسبب فترة الاستدعاء.

قبل نهاية فترة الاستدعاء طلب مني أن نعود سويًا إلي القاهرة حيث يقطن هو والتي ستكون أقرب إلى مدينتي، طوال طريق العودة كان كثير المزاح كثير الحماس امتلك ثقة وطاقة لم أراها من قبل، عندما وصلنا إلي القاهرة أوقف سيارة أجرة وسلم علي بحرارة قبل أن أصعد سلم مترو محطة المرج، قال لي “أوعى تنساني يا عطية” قلت “عمري ما أنساك ولاأنسى دفعتى أبدًا يا أحمد “قالي جودزيلا أنا أسمي جودزيلا” .  

الكاتب

  • جودزيلا محمد عطية

    ناقد موسيقي مختص بالموسيقي الشرقية. كتب في العديد من المواقع مثل كسرة والمولد والمنصة وإضاءات

    كاتب فضي له اكثر من 250+ مقال






ما هو انطباعك؟
أحببته
5
أحزنني
0
أعجبني
3
أغضبني
0
هاهاها
0
واااو
2


Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
‫إظهار التعليقات (2)

أكتب تعليقك

Your email address will not be published.







حقوق الملكية والتشغيل © 2022   كافه الحقوق محفوظة
موقع إلكتروني متخصص .. يلقي حجرا في مياه راكدة

error: © غير مسموح , حقوق النشر محفوظة لـ الميزان