كيف استخدم” الغيطاني” أسلوب “ابن إلياس” في روايته” الزيني بركات”
-
مي محمد المرسي
مي محمد المرسي صحافية مهتمة بالتحقيقات الإنسانية، عملت بالعديد من المؤسسات الصحافية، من بينهم المصري اليوم، وإعلام دوت أورج ، وموقع المواطن ، وجريدة بلدنا اليوم ، وغيرهم .
كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال
إنّ المتابع لأحوال الستينيات والسبعينيات يلاحظ إن الحياة السياسية والاجتماعية قد شهدت حالة من التربص المشين للمبدعين المثقفين والسياسيين المصلحين، من حيث المطاردة القاسية التي أدت إلى تدني التفكير المطلق وإلغاء العقلانية بل وإلغاء الحوار، وبالتالي شهدنا ظهور الحركات المتطرفة التي كفرت الشعب و حجبت الرؤية الجمالية التي امتاز بها المصريون.
ولم تكن الرواية كجنس أدبي بمعزل عن هذا التحول في بنية المجتمع، ولا بمعزل عن ظواهر القمع والسياسات المتبعة وما أحدثته من تشوهات و ندوب على كافة المستويات في البنى الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية، لكنها أفرزت على أي حال جيلًا من الأدباء والمثقفين واجهوا السلطة ببسالة حتى ولو شوهت دواخلهم و سلامهم النفسي و الوجداني إثر عمليات الاعتقالات المتكررة.
رؤية جمال الغيطاني في روايته الزيني بركات
ولعل الروائي صاحب الرؤية الماركسية “جمال الغيطاني” واحدًا من هؤلاء الذين تأثروا بالظروف الاجتماعية والسياسية والاقتصادية المحيطة في فترة الستينيات، فاتخذ من الموروث المصري والعربي شكلًا لمواجهة السلطة وسرد الواقع الذي يمر به الوطن في تلك الفترة ونرى ذلك في روايتها الشهيرة التي هي من عيون أدب الستينيات .
قمه الحريات
رواية” الزيني بركات” للروائي “جمال الغيطاني” من الروايات التي رصدت ظاهرة القمع للحرية، كما رصدت كيفية زج المواطنون في السجون والمعتقلات دون محاكمات عادلة تقتضي الحدود اللازمة لاحترام الإنسان.
في هذه الرواية استخدم ” الغيطاني” توظيف الرمز و الارتداد الزماني إلى عصر الفاطميين لا سيما فترة حكم “الحاكم بأمر الله” كونها فترة مليئة بالقمع وسلب حرية المصريين، كما وظف الغيطاني أسلوب “ابن إلياس” في رصد الاضطرابات السياسية كونه شاهد على فترة حكمين مختلفين لمصر فاعتمد على سرد التاريخ بشكل أدبي.
ولمّا كان “ابن إلياس” ، شاهدًا ومؤرخًا وأديبًا موضوعيا لجيلين مختلفين من حكم مصر وهما؛ أواخر دولة المماليك وأوائل العصر العثماني، كان ” الغيطاني” هو ذاك الرجل الموضوعي الصادق في تأريخه الموضوعي والأدبي لفترة الستينيات فكتب كما كتب” ابن إلياس” وبنفس طريقته التي تعتمد على كتابة المراسيم والرسائل السياسية التي ترصد أزمة الحريات وقهر الإنسان تحت وطأة جهاز المخابرات متمثلا في عمله الادبي بأنظمة البصاصين التي كانت ترهب القلوب ما إن طالبوا بحقوقهم.
البصاصين ودورهم في توطيد الحكم
جهاز البصاصين استخدمه الغيطاني كدعامة أساسية من دعائم تثبيت حكم الدولة أو لنقل تثبيت حكم السلطة الحاكمة، وفي الوقت التي تفتخر به الدولة بذلك الجهاز نرى “الغيطاني” يفضح فساده و الرشاوى بين عاملين والقسوة المفرطة وخير مثال على ذلك هي شخصية “زكريا بن راضي” فجاء في الرواية:
زكريا بن راضي عليه سخط الله وغضبه بالبحث عن طرق جديدة ، لإنطاق الضحايا والمساجين ، أساليب لا يحلم بها إنسان.
– قال “عمرو” إنه قبض على امرأة حامل ، فقيرة لا ظهر لها ، ضربها بين يديه بالمقارع ، أحرق أطرافها بالقطران حتى رمت ما في رحمها ولداً ذكراً في ستة شهور ..”
وحول هذه الشخصية تقول “سامية أسعد” في مقال تحت عنوان “عندما يكتب الروائي التاريخي”: ” فكبير البصاصين “زكريا” بن راضي ، هو الشخصية الثانية بعد * الزيني” من حيث الأثر التخريبي الذي يجسدانه من خلال فضح أسرار الخلق ، وعدم التورع عن إلحاق صنوف الأذى والتعذيب بفئات المعارضين لشخصيهما، باعتبارهما فردين عاديين ومسئولين عن الأمن السياسي والاجتماعي في السلطنة في الآن نفسه.
وتضيف:” وهما بالانطلاق من هذا الدور يعبران بكل وضوح عن نزعة سلطوية طالما تحكمت في مصائر البشر ، لا في حدود زمن الرواية فحسب ، ولكن خلال الأزمنة ، وعلى مستوى إنساني عام ، هي تلك النزعة التى طالما كانت العلة والأساس في ” مأساة الإنسان المقهور ، المغلوب على أمره ، المهان في روحه وجسده ، الذي تتحكم في حياته ، وقوت يومه قوى الظلم والطغيان”.
بين المطرقة والسندنان
ولمعرفة حقيقة الأشياء وتأمين السلطة كما يدعى “زكريا” نراه يتجسس على المقربين من السلطان، وكما جاء في أحداث الرواية أنه” وكان فتى جميلا يعشقه السلطان فاراد ” زكريا بن راضي ” أن يعرف سر هذه العلاقة بينهما ليعرف إذا ما كان السلطان يهوى الغلمان ، ألقى القبض عليه. وخلال جلسات الحوار معه استمع إلى وصف البلاد و لهجات الشعوب والقبائل ، الثغر العذب ينشد الشعر و أعذبه .
خلاصة الحكم و المقولات و العظات استمر “زكريا” على هذا الحال ثلاثة أشهر ولا يصل إلى حقيقة ما أراد معرفته عما بين شعبان والسلطان فلما ضاق به الأمر ” نزل إلى القبو ، أوثق الغلام ، عزاه ، قبله فى شفتيه، رأى انسحاب الدم من الوجه المليح من أذنيه ، تحسس العنق الناعم الأملس ، زام شعبان ، وعض يد “زكريا” ، طرحه أرضاً ، أفسد الأرض البكر ..
بعد ثلاثة أيام نزل القبو ، رأى وجها بدلته قسوة تقاس بعشرات الأعوام فى البدء ظن أن الغلام أبدل . أين ملاحة الوجه ، روقان أول العمر ، ناداه ، لم يجب “شعبان ، لم يفه حرفاً ، زال زهاء الشباب انكسر غصن الوردة … للأسف يقرر خنق شعبان ودفنه” حياً ، بنفسه راقب الخنق .
هكذا يتشوه الإنسان ويسقط على أيدى البصاصين “المخابرات” ، هذا نموذج من المصير المرعب الذي تعيشه الضحايا حتى وطأة القمع السياسي و الاستبداد الأمني في معاملة الأبرياء من عامة الشعبي. في رواية الزيني بركات كان هناك عالمًا من المثالية التي سرعان ما تحولت التناقضات عدة بين أناس شديدة الثراء وبين من هم في فقر مدقع، بين الضرائب الباهظة التي تفرضها الدولة وبين من احتكر الحاصلات وهم قلائل أو لنقل متمثلة في شخصية الزيني الذي هو في الواقع ” جمال عبد الناصر” الذي ضرب الإقطاع و استأثر بالسلطة لنفسه ، أراد الغيطاني أن يعيش أفراد روايته تحت وطأة المطرقة والسندان .
الكاتب
-
مي محمد المرسي
مي محمد المرسي صحافية مهتمة بالتحقيقات الإنسانية، عملت بالعديد من المؤسسات الصحافية، من بينهم المصري اليوم، وإعلام دوت أورج ، وموقع المواطن ، وجريدة بلدنا اليوم ، وغيرهم .
كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال