همتك نعدل الكفة
293   مشاهدة  

قناع الثورة و التمرد ..الصعلكة عند الشعراء المصريين

أمل دنقل
  • مي محمد المرسي صحافية مهتمة بالتحقيقات الإنسانية، عملت بالعديد من المؤسسات الصحافية، من بينهم المصري اليوم، وإعلام دوت أورج ، وموقع المواطن ، وجريدة بلدنا اليوم ، وغيرهم .

    كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال



يعتبر الرمز وحدة من وحدات البناء في القصيدة العربية الحديثة، و من المؤكد في الدراسات الأدبية والنقدية الحديثة إن توظيف الرموز التراثية يُعد تطورًا بنائيًا وظفها الشعراء في قصائدهم ومن بين تلك الرموز ما يسمى بالصعلكة أو برمزية الشعراء الصعاليك.

ولعلّ توظيف رمزية الصعلكة في الأدب العربي يرتبط بالتمرد والثورة على الظلم، والاحتجاج على الواقع الراهن ورفض الواقع العربي من حيث غياب الحريات. وقد اتخذ الشعراء والأدباء هذه التقنية قناع يتسترون به ليعبروا عن واقعهم دون مواجهة بطش السلطة الحاكمة أو المهيمنة، وقبل أن نسرد أبرز الشعراء الصعاليك في أدبنا المصري الحديث لابد أولًا أن نتوقف على مفهوم الصعلكة إلى جانب إشارة تاريخية عنها وعن تطورها.

الصعلكة
جاءت لفظة الصعلكة في لسان العرب لابن منظور بمعنى الفقير الذي لا مال له، و لم تكن الصعلكة حدثًا من الأحداث الطارئة أو العارضة في حياة المجتمع العربي قبل الإسلام، بل هي كما وصفها “عبد الحليم حنفي” في كتابه “شعر الصعاليك خصائصه ومناهجه إنها “ظاهرة نبعت من ظروفه ولازمته كجزء منه، والمتأمل في أخبار الصعاليك وأعرافهم يلفت نظره شعورهم الحاد بالفقر وإحساسهم المرير بواقعه على نفوسهم، وشكواهم من هوان منزلتهم.

واتسع مفهوم الصعلكة في قبل الإسلام تدريجيًا حتى أنه أطلق على جماعة من الفتيان في الجاهلية الذين خلعتهم قبائلهم،و تبرأت منهم لسواد أماتهم أو سواد وجوهم كما في شخصية “عنترة بن شداد العبسي”، ويقول يوسف خليل في كتابه” الشعراء الصعاليك” لمّا رأوا أنفسهم منبوذين نظموا أنفسهم في جماعات و أطلقوا على أنفسهم صعاليك .

وإذا كانت الصعلكة في نشأتها الأولى ترتبط بخروج الفرد على القبيلة والانعزال عنها، فإنه بمرور الوقت صار لهؤلاء الصعاليك بعض الممارسات الاجتماعية البسيطة كإعطاء الفقراء بعض ما يكسبونه من غاراتهم على قرى الأغنياء وقوافلهم، وكانوا يفتخرون بمثل تلك الممارسات في أشعارهم ومن بين هؤلاء الشاعر الصعلوك” عروة بن الورد”، فكانت عنده نزعة إنسانية نبيلة، وضريبة يدفعها الأغنياء للفقراء .

ومع ظهور الدين الإسلامي في المجتمع العربي انزوت ظاهرة الصعلكة ربما لضعف الأسباب القبلية التي كانت مهدًا لظهور تلك الظاهرة، حيث أرسى الإسلام قواعد العدل بين الناس، وكان الشعراء في تلك الفترة قلة لا يتجاوز عددهم الخمسة، ومن بينهم” أبو خراش الهذلي” و “فضاله بن شريك”.

أمّا في العصر الأموي فقد عادت ظاهرة الصعلكة من جديد وتطورت تطورت كبيرًا في تلك المرحلة، وحسب تقسيم “حسن عطوان” فقد شكل الصعاليك أربع فئات يمكن رصدها في التالي:

1- الصعاليق الفقراء: وهم الذين ظهروا نِتاح السياسية الاقتصادية الجائرة التي التزمتها الدولة الأموية مع القبائل، ومنهم الشاعر “مالك بن الريب التميمي”.

2- الصعاليق الخلعاء: وهم من المنحرفين المتمردين الذين خرجوا عن سلوك قبائلهم، ومنهم الشاعر “مسعود بن خرشة التميمي”.

3- الصعاليق الفارون من العدالة: وهم أولئك الصعاليك الذين اعتدوا على غيرهم وقتلوا وسرقوا وأشاعوا الفوضى ومنهم الشاعر” القتال الكلابي”.

4- الصعاليق السياسيين : هم أولئك الذين يأسوا من الصراع السياسي في الدولة الأموية حينها مع غياب العدل الذي أرساه الإسلام ، فقرروا الخروج عليها ساخطين ثائرين، ومن بين شعراء تلك الفئة “عبد الله بن الحجاج الثعالبي”.

وفي العصر العباسي تراجع شكل الصعلكة ومضمونها فقد انحلت الرابطة القبلية وتغيرت البيئة الجغرافية وبات هناك احتكاك قوي مع عناصر أخرى من الشعوب إلى جانب استقرار الصعاليك مع أولادهم وأزواجهم. ولم يكن هناك سوى طبقتين من الشعراء الصعاليق، وهم طبقة اللصوص، وطبقة الفقراء المعزورين البائسين.

بعد عام 1950 مع زيادة اتصال الشعراء العرب بالثقافة الغربية شاع استخدام الرمز وقد تنامت أولا في العراق ولبنان وتأثر بهذه الظاهر بعض الشعراء المصريين خاصة في الشعر الغنائي ومن بينهم “بدر شاكر السياب” و”عبد الوهاب البياتي” و”صلاح عبد الصبور” ، و” أمل دنقل” وغيرهم.

استخدام مفرط

إن استخدام الشعراء المصريين أو العرب عمومًا لظاهرة الرمز كان استخدام مفرط فيقول الشاعر” أحمد عبد المعطي حجازي”:” إن الرمز في الشعر الأوروبي يمكن أن يقال عنه: إنه كان يتجه للهروب من الواقع إلى الغيب، في حين نجد الرمز في الشعر العربي المعاصر نتيجة للثورة على الواقع الفاسد، وكذلك الطموح إلى واقع أمثل، وهذا الفارق ترتب عليها فروق في الوظيفة، فرمز الهروب يمكن أن يقال عنه إنه خلاص فردي يحقق به الشاعر راحته النفسية، أما رمز الثورة على الواقع الفاسد المتخلف فهو رمز النبوءة الذي يحمل الرفض البشري”.

الصعلكة رمزًا في الشعر العربي الحديث
عند توظيف الشعراء المصريين المعاصرين للرمز فقد عادوا تلقائيًا لما هو قديم، ليعالجوا بها مشكلاتهم وواقعهم الفكري، وكما يقول خالد الكركي في كتابه الرموز التراثية العربية في الشعر العربي الحديث :”إن قضية التراث جزء من البحث عن الهوية القومية للأمة، وقد نبه عدد كبير من الباحثين العرب على العلاقة بين وعي الذات العربية، وبين العودة إلى التراث”.

وتعد ظاهرة الصعلكة والصعاليك من أبرز الرموز التراثية التي وظفها الشعراء المعاصرون في شعرهم للتعبير عن رؤاهم، فقد وظّف الشعراء ظاهرة الصعلكة وأسماء شعرائها وحياتهم وأخبارهم، لتصوير ما يريدون من أفكار، مثل توظيف رمزية الشعراء  ك الشنفري، وعروة بن الورد، سيرهم وأشعارهم.

أمل دنقل.. الشاعر الصعلوك

أمل دنقل شاعر مصري ، عرف اليتم مبكرًا فقد توفي أبوه وهو في العاشرة من عمره، مما أثر في نفسيته وأكسبه مسحة حزن غلبت على أشعاره، وفرض عليه رجولة مبكرة قد علّمه الألم والمرارة إياها ،كما نشأ طفلًا انطوائيًا خجولًا، حتى أنه اشتهر بين رفاق الصبا بأنه الشخص الذي لا يعرف الابتسامة.

نشأ ” أمل” في بيت يهتم بالثقافة والأدب، فلم يكن والده مدرسًا عاديًا للغة العربية لكنه كان فقيهًا عالمًا و أديبًا مثقفًا، وفوق كل هذا شاعرًا فريدًا، وقد ترك الوالد أثرًا كبيرًا في نفسية ولده فقد كان بمثابة الأساس القوي الذي بنى عليه ثقافته المدعمة بالطلاع وبموهبته على نظم الشعر.

اكتشف” أمل” موهبته الحقيقية وقدرته على نظم الشعر مبكرًا، ولهذا كانت خطواته مدروسه نحو عالم الشعر، هذا العالم الذي أبدى فيه مواقفه وآراءه في القضايا الوطنية ومستقبل الأمة العربية، وقد حفظة مجلة مدرسة قنا الثانوية في العام الدراسي 1957م/1956 أبياتا ألقاها” أمل”  في قصائده أثناء العدوان الثلاثي في مصر وظهر فيها نزعته الصعلوكية ومنها :

يا معقلًا ذابت على أسواره كل الجنود 

حشد العدو جيوشه بالنار و الدم والحديد

يبغيك نصرًا سائغًا لبغاته يا بور سعيد

ظمئ الحديد وراح ينهل من دم الباغي العنيد

قصص البطولة والكفاح يا بور سعيد

واستمرارًا لتلك الحالة الشعورية التكوينية الأقرب إلى نزعة الصعلكة بمفهومها المتمرد على الواقع والأوضاع الراهنة، كانت قصيدة في بكورة تكوينه إبان انتقاله إلى القاهرة  فيقول شاكيا خيبة أمله في إنجاز ما كان يحلم به  :

كنت لا  أحمل إلا قلما بين ضلوعي

إقرأ أيضا
صوفي حبيب جورجي

كنت لا  أحمل إلا .. قلمي 

في يدي: خمس مرايا 

تعكس الضوء ( الذي يسري إليها في دمي) 

.. طارقًا باب المدينة :

ـ “تفتحوا الباب.. أنا أطلب ظلا “

ـ قبل كلا

وبعد خيبات الأمل التي تعرض لها ” دنقل” في القاهرة انصرف عن التعليم الجامعي في كلية الآداب جامعة القاهرة ، وعمل موظفًا حكوميًا في المحكمة ، وسرعان ما تركها فهي لا تناسب خياله الجامح، فكان يرى أن كتابة الشعر مهنة اجتماعية معارضة فنراه يقول:” للشعر والشاعر وظيفة اجتماعية، يجب أن يؤدياه؛  وهي وظيفة معارضه.

اشتد رفض أمل دنقل للواقع المصري والعربي اللذين عانى منهما المصريون والشعوب العربية، وظهر ها الرفض في أشعاره شيئا فشيئا فقد ارتفع صوته مع الأصوت التي تنذر بالنكسة وتندفع بالتجرة  الشعرية  لتتناول أهم قضايا الإنسان المصري والعربي، ويشكل بناؤها الفني حول محور الرفض لكل ما يمس قيم الإنسان المعاصر فبدا لنا موقفه الرافض للواقع العربي في قصيدته” كلمات سبارتاكوس الأخيرة ” ، وهذه القصيدة تعد مبادرة بالهجوم على ممارسات سلطوية لا يرضاها الشاعر، إذ نراه قد حمل سيفه ودخل المعركة في شجاعة ، ويحاول من خلال كلماته أن يسلط الضوء حلى الواقع حتى يحاول العربي إصلاح هذا الواقع وتحسينه  ومنها:

لا تحلموا بعالمٍ سعيدْ
فخلف كلّ قيصرٍ يموتُ : قيصرٌ جديدْ !
وخلفَ كلّ ثائر يموتُ : أحزان بلا جدوى ..
و دمعة سدى !

كان” أمل” شاعرًا واعيًا بما يدور حوله في المجتمع المصري يرى الأحداث ويرى أفاقًا بعيدة يعجز عن رؤيتها  الآخرون فكان يحلل الأحداث تحليلًا أقرب إلى الواقع  ويصورها في قصائده تصويرًا واضحًا ، ونرى الرفض والتمر والتحليل في أبهى صوره في قصيدته ” لا تصالح” التي كتبها  بعد مفاوضات السلام مع إسرائيل وجاء فيها :

هل يصير دمي بين عينيك ماءً؟
أتنسى ردائي الملطَّخَ بالدماء..
تلبس فوق دمائي ثيابًا مطرَّزَةً بالقصب؟
إنها الحربُ!
قد تثقل القلبَ..
لكن خلفك عار العرب
لا تصالحْ..
ولا تتوخَّ الهرب!

هكذا ظلت قصائد أمل دنقل معبرة عن الواقع عن الرفض عن الثورة الكامنة الذي عجز العاديون عن التعبير عنها، أمل دنقل الشاعر الصعلوك دائم الصدام مع السلطات استجابة لنوازعه الداخلية المتمردة على القيود.

الكاتب

  • الصعلكة مي محمد المرسي

    مي محمد المرسي صحافية مهتمة بالتحقيقات الإنسانية، عملت بالعديد من المؤسسات الصحافية، من بينهم المصري اليوم، وإعلام دوت أورج ، وموقع المواطن ، وجريدة بلدنا اليوم ، وغيرهم .

    كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال






ما هو انطباعك؟
أحببته
1
أحزنني
0
أعجبني
0
أغضبني
0
هاهاها
0
واااو
0


Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
‫إظهار التعليقات (2)

أكتب تعليقك

Your email address will not be published.







حقوق الملكية والتشغيل © 2022   كافه الحقوق محفوظة
موقع إلكتروني متخصص .. يلقي حجرا في مياه راكدة

error: © غير مسموح , حقوق النشر محفوظة لـ الميزان