كرة القدم والسياسة (3).. كأس أولى بثياب متسخ!
أعرف أنك تنتظر منذ أيام لتعرف كيف حقق منتخب إيطاليا كأس العالم لأول مرة، عرفنا في الحلقة السابقة: كرة القدم والسياسة (2).. مين؟ موسوليني!، كيف تأهلت إيطاليا تأهلا ملوثا، وفي السطور اللاحقة سنعرف ماذا جرى في حكاية التتويج بأول مونديال.
سافر ستة فرق من أصل ثلاثة عشر منتخبا شاركوا في مونديال أوروجواي 1930 إلى إيطاليا لخوض منافسات النسخة الثانية، وشاءت الأقدار أن تخرج جميعها من الدور الأول، لتعود إلى بلادها بمرارة الإقصاء إثر مباراة واحدة.
خسرت بلجيكا من ألمانيا بخمسة أهداف لهدفين، ولحقتها فرنسا التي خسرت بثلاثة أهداف مقابل هدفين أمام النمسا، وخسرت رومانيا أمام تشيكوسلوفاكيا بهدفين لهدف، فيما فازت إيطاليا مضيّفة البطولة على الولايات المتحدة بسبعة أهداف مقابل هدف واحد (المباراة التي حضرها موسوليني بعد شراءه تذاكر الحضور)، وهزمت السويد الأرجنتين بثلاثة أهداف لاثنين، وفازت إسبانيا على البرازيل بثلاثية مقابل هدف واحد.
قبل إدجار ديفيدز!
لم يكن لاعب الوسط الهولندي الشهير “إدجار ديفيدز” هو أول من يرتدي نظارات طبية فوق العشب الأخضر كما هو شائع. ففي الدور الأول بمونديال إيطاليا 1934 كان المهاجم السويسري “ليوبولد كيلهولز” حاضرا.
اللاعب الذي لا يزيد طوله على 170 سم لم يكن يشبه بقية اللاعبين، فنظاراته الطبية السميكة التي عكست مدى قصر نظره كانت تميزه عن الجميع. هذا قبل أن تشاهده الجماهير وحشًا فوق أرضية الميدان، فالسويسري قصير النظر أحرز هدفين من ثلاثة أهداف فاز بها فريقه على هولندا التي اكتفت بإحراز هدفين فقط في الـ”سان سيرو”.
بعدها بثلاثة أيام، وهذه المرة في “تورينو”، عاد “كيلهولز” ليسجل من جديد أمام تشيكوسلوفاكيا، لكن فريقه هُزم بثلاثة أهداف لهدفين وودع البطولة.
العمل أهم
“جيورجي ساروسي”، مهاجم المنتخب المجري، فضل متابعة عمله كمحام على اللحاق بأولى مباريات المونديال ضد مصر – فمصالح الموكلين أهم عزيزي القارئ – ورغم إن غيابه هذا لم يمنع المجريين من القسوة على المنتخب المصري برباعية مقابل هدفين؛ لكن أيضا “اللي ييجي على الغلابة مايكسبش” فبعد وصول “ساروسي” ومشاركته في مباراة الدور الثاني وإحرازه هدفًا من ركلة جزاء، يستطيع المنتخب النمساوي الملقب وقتها بالفريق الأعجوبة أن يفوز عليهم بهدفين.
ولتعرف حقًا أن “اللي ييجي على الغلابة مايكسبش” فالمنتخب المجري أضاع ركلتي جزاء في تلك المباراة، قبل أن يسجل “ساروسي” الركلة الثالثة.
في الشوط الأول تعرض المهاجم المجري “استيفان آفار” لإصابة لم يستطع معها مواصلة اللعب، وبقي الفريق منقوصًا فوق أرضية الميدان (لم يكن قانون اللعبة في ذلك الوقت يسمح بأي تبديلات)، وبعد التأخر بهدفين ضغط عليه المدرب للتحامل على إصابته والعودة للمشاركة، وعاد المهاجم للعب بالفعل وأهدر ركلتي جزاء احتسبا لفريقه، ولأن المصائب لا تأتي فرادى.. أكملت المجر المباراة بتسعة لاعبين بعد طرد “إمرا ماركوس” وخروج “آفار” مجددا بعد أن هزمته آلامه.
3X4
في جميع نسخ المونديال كانت إيطاليا هي الدولة الوحيدة التي لعبت ثلاث مباريات في أربعة أيام؛ في 31 مايو تعادل المنتخب الإيطالي مع نظيره الإسباني بهدف لمثله بعد مباراة استمرت 120 دقيقة، وهو أول تعادل في تاريخ المونديال، ولأنه لم تكن ركلات الترجيح قد أقرت في ذلك الوقت؛ عاد المنتخبان كما تنص اللائحة للعب مجددا في اليوم التالي، وفاز المنتخب الإيطالي هذه المرة بهدف سجّله “جوسيبي مياتزا”، قبل أن يخوض الإيطاليون مباراتهم التالية في “ميلانو” بعد يومين أمام النمسا.. ويفوزون بهدف أحرزه الأرجنتيني إنريكي أورسي (تتذكرون قصته من الحلقة السابقة).
سرقة
رحل الإسبان عن المونديال وهم قانعون بأنهم كانوا الأحق بالانتصار على إيطاليا. اللاعبون والقيادات والصحف وصفوا المباراة الأولى التي لعبت بـ”فلورنسا” بأنها كانت “سرقة”، وأدانوا انتهاء المواجهة بتعرض الحارس “ريكاردو ثامورا” لكسر ضلعين بسبب تعرضه للضرب من المهاجم الإيطالي “أنجيلو سكيافو” في اللعبة التي سجل فيها “جيوفاني فيراري” هدف التعادل للأزوري. بل إنهم شجبوا أيضا إلغاء هدف لهم بداعي التسلل الذي لم يروا أنه حقيقي.
“ثامورا” تحدث بعد المباراة: (سرقوا منا المباراة. لقد ارتكبوا مخالفة لتحقيق التعادل وكان الحكم أول من شاهدها، “سكافيو” وجه إلىّ ضربتين هائلتين بكوعه تسببتا في إلقائي داخل المرمى، وهكذا استطاع “فيراري” التسجيل… الحكم كان على وشك إلغاء الهدف لكن حاملي الراية أقنعاه بصحة الهدف!).
الإسبان قالوا أيضا إن اللاعبين الباسكيين “ايسيدورو لانجار” و”اراستي ثيرياكو” لم يتمكنا من خوض لقاء الإعادة بسبب خشونة الطليان والتهاون المذهل من الحكم البلجيكي “لوي بيرت”؛ قبل مباراة الإعادة فقد الإسبان 7 لاعبين من تشكيلتهم الأساسية وفقد الإيطاليون أربعة لاعبين بسبب الكدمات والرضوض التي حدثت في اللقاء الأول.
الصحف الإسبانية تذمرت من أن حكم مباراة الإعادة “رينيه ميرسيه”، ترك الحبل على الغارب للاعبي إيطاليا ليلعبوا بخشونة كما يحلوا لهم، حتى أن الإسبان لعبوا الشوط الثاني منقوصين بعد إصابة “كريسانتو بوسش” والحارس الاحتياطي “خوان نوجيس”.
مُصادرة وزفاف!
صعد المنتخب الإيطالي للمباراة النهائية وانتظر الفائز من مواجهة ألمانيا وتشيكوسلوفاكيا للنزال من أجل اللقب.
بعد فوز الألمان على السويد بثلاثة أهداف لهدف، بدأ الحظ السيء في مطاردتهم، فنجم الفريق وصانع الألعاب “رودولف جراملييتش” اضطر لترك الفريق والعودة إلى فرانكفورت؛ بعد علمه أن السلطات النازية صادرت مصنع الأحذية الذي يعمل دبّاغا به لأن أصحابه من اليهود.
“جراميليتش” كان يريد مساعدة أرباب عمله بما له من سمعة حسنة في بلاده فهو نجم المنتخب. لكن مساعيه لم تنجح. نجوميته لم تساعده في تحقيق مراده، لكن عرقه الآري حماه من المصير المأسوي الذي واجهه رؤساؤه، فبقى عاطلا لفترة، ثم منحته دماؤه عملا جديدا في صفوف الجهاز العسكري لحزب العمال القومي الاشتراكي، وهكذا تحول من ضحية إلى جلّاد.
في تلك الأثناء خسر الألمان أمام تيشكوسلوفاكيا بثلاثية مقابل هدف واحد، ليضرب الألمان موعدا مع النمسا في لقاء لتحديد صاحب الميدالية البرونزية.
مدرب الفريق “أوتو نيرز” واجه أزمة قبل تلك المباراة، فقائمته المكونة من 18 لاعبا، فقدت ثمانية منهم بفعل الرحيل والإصابات، وهكذا قرر استدعاء “رينهولد موزنبرج” نجم الدفاع تلغرافيا للحاق بالفريق في نابولي، لكن “رينهولد” ما إن تلقى الرسالة حتى سارع بالاتصال بمساعد المدرب “جوزيف هيربيرجر” للاعتذار لأن يوم المباراة هو موعد زفافه، فما كان من الأخير إلا أن استخدم عبارة واحدة نجحت في إقناع “موزنبرج”: (الزفاف يمكن تأجيله على عكس المونديال).. وبالفعل استجاب المدافع الألماني ولحق بالفريق وقاده للانتصار على النمسا بثلاثة أهداف لهدفين وتحقيق الميدالية البرونزية.
تحدي موسوليني
إذا وصلت إلى هذه السطور عزيزي القارئ، فأنت الآن على موعد مع المباراة النهائية لمونديال إيطاليا 1934 التي تجمع أصحاب الأرض بمنتخب تشيكوسلوفاكيا.
انتهى الشوط الأول بالتعادل السلبي، لكن موسوليني “الديمقراطي الطيب” كما تعرفون، انتفض وتوجه إلى غرفة خلع الملابس، وهناك حذر لاعب منتخب بلاده “لويس مونتي” (صاحب الجنسية الأرجنتينية) من اللعب بخشونة، بعد أن أوسع الأخير منافسيه ضربا، وحذره أن حكم المباراة الطيب “أكليندا كان” (يتعاون) من أجل مسعاه ورحمه بعدم احتساب ركلة جزاء ضده بعد ضربه “أولدريتش يييدلي” داخل منطقة الجزاء، فعليه ألا يعقد مهمة الحكم بارتكاب أخطاء (يصعب تغطيتها).
الـ”دوتشي” عاد بعدها إلى مقعده بالمدرجات ليستمتع بانتصار إيطاليا بهدفين لهدف وتحقيق أول كأس عالم في تاريخها، وكذلك بالسلوك المثالي الذي لعبت به البطولة.
تهديد ونجاة!
قبل أيام من انطلاق البطولة، اجتمع موسوليني بمدرب الفريق لتحذيره: (أنت المسؤول الأول عن النجاح، لكن ليكن الرب بعونك إن انتهى الأمر بفشلك).
الـ”دوتشي” لم يكتف بتهديد المدرب بل إنه جمع اللاعبين لمأدبة غداء بغرض “تعزيز الصداقة”، وهناك حذرهم وهو يمرر إبهامه بعرض عنقه: (إما الفوز وإما الصمت التام).
لم يكن كأس العالم بالنسبة إلى موسوليني مجرد منافسة رياضية، بل كان فرصة لا تتكرر لإظهار القوة الفاشية للعالم أجمع. ومن أجل ذلك كان يجب أن تدار كل الأمور لتحقيق الهدف، حتى أن الفريق ضم أربعة لاعبين أرجنتينيين وآخر برازيلي، وأعيدت تسمية الملاعب على نحو يوافق ذلك المسعى، فملعب روما المعروف حاليا باسم “الأولمبيكو” سُميّ وقتها “ملعب الحزب الوطني الفاشي”.
كانت الأجواء عنيفة بشكل لا يصدق، حتى أن الأرجنتيني “لويس مونتي” تحدث بعد عامين من فوز إيطاليا بالمونديال قائلا: (في مونتيفيديو كنت سأتعرض للقتل لو فزت، وفي روما كنت سأقتل لو خسرت).
ولحسن حظه نجا “مونتي” في المرتين.