عن كتاب رتيبة الحفني والشائعات..قصة الموسيقار محمد القصبجي
-
أحمد كريم
كاتب برونزي له اكثر من 100+ مقال
أهلا بكم أعزائي القراء في الحلقة الثامنة والعشرين من قصة الموسيقار الكبير نحيل الجسد قوي الفكر، المرحوم محمد علي القصبجي، ولازلنا نتحدث عن سلسلة التزوير التي أصابت سيرة ذلك الموسيقار الفذ، بين تفسيرات خاطئة مبنية على اجتهادات لا تستند لحقائق، وبين وضع لا يقوم على حقائق من الأساس، وقد انتهينا في الحلقة السابقة من الحديث عن أحد المحاور التي بني على أساسها نقد كتاب الدكتورة رتيبة الحفني “محمد القصبجي الموسيقي العاشق”، واليوم ننتقل للحديث عن ثاني هذه المحاور ألا وهو الفكرة الجاهزة.
محور الفكرة الجاهزة كأحد الأسس التي قام عليها نقد كتاب الدكتورة رتيبة الحفني:
وتتكشف معالم هذا المحور الهام بوضوح إذا ما دققنا النظر في الفصل الرابع من كتاب الدكتورة رتيبة الحفني الذي جاء تحت عنوان “لقاء محمد القصبجي وأم كلثوم”، وفي هذا الفصل تحدثت الدكتورة رتيبة الحفني عن العلاقة الفنية بين المرحوم محمد القصبجي وكوكب الشرق أم كلثوم معتمدة في هذا الحديث اعتمادا كاملا على ما جاء في كتاب المرحوم محمود كامل “محمد القصبجي حياته وأعماله” دون إضافة جديد يذكر، وذلك فيما يتعلق باللقاء الأول بين الكبيرين، واللحن الأول الذي غنته أم كلثوم من ألحان محمد القصبجي وقصة اللحن وتسجيله ” قال إيه حلف مايكلمنيش”.
وعندما انتقلت الدكتورة رتيبة الحفني إلى الحديث عن انقطاع التعاون الفني بين القصبجي وأم كلثوم أطنبت في هذا المقام بطريقة جعلت المسألة تستهلك ثلث الفصل تقريبا، ثم انتقلت للحديث عن المحاولات الفاشلة لإعادة المياة لمجاريها وعودة التعاون بين الكبيرين، وأرجعت الفشل دائما إلى المرحوم محمد القصبجي في تحيز واضح لكوكب الشرق أم كلثوم، ولكن كيف ذلك؟ كيف ترجع الدكتورة رتيبة الحفني فشل تلك المحاولات إلى محمد القصبجي معللة ذلك بمسألة نضوب الفكر، سبق وأن تحدثنا عن تلك المسألة على حرج وناقشنا التساؤل الهام ولكننا لم نجب عليه، القصبجي بالفعل لم يصب بنضوب في فكره أو إلهامه، حتى أنني لا أستطيع أن أقول أن امتناع أم كلثوم عن الغناء له كان سببا في هذا النضوب، نعود إلى الوراء قليلا لنقف عند التساؤل الذي أثرناه من قبل:.
إقرأ أيضًا…
كيف غيرت جريمة مسكن “تايلينول” المميتة شكل الأدوية للأبد؟
هل نضب فكر القصبجي فامتنعت أم كلثوم عن الغناء له، أم أن امتناعها كان سببا للنضوب؟ والحقيقة أن الدكتور فيكتور سحاب قد أثار السؤال ذاته من قبل وأنا وإن كنت متحيزا قليلا لتحليلات الدكتور فيكتور إلا أنني لا أجد ما يدفعني للقول بمسألة النضوب من الأساس، القصبجي لم يتوقف عن العطاء حتى وفاته، بدليل عدم توقفه عن العمل مع مطربات غير أم كلثوم، كذلك فإن تبديل الألحان للنصوص التي كانت بحوزة المرحوم محمد القصبجي ” للصبر حدود، وسهران لوحدي”، تكشف أن المشكلة في الأساس هي اختيار أم كلثوم، والدليل الأقوى من ذلك أن المرحوم محمد القصبجي كان قد ابتكر مقاماً موسيقياً جديداً أسماه: ما وراء النهرين، وهذا ما يؤكد استمرار بحثه عن غير المألوف والمهجور من المقامات الموسيقية العربية وإعادة تأهيلها عصريا، وهذا بالضبط ما حدث مع لحن “يا ما ناديت” الذي قدمه لأم كلثوم سنة 1936م على مقام الماهور، وهو المقام ذاته الذي أحدث محمد القصبجي ثورته في ميدان قالب المونولوج من خلاله، بتلحين مونولوج “إن كنت أسامح وانسى الأسية” عليه، كذلك لحن الشك يحيي الغرام الذي صاغه على مقام الأثر كرد.
وأخيرا فإن ما نقلته الدكتورة رتيبة الحفني من المرحوم محمود كامل قد نقل في الأصل على علته، فمحمود كامل هو الآخر قد أغفل جانبا هاما من سيرة المرحوم محمد القصبجي ووضع مقارنات ظالمة ليست في محلها ولنا أن نقف ونتسائل، لماذا تقوم المقارنة عند المرحوم محمود كامل بخصوص الحديث عن الأغنية السينمائية على أساس نجاح أعماله مع أسمهان وليلى مراد بالعلامتين البارزتين “إمتى هاتعرف” و “أنا قلبي دليلي”، في حين أنه لم يتسائل عن فشل أو سقوط أم كلثوم في تمثيلها السينمائي وفي غنائها لأوبرا عايدة، وهذا فضلا عما وصفه البعض بجريمة حرقها للفصل الأول لأنه من ألحان المرحوم محمد القصبجي، وغيرتها من تفوق فتحية أحمد حيث شاركتها وإبراهيم حمودة العمل نفسه، وكذلك ما وصفه بعض النقاد “وأن كنت لا أتفق معه” بفشل تعاونها مع فريد غصن، وإهمالها ملحنين مهمين كفريد الأطرش ومحمود الشريف، ولماذا لم يفكر في تزييفها لصورة المرأة العربية، كل تلك المعطيات لم تحظ بأي أهمية لدى المرحوم محمود كامل الذي نقلت عنه الدكتورة رتيبة الحفني، وهو ما أراه من وجهة نظري تجنيا على ذلك الموسيقار الكبير الذي ظلم حيا وميتا.
على أية حال، فبعد أن ذكرت الدكتورة رتيبة الحفني تعليل المرحوم محمود كامل في كتابه بخصوص توقف المرحوم محمد القصبجي عن التلحين لأم كلثوم بعد مونولوج رق الحبيب، ذكرت كذلك تعليل الدكتور فيكتور سحاب الذي اعتمد على دفاع نشر في الصحف من محمد القصبجي حول أهمية ألحانه التي تفوق أعمال السنباطي، والذي ذكرنا من قبل أن المرحوم محمد القصبجي كان قد تراجع عنه، وقد علل الدكتور فيكتور سحاب هذا التراجع بأن تصريح محمد القصبجي كان قد أثار غضب أم كلثوم مما دفعه لإنكاره، والحقيقة أن الدكتور فيكتور سحاب لم يقدم أي دليل لا على هذا ولا ذاك، ورغم ذلك أخذته الدكتورة رتيبة الحفني كما هو.
على أنه من الأمور المضحكة أن هناك رأي شفوي أخذته الدكتورة رتيبة الحفني من الملحن كمال الطويل، وهو من الملحنين الذين يعتبرون المرحوم محمد القصبجي أستاذاً لهم، فقد نقلت عنه مقولة تدعم الفكر الخرافي عند الطويل والحفني بقول الموسيقار محمد القصبجي كما ينسب كمال الطويل إليه: مش عارف يا كمال كل ما أنوي أعمل لحن، ألقى عفاريت بتطلع لي.
وحول هذه النقطة يقول الأستاذ أحمد الواصل:
“أليس لنا ضمن ذهنية الفكر الخرافي أن نكتشف أمراً عز على الدكتورة رتيبة الحفني، بأن أم كلثوم قد وضعت سحرا أسود لمحمد القصبجي ما إن ينوي التلحين لها، وربما كلما مسك العود كما سيدغدغ الكثير ممن يلهجون بهذا التفسير الأحمق، أوليس عبارة مثل هذه تكشف سراً خطيرا عن دهاء خارق عند محمد القصبجي الذي لم ينقطع عن التلحين لأم كلثوم لرفضها ألحانه، بل لامتناعه التلحين لها، وكفه عن اعتبارها مشروعا أساسيا له، ومثل هذه المقولة تفتح باب التكهنات الإيهامية وهي مثار سخرية القصبجي نفسه، وإنما تغذي ذهنية التأليه والتبخير العربية المصرية للرموز الطوطمية التي منها طوطمية أم كلثوم، واعتبارها طوطم استقطاب لكل ما يغذي اليتم الوطني و الحيرة الجنوسية”.
وحتى لا نبتعد عن التمثيل بالمحور الذي نتحدث عنه “الفكرة الجاهزة”، تضيف الدكتورة رتيبة الحفني لتلك التكهنات عن انقطاع التعاون الفني بين المرحوم محمد القصبجي وكوكب الشرق أم كلثوم أو امتناع القصبجي نفسه، “وهذا ما لا يراد الاعتراف به” أن هذا الانقطاع إنما جاء كنتيجة طبيعية لرواسب قديمة تتعلق باهتمام القصبجي بصوت المطربة أسمهان، التي تعتبر منافسة لأم كلثوم في فترة ما، والتي خصها بالكثير من ألحانه، وهذا الرأي هو الآخر مأخوذ من مقالة إلياس سحاب التي تحدثنا عنها في الحلقة السابقة.
وإلى هنا أعزائي القراء نكون قد وصلنا إلى نهاية هذه الحلقة على أن نكمل الحديث في حلقات قادمة إن شاء الله.
دمتم في سعادة وسرور.
الكاتب
-
أحمد كريم
كاتب برونزي له اكثر من 100+ مقال