سناء جميل .. محطات من المأساة إلى الخلود

مأساة، إذا كنت تبحث عن مسمى لما ما مرت به سناء جميل في حياتها قبل أن تدخل مجال التمثيل، فهذا المصطلح كافي ووافي وشافي، ولكن إذا كانوا يقولون إنه من رحم المأساة تولد العبقرية، فسناء جميل استطاعت ان تختار الخلود من رحم المأساة التي عاشتها، لتظل سناء جميل واحدة من قليلات لما يمروا مرور الكرام على شاشة السينما، لتتجاوز سيرتها ومسيرتها مجرد لقب ممثلة جيدة لتتحول إلى أسطورة فنية خالدة.

البحث عن موطئ قدم

لن أتحدث عن حياة سناء جميل الشخصية وما مرت به في صباها أو كيف أصبح ممثلة، فتلك تفاصيل تناولها الكثيرين من الكتاب، فقط في هذا المقال أحاول تتبع مسيرة فنية نادرا ما تجد بها اختيار غير ملائم او غير مناسب، مسيرة فنية أرادت صاحبتها دائما أن يكون كل دور تقدمه على شاشة السينما هو إ ضافة لها، وأن يكون سطرا جديدا في أسطورتها الخاصة.

منذ بدايتها، او لنقل ظهورها السينمائي الأول في فيلم طيش الشباب عام 1951، قضت سناء جميل الفترة من عام 1951 حتى عام 1960 في تثبيت اقدامها في الساحة الفنية، تحاول أن تحقق تلك المعادلة الصعبة للغاية، وهي التواجد على الساحة الفنية والقيام بأدوار ذات قيمة فنية، ولكن الحق يقال في تلك الفترة تكون اختيارات أي فنان ليست كما يريد ويتمنى فالتواجد مطلوب وربما يأتي في المرتبة الأولى قبل القيمة الفنية.

 ولكن نوعا ما اختيارات سناء جميل كانت جيدة بالنسبة لأدوارها وإن لم تكن كل الأعمال التي شاركت فيها في تلك الفترة ذات قيمة فنية عالية، على سبيل المثال يمكننا النظر لأفلام مثل حرام عليك وكدت أهدم بيتي وشياطين الجو على كونها أفلام وادوار قدمت للتواجد على الساحة فحتى سناء جميل لم تكون تلك الموهبة التي عرفنها بعد ذلك، ربما مساحة الدور نفسه وتركيبته كانت أحد الأسباب، فلا دور واحد من تلك الأدوار كان يستطيع استيعاب تلك الطاقة الفنية الجبارة، ولكن الخطوة لم تتأخر كثيرا.

صلاح أبو سيف كلاكيت أول مرة

صلاح أبو سيف، ربما يدين العديد عن لم يكن كل السينمائيين المصريين والعرب في الكثير من الأحيان إلى صلاح أبو سيف، فهو مكتشف مواهب من الطراز الأول ولكن الأهم انه مخرج يجيد إعادة اكتشاف الممثل، فأن يختار صلاح أبو سيف سناء جميل في دور نفيسة بعدما رفضته فاتن حمامة، فالأمر مراهنة كبيرة، على اسم ربما لم يحصد النجومية بعد ولم يعرفه الناس في الشارع مقارنة باسم فاتن حمامة.

ولكن الجماهير كانت تعرف باقي الأسماء في الفيلم مثل فريد شوقي وعمر الشريف، فالجماهير هنا لم تسبب ازمة لأبو سيف، ولكن السؤال كيف خمن أو توقع صلاح أبو سيف أن سناء جميل ستؤدي هذا الدور بالكفاءة التي يريدها؟ خاصة وأن الدور من الأدوار المعقدة والمركبة والصعبة ويحتاج بالفعل لممثلة ذات موهبة من طراز خاص، تلك هي ميزة أبو سيف في رأيي قدرته على رؤية موهبة الممثل الذي يختاره.

نفيسة في بداية ونهاية هي المحطة الحقيقة الأولى في مسيرة سناء جميل، توقف قليلا أما الدور، فتاة ليست جميلة أو فاتنه، تسقط باسم الحب مع واحد من طبقتها، لتحترف البغاء لتعيل اسرتها، لتتحول بحق إلى الحجر الذي يدوسه الجميع للوصول إلى هدفهم وأولهم حسنين شقيقها الذي قتلها، صعوبة الدور أن بالفعل نفيسة تهتم بالجميع ولا أحد يهتم بها على الإطلاق، لا أحد حتى والدتها، الجميع يهتم بالدعم المادي التي تقدمه للأسرة التي سقطت، فكانت الأزمة كيف يمكن للمشاهد أن يرى نفيسة ويتعاطف معها ويشعر بمعانتها، وأن يرى أيضا أنها مهملة من الجميع، كيف يمكن للمثلة أن تقدم دور فتاة ليل وتجعل المشاهد يتعاطف معها؟ الإجابة قدمتها سناء جميل في محطتها الأولى.

ولأنها قدمت نفسها بهذا الشكل كانت المرحلة التالية خالية من العمل السينمائي المكثف كما كان سابقا، سناء جميل أصبح أكثر انتقائية لأدوارها، فهي لم تعد في حاجة لإثبات وجودها سينمائيا فيكفيها بداية ونهاية، وكان التعويض لذلك الغياب السينمائي هو العمل في المسرح والإذاعة.

في تلك الفترة، أو السبع سنوات التي كان إنتاجها السينمائي قليل، كانت ترسي دعائمها في المسرح بالعديد من المسرحيات ربما أهمها وأبرزها مسرحية زهرة الصبار، وقبل أن تأتي محطتها السينمائية التالية كانت قد دخلت عالم يوسف شاهين للمرة الثانية، لم يكن دورها في سيدة القطار بنفس مساحة وقيمة دورها في فجر يوم جديد، والغريب أن تجربة سناء جميل ويوسف شاهين لم تستمر، ربما لم تأتلف سناء مع طريقة عمل يوسف شاهين.

المحطة الثانية والزوجة الثانية وصلاح أبو سيف مرة ثانية

تشاء الصدفة أو بما هي تدابير قدرية أن تكون المحطة الثانية لسناء جميل على يد صلاح أبو سيف أيضا في فيلم الزوجة الثانية، كان صلاح أبوسيف بالطبع أدرك تلك القدرة الاستثنائية على التنوع والتلون في موهبة سناء جميل، فأبنة المدارس الأجنبية قدمت نفيسة فما المانع من أن تقدم حفيظة؟

إقرأ أيضا

فوز الفيلم الوثائقي المحلة منين يا سمنودي بالمركز الأول في مهرجان الإبداع العربي

صراع ثلاثي قوي، معركة تمثيلية، هذا هو المصطلح الوحيد الذي يمكن أن يوصف به فيلم الزوجة الثانية، مواهب فنية مثل صلاح منصور وسناء جميل وسعاد حسني وحسن البارودي وسهير المرشدي وعبدالمنعم إبراهيم وربما يأتي شكري سرحان على استحياء لينضم إليهم، كل هؤلاء وغيرهم في عمل فني واحد، عمل تجمع أغلب كادراته الثلاثي صلاح وسناء وسعاد، ليتحول الاستوديو إلى ساحة حرب حقيقية بين الثلاثي، لتثبت سناء أن ما حدث في بداية ونهاية لم يكن مجرد صدفة عابرة وأنها استثناء كبير نادرا ما يجود الزمان بمثله.

من السينما إلى التلفزيون

بعد الزوجة الثانية، دخلت سناء جميل مرحلة عمرية ربما كانت هي البراح التي تطمح فيه، وهي مرحلة الأم ولكنها لم تتخلى عن انتقائيتها المعهودة، لتزداد الأدوار وتزداد السطور التي تكتب في اسطورتها، ورغم أن السينما المصري دخلت إلى منحدر سيء، إلا ان سناء جميل ستجدها قد وجدت من الأدوار ما يعزز مكانتها مثل أدوارها في أفلام توحيدة والخرتيت والشوارع الخلفية وكل دور من هذه الأدوار يعد محطة مهمة ولكن أبرزهم في رأيي دورها في فيلم المجهول.

وكأنها تلمع في تلك الأدوار القاسية المعقدة المرهقة لأي ممثل، دور الام التي تدير فندقا تقتل فيه زبائنه وتسرقهم وتعيش من تلك الفعلة لسنوات وسنوات انتقاما من حرمانها من ابنها الذي غاب عنها، دور تلك السيدة القاسية التي تغلغلت فيها القسوة حتى انها أصبحت قاسية على ابنتها الوحيدة، ولا تفيق إلا حينما تقتل ابنها الغائب عن طريق الخطأ، دور لا يمكن الحديث ولكن من الأفضل مشاهدته.

مع تغيرات السينما المصرية ورغبة سناء جميل في انتقائيتها فستجد ان عدد الأفلام التي قدمتها سناء جميل يتناقص بينما يزداد عدد مسلسلات التلفزيون، وقد يرى البعض أن الأمر كان سيئا ولكن الحقيقة أنه كان هاما في مسيرة سناء جميل، فالشاشة الصغيرة وفرت لسناء جميل مساحة لم ولن توفرها السينما لموهبتها، من الشاشة الصغيرة عرفنا فضة المعداوي في الراية البيضا وسلوى في ساكن قصادي و حسنية في خالتي صفية والدير وسنية خربوش في سور مجرى العيون وغيرها من الشخصيات التي كانت كل شخصية فيها سطر في أسطورة تنسجها سناء جميل بصبر شديد في عقول وقلوب المشاهدين.